أنجز المخرج السوري محمد ملص اخيراً في سابقة سينمائىة اولى، مفكرة فيلم تخرجه عام 1974 من معهد السينما في موسكو، وقد يدفع بها قريباً الى المطبعة. ولا يعود انجاز مفكرة "كل شيء في مكانه، وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط" وهو عنوان الفيلم، الى توقف بعض المشاريع السينمائية التي يعمل عليها ملص، اذ كان من المفترض ان ينجز مشروعين على الاقل في مصر التي اقام فيها قرابة العام، ولكن التطورات الانتاجية التي حاقت بمشروعيه اجلت الى عهد غير مسمى فيلم "عطلة رضوان" ومسلسل "سيد درويش"، واضطرته للعودة الى دمشق للبحث في مشاريع اخرى اهمها حتى الآن فيلم ينتمي الى جماعة - الدوغما - وهو كتب له السيناريو بالتعاون مع الروائي الشاب خالد خليفة. فيلم كان ضائعاً على اي حال يدأب صاحب "أحلام المدينة" و"الليل" على إدراج عاداته المتأملة في الكتابة السينمائية بتحويل افلامه الى مفكرات فيلمية من باب اعطاء السيناريو السينمائي قيمة ادبية باعتبار انه غير مصنف ادبياً، وهذه مهمة شاقة اضطلع بها ملص الشغوف بالأدب مثلما هو شغوف بالسينما، ويظل دأبه هو من يتوج هذه العادة السحرية الجميلة. وفيلم التخرج 30 دقيقة ظل مفقوداً من ارشيف المخرج ولفترة طويلة حتى عثر بالمصادفة على نسخة بوزيتيف يتيمة ظلت قابعة على رفوف معهد السينما الموسكوفي الذي تعرض اخيراً لحريق هائل اتى على مستودع حفظ الافلام الطالبية والتهم افلاماً كثيرة لمخرجين اصبحوا معروفين... وبطبيعة الحال التهم فيلم ملص. وكانت النسخة التي يقدمها المعهد للطالب لحظة تخرجه قد ارسل بها المخرج الى اصدقاء في اليمن الجنوبي... ولكن النسخة ضاعت ويظل "كل شيء في مكانه، وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط" ذا نكهة خاصة ليس بالنسبة الى ملص وحسب، فهو كان ايضاً تجربة خاصة ومثيرة بالروائي المصري صنع الله ابراهيم، وهي التجربة الاولى والاخيرة له في عالم السينما. وهو العالم نفسه الذي قصده للبحث عن لغة تعبيرية جديدة، ولكنه اكتشف بعد امتحان القبول الخاص بالطلبة الاجانب إن "السينما ليست لغة سهلة". والطريف ان صنع الله ابراهيم قصد موسكو في ستينات القرن الماضي من برلينالشرقية بهدف استدانة المكان والوقت بغية التفرغ لأعماله الروائية عن مصر والفراعنة والنساء اللواتي كان يخبئ صورهن في فراشه، فوجد نفسه متورطاً في "سينما الحقيقة"، وهو المصطلح الذي شاع في تلك الفترة. ويبدو واضحاً تماماً ذلك الحيز الذي يشغله الروائي صنع الله ابراهيم في مفكرة محمد ملص، حتى انه يشي للوهلة الاولى بأن المفكرة ربما تكون من إعداد المخرج والروائي، كما هي حال السيناريو ذاته الذي اشتغلا عليه معاً، وعدلا فيه ثلاث مرات. والفيلم ينتمي الى السينما السياسية وهو يخوض في تجربة الاعتقال السياسي في مصر. ففي تلك الفترة كان الاعتقال بتهمة سياسية من شواغل محمد ملص الاساسية، فيما كان يمثل لصنع الله ابراهيم إعادة إحياء الفترة التي اعتقل فيها بين 1859 و1964. على ان هذه الشواغل السياسية كثيراً ما تعذر تنفيذ اجزاء كثيرة منها، فقدر