كان لأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر آثار كبيرة على الاقتصاد الأميركي خصوصاً والدولي عموماً، ومن تداعيات هذه الأحداث أن السياسة الأميركية الخارجية أخذت تنظر إلى المشاكل في العالم من خلال عدسة "الحرب ضد الإرهاب"، وأدت سياسة "إما معنا أو ضدنا" الى تعميق الفجوة بين الولاياتالمتحدة وباقي دول العالم خصوصاً العالم العربي والإسلامي. وشهدت السياسات الأميركية المتعلقة بالشرق الأوسط تحولاً حاداً لصالح إسرائيل. وأثبت الاقتصاد الأميركي قدرته على التكيف مع الأزمة، وعلى رغم أضرار قُدرت باكثر من 120 بليون دولار استعادت الولاياتالمتحدة العافية الاقتصادية تدريجاً. وكان التعامل في سوق الأسهم والسندات المالية توقف عن العمل في سوق نيويورك اربعة أيام متتالية بعد الهجمات وسجلت أسعار الأسهم أكبر تراجع يومي في تاريخها بلغ 681 نقطة أو 7.1 في المئة عندما استأنفت البورصة التداول في 17 أيلول. كما أن صناعة السياحة والطيران تأثرت بشدة بسبب تراجع السفر بعد الهجمات وهذا الأثر لم ينته بعد. وتعرض قطاع التأمين لأقوى صفعة في تاريخه بخسائر قُدرت بما بين 30 و60 بليون دولار، ما دفع أقساط التأمين إلى الارتفاع في عدد من المجالات مثل التأمين على الشركات وجعل بعض المباني لا يمكن التأمين عليها ضد الهجمات الإرهابية. إن أي تفحص لآثار هجمات 11 أيلول على الاقتصاد الأميركي يصبح أكثر تعقيداً بسبب الأحداث التي تزامنت معها. وكان هذا الاقتصاد دخل حالة ركود في آذار مارس 2001، وسجلت الفصول الثلاثة الأولى من عام 2001 نمواً سلبياً في حدود 1.6 في المئة في الفصل الثاني و3 في المئة في الفصل الثالث، غير أن هذا النمو عاد ليصبح إيجابياً في الفصل الأخير من العام الماضي والنصف الأول من السنة الجارية. ولمواجهة التباطؤ الاقتصادي، قامت البنوك المركزية في دول العالم الرئيسية بضخ السيولة في أسواقها المالية، إذ خفض المركزي الأميركي الفائدة على الودائع قصيرة الأجل بين المصارف إلى 1.75 في المئة وهذا أدنى معدل لها منذ 40 عاماً، كذلك خفضت البنوك المركزية الرئيسية الأخرى في العالم معدلات الفوائد المحلية. على أن أسعار الفائدة الحقيقية أي سعر الفائدة على الودائع مطروحاً منه نسبة التضخم لا تزال موجبة على ودائع الدولار واليورو، ما يشير الى انه لا يزال هناك مجال لمزيد من خفض أسعار الفائدة في العالم. كذلك تراجعت أسعار الفوائد المحلية في معظم الدول العربية لتجاري تراجع أسعار الفائدة في الاسواق الدولية. غير أن ارتفاع درجة المخاطر المرتبطة بعوامل عدم الاستقرار شجع عدداً من الحكومات في مختلف أرجاء العالم على زيادة الانفاق على الدفاع الذي كان تراجع منذ انتهاء الحرب الباردة. وأدت التهديدات الأميركية للعراق إلى ارتفاع أسعار النفط في الأسابيع القليلة الماضية، وإذا ما تحقق مثل هذا الهجوم، فإن أسعار النفط قد تشهد المزيد من الارتفاع خلال فترة الحرب ما يوجه ضربة مؤثرة للصناعات المعتمدة على الطاقة. وإذا ما نجحت الولاياتالمتحدة في تغيير نظام الحكم في العراق فقد تتغير الخريطة السياسية للمنطقة ككل وتعود أسعار النفط إلى مستويات أقل من 18 دولاراً للبرميل مقارنة مع 27 دولاراً للبرميل حالياً. وكان قطاع الطيران والسياحة الأكثر تضرراً من الأحداث، وتشير الأرقام إلى أن السفر جواً تراجع بنسبة 15 في المئة منذ 11 ايلول الماضي، وقامت شركات طيران كبيرة عدة في العالم بإلغاء