يجمع المراقبون الجزائريون والأوروبيون المتتبعون لشؤون الجزائر، على ان رئيس الوزراء علي بن فليس، الذي وصل قوياً الى موقعه الحالي بعد الانتخابات الاشتراعية الأخيرة عبر نجاح حزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية الذي يقوده في الحصول على غالبية مقاعد البرلمان، بدأ يمهد الطريق أمامه ليترشح الى منصب رئاسة الجمهورية بعد سنتين. وتفيد المعلومات بأن الوزير الأول، الذي يحظى بدعم أطراف لا يستهان لا بنفوذها ولا بتأثيرها على مستوى "السلطة الفعلية" أي الجيش، لا يمكن أن يحقق هدفه إلا إذا نجح إلى حد ما بانجاز خطة الانطلاقة الاقتصادية التي أسس لها رئيس الجمهورية عبدالعزيز بوتفليقة منذ أكثر من عام، والتي "خطفها"، كما يقول المحيطون بهذا الأخير، بن فليس في محاولة لتوظيفها في سياق سباقه الى قصر "المرادية". وتجدر الاشارة إلى أن المبلغ المرصود لتنفيذ الخطة والمحدد ب525 بليون دينار جزائري نحو 3.7 بليون دولار يتوزع على أربع سنوات، لم يفض، كما كان متوقعاً، إلى رفع معدل النمو الاقتصادي للبلاد عبر الاستثمار العام الداخلي، بانتظار قدوم الاستثمارات الخارجية المباشرة، التي تنتظرها الأوساط المالية والاقتصادية في الجزائر منذ أكثر من ثلاثة أعوام. كما لم تلب الخطة حتى الآن، حسب رأي "الاتحاد العام للعمال الجزائريين" أياً من الطموحات والاحتياجات الملحة للمجتمع مثل السكن وتأسيس فرص عمل جديدة بعد التسريحات الجماعية التي تجاوزت مئة ألف من عمال وموظفي شركات القطاع العام التي ارغمت على اقفال أبوابها نتيجة الخسائر المتراكمة. وفي حين تؤكد الأوساط الحكومية أن برنامج الخطة الموضوع سمح حتى الآن باطلاق 3445 مشروعاً، أي ما يوازي 88 في المئة من المشاريع المدرجة وفق موازنة السنة الجارية، متوقعاً تأسيس 231 ألف فرصة عمل جديدة، يرى "المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي"، الذي يتمتع بصدقية كبيرة لدى المواطنين والمؤسسات المالية الأجنبية، نظراً لاستقلاليته عن السلطة والنزاهة المشهودة لرئيسه محمد صلاح منتوري، بأن النمو الاقتصادي الذي يتم الحديث عنه لا يزال حتى الآن دون الأهداف المحددة، التي هي أصلاً متواضعة، على رغم المداخيل القياسية من الهيدروكربورات التي اغرقت الخزينة في أعوام 2000 1.21 بليون دولار، العائدات الأكبر منذ 1962، و2001 5.18 بليون دولار التي تأثرت بأحداث 11 أيلول/ سبتمبر، التي ستصل، حسب التقديرات، إلى 20 بليون دولار في نهاية 2002. تخصيص وعراقيل ويأتي برنامج التخصيص في طليعة رهانات علي بن فليس، وأيضاً في رأس التحديات التي يتوجب عليه مواجهتها في الشهور المقبلة. ويعتبر بأن هذه العملية بمثابة أولوية الأولويات في خطة اصلاح اقتصاد الجزائر المتعثر، وتحديث أدواته الهرمة وتحسين مؤشراته التي لم تتخط بغالبيتها الدائرة الحمراء. ويرى الوزير الأول أن تنفيذ البرنامج وضع عملياً على السكة، وبأنه لن يكون هناك بعد الآن أي قطاع بمنأى عن التحول المطلوب من أجل الدخول في اقتصاد السوق، خصوصاً إذا ما أثبتت دراسات الجدوى ضرورة ذلك من جهة، ومن جهة