أراد المخرج السينمائي السوري محمد ملص أن يلملم أوراق العمر المتناثرة خلف حجب الزمن، ليمنحها مذاقاً متقارباً هو «مذاق البلح»؛ عنوان كتابه الجديد؛ الصادر، أخيراً، عن دار رفوف (دمشق - 2011 ). بهذا العنوان، الذي يضمر حساسية أدبية شفافة، يؤكد ملص مرة أخرى أنه لم يكتفِ، يوماً، بالوقوف وراء العدسة، بل كان شغوفاً على الدوام بالكتابة، تماماً كشغفه بالسينما، وله في حقل الكتابة، فضلاً عن السيناريوات، عناوين عدة تتأرجح بين التأملات والمذكرات والسرد القصصي، وهو كشف عن انه أنجز، للتو، مخطوط رواية ستبصر النور قريباً. «مذاق البلح» هذا يأتي، حيناً، لاذعاً حاداً، وأحياناً سلساً؛ مرهفاً، ذلك أن صاحب «أحلام المدينة» يمضي بنا في هذه المفكرة المبعثرة إلى تواريخ ووقائع وذكريات تروي الخيبات والهموم، وتسجل تفاصيل الضجر والسأم، وكذلك ساعات المرح والبهجة، وتقتفي آثار محطات نافرة هنا وهناك. ولا ينسى الكاتب، لدى انهماكه بمشاغله السينمائية، أن يبوح بأسرار العشق ومراتب الهوى في نص فاتن بعنوان «أصابعها على شريط الفيلم»، إذ تمتزج صورة الحبيبة مع سحر السينما في صورة مركبة؛ أليفة ونقية. لكن هذا المزاج الحنون والدافئ يكاد يسم مختلف النصوص في هذا الكتاب الذي يضم مفكرات عدة، بدءاً من مفكرة موسكو التي تعود إلى الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي. هنا يرسم صاحب «الليل» بورتريه خاصاً للروائي المصري صنع الله إبراهيم الذي جمعته غرفة واحدة، آنذاك، مع ملص الذي كان يدرس في معهد السينما في موسكو. إنها لقطة مقربة جداً تكاد تنفذ إلى أعماق صاحب «تلك الرائحة»: «أرغب بالإمساك بما يساعدني على التسرب إلى فضائه الكامن خلف كتلة رقيقة من الأعصاب المخبأة وراء عينين جميلتين وعميقتين تراقبان العالم وتخفيان وراء لمعانهما هذا الحزن الغائر». في المفكرة ذاتها نتعرف إلى اسم مسرحي سوري رحل باكراً عام 1995 وهو شريف شاكر الذي يخاطبه ملص بنبرة وجدانية مؤثرة تعيد بعض الاعتبار الى مثقف لم يلق اهتماماً من مؤسسات بلاده الرسمية. وهو إذ يستعيد ذكرى هذا المسرحي الحالم يتذكر قولاً لأندريه مالرو: «كل إنسان يشبه ألمه»، ويضيف ملص إلى العبارة، لدى سماعه خبر الرحيل، «بل وموته أيضاً». بهذا المذاق المر يصل ملص إلى «مفكرة العطالة» التي تروي وقائع من يومياته في دمشق حيث العمل في السينما بعيد المنال إزاء احتكار مؤسسة السينما للإنتاج، ومزاجية مديريها في اصطفاء مخرجين معينين يتمتعون بالفرص السخية دون غيرهم. أمام هذا الواقع السينمائي الراكد، تغدو «العين عدسة، والفوتوغراف مناماً»، بينما لسان حال «المخرج المبعد» يقول: «لا أحتاج إلى شيء كما أحتاج إلى الأمل، ليترك لي فسحة ظليلة في القلب، تمنح الخيال نبضه». ويجدد ملص في هذه المفكرة تواريخ منسية من قبيل 23/10/ 1980، «في ذاك النهار جاؤوا إلى بيت «أبو الميش» (يقصد المفكر ميشيل كيلو) وأخذوه». ولئن نسي القارئ التاريخ الملتبس هذا، فإنه لن ينسى إلى أين أخذوا المثقف الودود، ليصرخ ملص بعبارة موجعة: «لعل الانتحار هو الاحتياطي الوحيد الذي يملكه الإنسان ليدافع به عن نفسه»! ومن الطبيعي، بل بالضرورة، أن تضم مفكرة العطالة اسماً رقيقاً كان له هو الآخر نصيب وافر من