بعض الخطوط وتقليص عدد الرحلات لديها. وسجل عام 2001 تراجعاً في عدد السياح بلغت نسبته 0.6 في المئة، أي نحو خمسة ملايين سائح أقل من عام 2000، الذي كان سجل زيادة ضخمة بلغت نسبتها 7 في المئة، أي ما يوازي 45 مليون سائح إضافي. وكانت المناطق التي تضررت أكثر من غيرها هي آسيا الجنوبية تراجع بنسبة 24 في المئة والأميركتان تراجع 20 في المئة والشرق الأوسط 11 في المئة. وإذا كان التراجع على المستوى العالمي يبقى بسيطاً لمجمل عام 2001، فإنه على رغم ذلك شكل إشارة لافتة، لأنها المرة الأولى منذ عشرين عاماً التي لا ُيسجل فيها القطاع السياحي في العالم تقدماً. والمعلومات الأولية لسنة 2002 لا توحي بأنها ستكون جيدة حتى بالنسبة إلى بلدان سياحية أساسية مثل فرنسا وإسبانيا واليونان وإفريقيا الشمالية. ومن تداعيات أحداث 11 أيلول تغير اتجاهات الاستثمارات الدولية، وشهد العالم خلال الاثني عشر شهراً الماضية تراجعاً في حجم رؤوس الأموال الدولية المتدفقة لغايات الاستثمار، وكذلك تغيراً في اتجاه المناطق المستهدفة. وكانت الولاياتالمتحدة في مقدم الدول التي خسرت شيئاً من جاذبيتها للاستثمارات العالمية وشهدت أسواقها تراجعاً كبيراً في تدفق الاستثمارات من مختلف أنحاء العالم، في حين سجلت مناطق اليورو وجنوب شرقي آسيا خصوصاً الصين زيادة كبيرة في حجم رؤوس الأموال الراغبة في الاستثمار في هذه الدول. وأعلنت وزارة التجارة الأميركية أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الولاياتالمتحدة انخفضت بنسبة 60.4 في المئة إلى 132.94 بليون دولار عام 2001 من مستواها القياسي الذي تحقق عام 2000 وبلغ 335.63 بليون دولار. وهذا هو أكبر انخفاض سنوي في الاستثمارات المباشرة في الولاياتالمتحدة منذ عام 1991 عندما تراجعت الاستثمارات 3.16 في المئة عن العام السابق. وشهدت مناطق أخرى من العالم زيادة في هذه التدفقات ومنها منطقة اليورو وجنوب شرقي آسيا خصوصاً الصين. وقد يتعزز هذا الاتجاه في المستقبل حيث بدأت التدفقات الاستثمارية إلى منطقة اليورو بالارتفاع منذ النصف الثاني من العام الماضي 2001. وكان انخفاض معدلات الفائدة على الدولار مقارنة باليورو وسلسلة الفضائح وحالات الإفلاس وعمليات التزوير التي شهدتها شركات أميركية كبرى مثل "إنرون" و"تايكو" وغيرها، وعمليات المصادرة والتجميد والمراقبة لأموال مجموعة كبيرة من المصارف والشركات والمنظمات والأشخاص بحجة تمويل الإرهاب، دفعت وستدفع في المستقبل الكثير من المستثمرين إلى سحب أموالهم خوفاً عليها من التجميد والمصادرة تحت ذرائع مختلفة. وأدت دعاوى التعويضات التي رفعها أهالي ضحايا أحداث 11 ايلول ضد حكومة السودان وعدد من المؤسسات المالية السعودية مطالبة بتعويضات تصل إلى 651 بليون دولار، إلى قيام عدد من المستثمرين السعوديين والعرب بسحب ولو جزء من استثماراتهم من أميركا. وفي هذا السياق قدرت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية أن إجمالي الاستثمارات العربية في الولاياتالمتحدة يُقدر بنحو 800 بليون دولار. من الصعوبة رصد حجم الأموال التي تم سحبها من السوق الأميركية والمناطق الأخرى من العالم التي اتجهت إليها هذه الاستثمارات، غير أنه من المتوقع أن تكون الأسواق المالية العربية خصوصاً الخليجية منها جذبت إليها ولو نسبة صغيرة من هذه الأموال. وارتفاع أسعار النفط وتحسن أداء الشركات المدرجة في أسواق الأسهم الخليجية إضافة إلى