"الحب عن بعد" هي أول مسرحية أو مغناة يكتبها الروائي أمين معلوف. وكانت قدمت بالفرنسية في أكثر من مهرجان. هنا فصل منها في الترجمة العربية التي تصدر خلال أسابيع عن دار الفارابي. ويتميز النص بجوه الشاعري ولغته الغنائية. تدور أحداث الأوبرا في القرن الثاني عشر، بين مقاطعة أكيتين الفرنسية، ومدينة طرابلس، وعرض البحر. الفصل الأول: جوفري روديل، أمير بلاد بلاي، سئم حياة الترف التي يعيشها الشبان في مثل سنِّه، وبات يتوق لحب مختلف، بعيد، وهو يعتقد مسبقاً انه لن يصادفه أبداً. فرفاقه القدامى وخلاّنه يلومونه على هذا التغيير الذي أصابه حيث أخذوا يهزأون منه. لقد كانوا يؤكدون له باستمرار ان المرأة التي يتغنى بها لا وجود لها. غير ان حاجاً عائداً من الشرق كان يؤكد له ان تلك المرأة موجودة فعلاً، وهو قد التقاها حقيقة. ومنذ تلك اللحظة ما عاد جوفري يفكر بسواها. الفصل الثاني: إثر عودته الى الشرق، يلتقي الحاج كونتيسة طرابلس، ويعترف لها بأنأميراً وشاعراً جوَّالاً في الغرب، يتغنى بها في أغانيه، ويدعوها "حبيبته البعيدة". فتروح الكونتيسة التي شعرت للوهلة الأولى بالإهانة تحلم بذلك العاشق الغريب والبعيد، ولكنها أخذت تتساءل، أيضاً، إن كانت جديرة وتستحق مثل هذا العشق. الفصل الثالث: في المشهد الأول، يلتقي الحاج بجوفري، بعد عودته الى بلاد بلاي، ويسرُّ له بأن تلك السيدة باتت على علمٍ بأنه يتغنى بها، فيقرر الشاعر الجوال السفر للقائها. في المشهد الثاني، يبدو ان كليمانس، من جهتها، تفضل ان تظل علاقتهما بعيدة نائية، لأنها ترفض العيش في شوق الانتظار، وتأبى لوعة العذاب. الفصل الرابع: يبحر جوفري متشوقاً للقاء "حبيبته البعيدة"، ولكنه يشعر كذلك برهبة اللقاء الموعود. يندم على قراره المتسرع بالسفر، ويتعاظم قلقه فيغدو عليلاً، ويستفحل داؤه مع اقترابه من طرابلس التي يصل اليها وهو يحتضر... الفصل الخامس: عندما يرسو المركب، يذهب الحاج لإبلاغ كليمانس بأن جوفري وصل، وهو عليل ولكنه يطمح للقائها. يصل الشاعر الجوال الى قلعة طرابلس غائباً عن الوعي، ومحمولاً على محفّة. وفي حضرة المرأة التي تغنى بها، يستعيد وعيه شيئاً فشيئاً، فيلتقي "الحبيبان البعيدان"، ويستعجلان البوح مع اقتراب ساعة المنون، فيتصارحان ويتعانقان، ويتعاهدان على الحب والهيام... وحين يلفظ جوفري أنفاسه في أحضان كليمانس، تتمرد الكونتيسة على المشيئة الإلهية، وتلوم نفسها على المأساة التي حصلت، وتقرر الدخول الى الدير. وتظهر في المشهد الأخير، مستغرقة في الصلاة، ولكن كلامها مبهم، ولا يفهم المرء ان كانت تصلي راكعة لربها أم "لحبيبها البعيد". الفصل الثاني حديقة في باحة القلعة التي تقيم فيها كونتيسات طرابلس. تقف كليمانس على مطل، وتحاول رؤية شيء ما، بعيداً، لجهة البحر، وحين يمرُّ الحاج على مقربة منها، تناديه. كليمانس: قل لي أيها الرجل الطيب! الحاج: يلتفت نحوها ببطء، وكان يحاول التخفي: هل تناديني أيتها الكونتيسة؟ كليمانس: ذلك المركب الذي رسا لتوه، هل تعلم من أين أتى؟ الحاج: لقد كنت على متن ذلك المركب، أيتها السيدة النبيلة، وكنت قادماً الى القلعة لأتمنى طول العمر للكونت شقيقك، ولك أيضاً، لقد أبحرنا من مرسيليا. كليمانس: وقبل مرسيليا، أيها الحاج، /من أين أبحرتم؟ الحاج: من بلاد بلاي، في مقاطعة أكيتين، انها بلدة صغيرة، / لا أظن أنك تعرفينها... كليمانس: من دون ان تنظر اليه: هل تستحق بلادك أن تهجرها؟ هل جوَّعتك؟ هل أهانتك؟ هل طردتك؟ الحاج: لا شيء من كل ذلك، أيتها الكونتيسة فقد فارقت فيها أعزّ الناس وكان عليَّ أن أرحل في ما وراء البحار وأرى بأم العين ما يحتضنه الشرق من غرائب القسطنطينية، بابل، وأنطاكية، بحار الرمل، أنهار الجمر، الشجر الذي يذرف دموعاً من بخور، الأسود في جبال الأناضول، وقصور الجبابرة. صمت وكان واجباً عليَّ محتماً وأكيداً، أن أزور الأرض المقدسة. كليمانس تخاطبه، انما تخاطب كذلك السماء، وتناجي روحها: كم من بشر يحلمون بزيارة الشرق، وأنا أحلم بالرحيل في الخامسة، فارقت تولوز ومنذ ذلك الحين، لم أشعر بالسلوان كل مركب يرسو يذكرني بمنفاي كل مركب يبتعد يشعرني بأنني هُجرت الحاج: ولكن طرابلس ملك لك، ولأسرتك النبيلة. وهذا البلد أصبح الأن بلدك، وفي ثراه يرقد أسلافك. كليمانس: هذا البلد ملك لي؟ ربما. ولكنني لست ملكاً له. قدماي تقفان على العشب هنا، إنما كل جوارحي تتقافز على أعشاب بعيدة. كل منا يحلم بما وراء البحار، ولكن ما وراء بحارك أيها الحاج هنا، أما ما وراء بحاري، فهناك. ما وراء بحاري في نواحي تولوز حيث أسمع حتى اليوم نداءات أمي وضحكات الطفلة التي كنت. وأذكر كذلك انني جريت وأنا حافية القدمين في درب صخري وراء قطة. كانت القطة صغيرة، ولعلها ما زالت على قيد الحياة، وما زالت تذكرني. أو لعلها ماتت، أو نسيتني، كما نسيتني حجارة الدروب. وأذكر كذلك طفولتي، في حين لا شيء في دنيا طفولتي يذكرني. البلاد التي أبصرت فها النور تتنفس في أعماقي، ولكنني قد متُّ بالنسبة اليها. كم يسعدني لو تذكّرني سور واحد، أو شجرة واحدة. الحاج: بعد صمت متردد وطويل: ثمة رجل يفكر فيك. كليمانس: وكانت تناجي روحها حتى كادت تنسى وجود الحاج، فتعود ببطء الى أرض الواقع: ماذا قلت؟ الحاج: ثمة رجل يفكر فيك أحياناً. كليمانس: أي رجل؟ الحاج: شاعر جوَّال. كليمانس: شاعر جوَّال؟ وما اسمه؟ الحاج: إنه يدعى جوفري روديل، وهو كذلك أمير بلاد بلاي. كليمانس: تتظاهر باللامبالاة: جوفري... روديل... لا بد أنه لمحني في ما مضى وأنا طفلة الحاج: لا، ما لمحك قط... على ما يبدو. كليمانس: مضطربة: وكيف يعرفني إذاً؟ الحاج: أخبره أحد المسافرين يوماً أنك جميلة من دون صلف الجمال، نبيلة من دون صلف النبل، تقية من دون صلف التقى، ومنذ ذلك الحين، يفكر فيك دائماً... على ما يبدو. كليمانس: ويذكرني في أغانيه؟ الحاج: ما عاد يتغنى بسيدة أخرى سواك. كليمانس: وهل... هل يذكر اسمي في أغانيه؟ الحاج: لا، انما يعلم السامعون انه يتحدث عنك. كليمانس: مرتاعةً، ثم تثور فجأة: عني؟ وبأي حقٍّ يتحدث عني؟ الحاج: لقد وهبك الله الحسن يا كونتيسة، انما لتتمتع به عيون الآخرين. كليمانس: وماذا يقول ذلك الشاعر الجوَّال؟ الحاج: ما يقوله كل الشعراء، إنك جميلة وإنه يهواك. كليمانس: مستاءة: ولكن بأي حقٍّ، يا إلهي، بأيِّ حق؟ الحاج: لا شيء يرغمك على مبادلته الحبّ يا كونتيسة، إنما ليس بوسعك ان تحولي دون افتتانه بك من بعيد. إنّه يقول، أصلاً، في أغانيه إنك النجمة النائية، وإنه متيّم بك من دون رجاء. كليمانس: وماذا يقول بعد؟ الحاج: تخونني الذاكرة... إنما ثمة أغنية تقول على ما أظن: "لن أتمتّع بحبٍّ ما لم أنعم بذلك الحب البعيد لا أعرف أنبل وأفضل منها في البلدان القصية أو الدانية إنها لمن العظمة والأصالة حيث وددت، لأجلها، أن أكون أسيراً، هناك، في مملكة العرب". كليمانس: وقد اغرورقت عيناها بالدموع: آهٍ، يا إلهي، وأنا ملهمته. الحاج: مسترسلاً بالنبرة نفسها: "أصدق ربي الذي سأرى بفضله محبوبتي البعيدة إنما لكل نصيب من الخير ألقاه أعاني مشقتين من الشر لأنها نائية آهٍ، لوددت أن أحج اليها لتتأمل عيناها عصاي وعباءتي". كليمانس: تواصل التظاهر باللامبالاة، ولكن ارتعاش صوتها يخونها: وهل تستحضر أيضاً أبياتاً أخرى؟ الحاج: "يصدق من يراني جشعاً طامعاً بمحبوبتي البعيدة فلا فرحة تروق لي مثل فرحتي بحبي البعيد إنما ما أشتهيه محرّم عليَّ هكذا شاء عرابي أن أهوى ولا يهواني الهوى...". ويقول أموراً أخرى لا أذكرها كليمانس: تحاول أن تظهر أقل تأثراً مما هي عليه: إذا التقيت ذلك الرجل يوماً، فقُلْ له... قُلْ له الحاج: ماذا أقول له؟ كليمانس: لا، لا شيء، لا تقلْ له شيئاً. تلتفت، ويفضل الحاج الانصراف بصمت. وبعد أن تصبح بمفردها، تدندن بضعة أبيات من تلك التي ألقاها الحاج على مسمعها، ولكنها تغنيها باللغة الأوكسيتانية1: "لن أنعم بحبٍّ ما لم أنعم بذلك الحب البعيد أنبل وأفضل منها لا أعرف في البلدان القصية أو الدانية" يتأملها الحاج المتواري خلف شجرة، ويصغي اليها خلسةً. ثم يبتعد فيما تستعيد كليمانس رباطة جأشها. كليمانس: لو كان يعرفني ذلك الشاعر الجوَّال، هل كان ليتغنى بي بذلك الوجد؟ هل كان ليتغنى بي لو تسنى له سبر أعماق روحي؟ جميلة من دون صلف الجمال، قيل له جميلة؟ بل أتلفت حولي دائماً لأتيقن ان لا امرأة تفوقني جمالاً! نبيلة من دون صلف النبل؟ بل أطمع بأراضي الغرب والشرق معاً وكأن العناية الإلهية مدينةٌ لي! تقية من دون صلف التقى؟ بل أتبختر بأبهى حلة في طريقي الى القداس، ثم أركع في الكنيسة، خالية الذهن! أيها الشاعر الجوَّال، لست جميلة سوى في مرآة كلماتك. * "الحب عن بعد" مسرحية غنائية لأمين معلوف، ترجمتها عن الفرنسية نهلة بيضون.