العطالة، والمقصود هو المخرج السينمائي الذي رحل، اخيراً، عمر أميرالاي. يعيش الصديقان العطالة ذاتها (من دون أن يستسلما إلى النهاية)، ويشهدان معاً «حباً موؤوداً»، فيضطر ملص إلى الاقتباس من ماركيز: «الحياة نوع من الأدب الرديء، لا تكمن عظمتها إلا في أدبية ما نكتبه عنها، وما نسكبه على لحظاتها من مذاق أدبي»، ومن فنون وأحلام وآمال ومشاريع طموحة تؤجج نزعة التمرد والشغب والجنون... ولعلها المرة الأولى التي يتم فيها الكشف عن تفاصيل ما يجري في كواليس لجان تحكيم المهرجانات السينمائية، عبر مفكرة جريئة تكشف الحوارات والنقاشات التي شارك فيها ملص بوصفه عضواً في لجنتي تحكيم، مرة في مهرجان قرطاج السينمائي، ومرة أخرى في مهرجان لايبزغ للأفلام الوثائقية. في هذه المفكرة نتعرف إلى آليات عمل لجان التحكيم، وكيف تدور النقاشات، ودفاع كل عضو عن رأيه وسعيه إلى إقناع زملائه، والمعايير التي تعتمد، في نهاية المطاف، كي يتوج هذا الفيلم أو ذاك بالجائزة المنتظرة، وخلال هذه المفكرة سنتعرف إلى أحد ابرز المخرجين وهو ميغيل ليتين. وتحتل برلين مساحة وافية من هذا الكتاب، إذ سنتعرف إلى ملامح هذه المدينة وخفاياها قبل سقوط الجدار وبعده، وهنا يقدم ملص تفاصيل لقاءات وجولات في هذه المدينة برفقة زميله وصديقه العراقي قيس الزبيدي الذي أقام في تلك المدينة طويلاً. بعد هذه المحطات البعيدة يطلع ملص قارئه على «يوميات رحلة إلى مدن داخلية» سورية هي حمص ويبرود ودير عطية مختتماً بها هذه الشذرات الغافية بين ثنايا ذاكرة ما كان لها أن تحافظ على نضارتها لولا التدوين الذي دأب عليه ملص كي يقبض على اللحظات الهاربة. «مذاق البلح» يضم نصوصاً تكتسب أهميتها من صياغتها اللغوية الواضحة والسهلة، ومن كونها ترسم ألواناً متعددة خلال أزمنة مختلفة. ومع أنها تبدو متباينة في مواضيعها، غير أن ما يجمعها هو قلم الكاتب الذي يضفي على كل ما يسجله شيئاً من روحه المتعطشة إلى السينما، فتأتي التعابير والجمل وكأنها مشاهد سينمائية مقطعة وفق إيقاع مونتاجي مشوق، ومحبب من دون إغفال الاعتناء ببلاغة أدبية تقترب حيناً من تخوم الشعر، كأن يكتب: «على الجدار لوحة لامرأة في ثوب أبيض، تحمل مظلة، وتتمايل كأنها تريد اللحاق بالنسمة الهاربة»، ويكتب في مكان آخر: «كانت تتحدث بحرقة شديدة، وكلماتها أشبه بالنشيج، وكان لعينها رضاب كماء العسل، أما جسدها فكان له مذاق البلح». يحفل الكتاب (190 صفحة) بعناوين لأفلام تركت أثراً في تجربة ملص، وكذلك يعج بأسماء كثيرة: سينمائيون ومسرحيون وروائيون وفلاسفة وشعراء ونقاد من رولان بارت إلى باختين إلى دستويفسكي وتشيخوف وفرنسوا تروفو ويلماز غوني ومارلين ديتريش وبارادجانوف وسواهم ممن أضاءوا الدرب أمام ملص بأفلامهم ورواياتهم وأبحاثهم. وإذ تطغى الهموم والهواجس السينمائية على صفحات الكتاب، فإن ملص متحرر هنا من الكاميرا، فأداته هذه المرة القلم الذي يخط مساراً متعرجاً، ومتنوعاً لسينمائي «زاده الخيال»، وفيض من الأحداث والمواقف التي تضيء وجوه شخصيات تركت بصمات لا تُمحى في مجال اختصاصها، مثلما تضيء جانباً من تأملات ملص وأفكاره، تلك التي لم تقو الأفلام على تجسيدها كفاية، فآثر أن يكمل اللوحة الناقصة بالكلمات؛ شقيقة الصورة.