أخرى إذا جاءت العروض المقدمة من المستثمرين المحليين والأجانب على السواء، ملبية للشروط الموضوعة من قبل "مجلس مساهمات الدولة"، المكلف بإدارة عمليات التخصيص، ومتوافقة مع المصالح الوطنية العليا. ويحرص بن فليس خلال جميع مداخلاته، خصوصاً بعد إعادة تكليفه برئاسة الحكومة الجديدة، على تجنب إثارة الجسم النقابي وبعض جمعيات المجتمع المدني التي تذكر على الدوام بالأخطاء الإنسانية التي ارتكبت لدى تخصيص عدد من مؤسسات القطاع العام في العامين المنصرمين. بناء عليه، يكرر هذا الأخير القول، "إن الحكومة ستعلق أهمية خاصة على العروض التي تعطي الأولوية للمحافظة على الوظائف الحالية، التي لا تعمد لاحقاً للتسريح، كذلك للنشاطات التي توفر قيمة تكنولوجية مضافة". في هذا الإطار، نفذ علي بن فليس الوعد الذي قطعه عشية الانتخابات، والقاضي بالإعلان عن عدد الشركات التي سيتم تخصيصها قبل نهاية السنة من أصل المئة المدرجة سابقاً على جدول البيع. ومن المقرر الآن أن تستكمل الحكومة التخصيص الكلي والجزئي لعشرين شركة قبل نهاية السنة، من بينها المجمع الصناعي "سيدر" الذي قررت الدولة التخلي عن 70 في المئة من حصتها فيه لمستثمرين هولنديين، كذلك ثلاثة مصانع اسمنت، والمؤسسة الوطنية لتصنيع السكر وشركتي "الخطوط الجزائرية" و"النقل البحري". ويلمح وزير التخصيص من دون أن يجزم، بأن العائدات المتوقعة من هذه العملية في نهاية السنة الجارية، يمكن أن تصل إلى بليوني دولار مقابل 486 مليون دولار في العام الذي سبق. وحول ما إذا كانت هذه الموجة من التخصيص ستشمل قطاعات الهيدروكربورات، وتحديداً شركة "سوناطراك"، التي يصفها الخبراء الأجانب ب"الدجاجة التي تبيض ذهباً للنظام"، والممنوع حتى اشعار آخر الاقتراب منها بأي شكل من الأشكال، نظراً لتقاطع مصالح أصحاب النفوذ في السلطة داخلها منذ أكثر من ثلاثة عقود، يحاول بن فليس اقناع محاوريه من مستثمرين أجانب وخليجيين وصحافيين متخصصين بشؤون الطاقة، بأن القطاع مفتوح تماماً أمام الاستثمار الخارجي، لكنه لا يلبث أن يستدرك قائلاً بأن قرار تخصيص أية مؤسسة من مؤسساته، يجب أن يخضع لتوجه اقتصادي بحت، مبني على تقويم دقيق لوضع الشركة وآفاق النمو بالنسبة للبيئة الوطنية والدولية. ويضيف بن فليس "أن التخصيص لا يشكل بحد ذاته نهاية، وبأن هناك حالات يجب أن يكون فيها وجود الدولة بشكل أم بآخر أساسياً". وهو تبرير لا يقنع المستثمرين الأجانب الذين لا يهمهم دخول هذه التجربة الجزائرية إلا من باب مؤسسات عائدة لقطاع رابح أصلاً وواعد مستقبلاً، كالهيدروكربورات، الأمر الذي جعل من هؤلاء يترددون في المجيء والاستثمار في الجزائر، خوفاً من تراجع السلطات في اللحظات الأخيرة، كما حصل مرات عدة بعدما التزمت بذلك. ومن المعوقات الأخرى التي يخشاها بن فليس ويسعى لتذليلها، وضعية البيئة التي تحيط بعملية التخصيص وتداخلات أصحاب المصالح والنفوذ المحليين، الموجودين في مواقع السلطة وحولها وخارجها، مما يمنع حسن سير تنفيذ البرنامج حسب الخطط الموضوعة، كما يعيق انجازها وفق الاصول المتبعة عالمياً، خصوصاً لناحية