ملص على ما يبدو مرتبط بنوازع حروب تشن في اللحظة التي يقرر فيها تصوير فيلم ما. فهو يخبرنا في مقدمة المفكرة انه في اللحظات التي بدأ فيها الشغل على فيلمه التسجيلي "المنام" اجتاحت اسرائىل لبنان عام 1982 وأخذت في طريقها المخيمات الفلسطينية التي كان يحقق فيها فيلمه، حتى انه ينوه في النهاية بأنه لا يعرف شيئاً عن مصائر ابطاله في الجزء المستكمل. وعندما اراد ان تدور كاميرا "الليل" المستقى اصلاً من رواية له بعنوان "اعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب"، دارت رحى حرب الخليج الثانية، وأصبح "الليل" بعد الحرب من دون إعلان. حرب جديدة وبالنسبة الى فيلم التخرج، فما إن انتهى ملص من كتابة السيناريو، ونال موافقة اساتذته عليه، حتى اشتعلت حرب تشرين 1973، ما اضطره للتأجيل، وهذا كاد يسبب له مشكلة في المعهد السوفياتي، اذ ان ديكورات فيلمه عن المعتقل السياسي اوحت لكثير من طلاب المعهد بالتقدم بأفكار مماثلة بحجة الافادة المجانية من الديكورات الموجودة، ما أثار ريبة عمادة المعهدة، التي ارادت من ملص وطاقم فيلمه الطالبي الانتهاء بأسرع وقت ممكن حتى لا تكبر كرة الثلج وتثير اشكالات المعهد في غنى عنها. وتدل المفكرة الفيلمية الى ان صنع الله ابراهيم ارتبط بصداقة خاصة مع ملص كونه الاقرب اليه من بين الطلبة العرب. فهو شغوف بالأدب مثله، وهو الذي اكتشف من بعد امتحان القبول مدى افتراقه عن عالم السينما الجماعي، في الوقت الذي كان يحب فيه الجلوس وراء الآلة الكاتبة للنقر الرتيب على وحدته وتدوين اللغة السهلة التي خيل اليه انه وجدها في السينما، وحتى الآن لا يعرف صنع الله ابراهيم ما اذا كان قد رقص في امتحان القبول ام انه قد مثّل؟! ولم يكن في رغبة صاحب "نجمة اغسطس" ان يصبح ممثلاً، ولكن ملص اقنعه بالتمثيل، واستطاع من بعد نقاشات مطولة ان يلعب دور قارئ الاخبار في السجن، وهو الذي يقرأ الجرائد القديمة المهربة ويعيد قراءتها شفاهياً امام بقية المعتقلين في فترة تنشق الهواء، او في لحظات خروجهم الى دورات المياه. ومن جملة تلك الاخبار الوافدة يكتشف المعتقلون ان الوطن يخوض حرباً مع اسرائىل. ولكن الخبر قديم، وهزيمة حزيران 1967 دقت الابوات بقوة، ولم تكن اخبارها قد وصلت بعد. وحده الضابط آمر السجن يجلس في مقصورته يستمع الى خطاب تنحي جمال عبدالناصر عن السلطة، والمعتقلون من حوله يفكرون بعمل شيء لنصرة وطن مهزوم لا يسمعون اخباره إلا متأخرين، فهم يطالبون المأمور بالسماح لهم بالاشتراك في حرب انتهت بهزيمة مدوية من دون ان يعرفوا. لكن المأمور المسكين يطمئنهم الى ان الجيوش العربية تقوم بالمهمة على اكمل وجه! لم يكن كل شيء في مكانه، وليس كل شيء على ما يرام ايها السيد الضابط. تلكم هي الجملة الشفوية التي يفوز بها فيلم التخرج والتي يطلعنا عليها سيناريو محمد ملص وصنع الله ابراهيم في مفكرة تخص المخرج - اقله من ناحية كتابتها - فهو يريد ان يطلع صديقه الروائي عليها من بعد طباعتها حتى لا يجري التعديل عليها ايضاً ثلاث مرات كما حدث مع سيناريو الفيلم قبل ثلاثة عقود. فجر يعقوب