ارتفاع التدفقات النقدية لهذه الأسواق ساعدت في تحقيق عوائد جيدة هذه السنة، إذ ارتفع مؤشر أسعار الأسهم السعودية بحدود 10 في المئة منذ بداية السنة، ومؤشر سوق الأسهم الكويتية 27 في المئة قبل ان يعود الى التدهور نتيجة الازمة العراقية، وسوق الأسهم في عمان 20 في المئة وسوق الأسهم في قطر 44 في المئة وسوق الأسهم في الإمارات 11 في المئة، في حين ارتفع مؤشر سوق الأسهم البحرينية بنسبة أقل لم تتعد 3.5 في المئة. وكانت المناطق الفلسطينية الأكثر تأثراً بأحداث ايلول 2001، إذ أن هذه الأحداث شجعت الإدارة الأميركية على إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لاتخاذ إجراءات أشد شراسة وعدوانية ضد الشعب الفلسطيني باسم مقاومة الإرهاب، وسيكون لمساواة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بالإرهاب ومحاولة القضاء على السلطة الفلسطينية تأثير سلبي كبير على مستقبل عملية السلام مما سيزيد من عوامل عدم الاستقرار في المنطقة. والدول العربية الأخرى التي تأثرت أكثر من غيرها بأحداث الحادي عشر من ايلول تشمل مصر ولبنان وسورية والسعودية. إذ شهد الاقتصاد المصري تراجعاً واضحاً في معدلات النمو الاقتصادي بسبب تدني الدخل من العملات الأجنبية المتأتي من السياحة ومن قناة السويس. كما بقي لبنان في موقف اقتصادي هش بسبب عوامل عدم الاستقرار الاقليمية والتي قد تؤثر سلباً على نجاح عمليات الخصخصة، وعلى قدرة الحكومة في خدمة ديونها التي وصلت إلى مستويات حرجة. كما دفعت عوامل عدم الاستقرار في المنطقة سورية إلى تأجيل عملية تحرير اقتصادها وإلى توجيه المزيد من مواردها نحو الدفاع والأمن. وكان لأحداث ايلول تأثير غير مباشر على دول الخليج، وحافظت أسعار النفط على أدائها الجيد إلاّ أن درجة المخاطر لدول المنطقة ارتفعت بسبب الإعلام السلبي الذي تتعرض له هذه الدول في وسائل الإعلام الأميركية، وقد لا تستطيع المملكة العربية السعودية مثلاً أن تجذب إليها الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي كانت تأمل بها سابقاً لقطاع الغاز، المقدرة في حدود 25 بليون دولار. وسيستطيع الأردن الحفاظ على معدلات نمو اقتصادي جيدة هذه السنة حتى مع الأخذ في الاعتبار انخفاض الدخل من السياحة والفنادق. والمطلوب في الجانب الاقتصادي العربي هو تحقيق مستوى معيشة أفضل للمواطن وتوفير الأمن الاقتصادي له وخفض نسب البطالة في العالم العربي التي لا تزال من أعلى النسب في العالم، وبما أن 50 في المئة من سكان المنطقة هم من الشباب أي ما دون سن العشرين، فهذا يعني أن هناك أعداداً متزايدة من الداخلين إلى سوق العمل لا بد من استيعابهم سنوياً، ما يتطلب تحقيق معدلات نمو اقتصادي تفوق معدلات النمو السكاني. وهناك ضرورة أيضاً لبناء مجتمعات مدنية تدافع عن حقوق المواطن وحيث يكون الولاء للبلد قبل العشيرة أو القبيلة أو المذهب الديني. القطاع الخاص هو الذي سيقود عملية التنمية، وإذا طلبنا من هذا القطاع أن يسترجع جزءاً من أمواله في الخارج ويزيد من استثماراته في الداخل، فلا بد من توافر الفرص المجدية له وأن يشعر هذا القطاع بالأمان وحرية الحركة وأن يكون له صوت مسموع بالطريقة التي تُدار بها الأمور، ولا بد أيضاً من تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص والتخلص من الفساد والمساواة في تطبيق القانون ووجود محاكم وأطر قانونية تحمي المستثمر والمستهلك. * الرئيس التنفيذي جوردانفست.