الشفافية المطلوبة. هذا ناهيك عن الضبابية التي تحيط بسوق القطع والضعف الكبير في بنية بورصة الجزائر للأوراق المالية، التي من المفترض أن تواكب العملية، التي لا يتجاوز عدد أعضاء الشركات المسجلة في ردهتها، عدد أصابع اليد الواحدة، ويُقر رئيس الوزراء الجزائري بهذا الوضع الذي، حسب رأيه، أدى إلى تباطؤ وتيرة الاصلاحات الاقتصادية. لذا، لجأ إلى طلب مساعدة فنية من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي لاستكمال هذه العملية، واضفاء الغطاء اللازم من الشفافية والصدقية عليها. مع ذلك، من المتوقع أن يواجه رئيس الحكومة في الأسابيع القليلة المقبلة تداعيات اعطاء تخصيص قطاع الهاتف الخليوي لمجموعة "أوراسكوم" المصرية واستبعاد شركة "الكاتيل" الفرنسية و"سيمنس" الألمانية من المنافسة. والذي تبين اليوم أن الشركة الفائزة لا تزال عاجزة عن الايفاء بالتزاماتها المالية تجاه الجزائر، الأمر الذي أدى إلى فتح عدد من الملفات الأخرى وإثارة عدد من القضايا المتعلقة بتقديم تسهيلات الى مستثمرين عرب وأجانب على حساب المستثمر الجزائري. وخلفت إثارة علاقة الصداقة بين رجل الأعمال الإماراتي علي محمد الشرف ورئيس الجمهورية عبدالعزيز بوتفليقة، وحصول الأول على صفقات مهمة، حسب وسائل الإعلام المعارضة، زوبعة في البلاد أدت إلى تدخل الوزيرة في الحكومة الحالية خالدة مسعودي ثوفي، والإعلان عن فتح تحقيق سريع حول "أوراسكوم" ستُعرض نتائجه قريباً. من ناحية أخرى، سيضطر بن فليس، على ما يبدو، إلى خوض اختبار للقوة مع عبدالمجيد سيدي سعيد، الأمين العام ل"الاتحاد الوطني للعمال الجزائريين" بسبب عدم التشاور مع مركزيته النقابية في مسألة الشركات المدرجة على لائحة التخصيص. وهدد سعيد بنزول النقابات العمالية إلى الشارع بعد الانتهاء من العطلة الصيفية وذلك للدفاع عن مكتسباتها الاجتماعية. إذا كانت الجزائر تمكنت خلال فترة وجيزة وبفضل العائدات القياسية من النفط والغاز من خفض حجم دينها وخدمته، ومراكمة احتياطاتها من النقد الأجنبي، وايصال عدد الحسابات المفتوحة في مصارفها إلى نحو من مليونين بلغت قيمة ودائعها 5.1 بليون دولار، إلا أنه يتحتم على علي بن فليس أن يضع سريعاً حداً لظاهرتين أساسيتين: الأولى، تتلخص بتبييض الأموال الهائلة عبر هذه المصارف والسيطرة على السوق السوداء، والثانية وقف هروب رؤوس الاموال إلى الخارج والتدخل السريع لحل مشكلة ديون المصارف الهالكة. وتحرير هذا القطاع وتردد المصارف الأجنبية ولوجه بقوة وإقامة شراكات فاعلة مع المصارف المحلية، تبقى رهن عملية التطهير هذه. فخطة الإصلاح الاقتصادي وروائدها جميعاً مرتبطة هي الأخرى بمدى جدية الحكومة في معالجة هذه المعضلات البنيوية. ودخول الجزائر اقتصاد السوق لا ينتهي بمجرد الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية، وفتح الأسواق أمام الاستثمار الأجنبي وتوقيع معاهدة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وإقامة مناطق تبادل حر مع الدول العربية. هذا الأمر يدركه بن فليس تمام الإدراك، لذا، عليه التصدي من دون تأخير لبارونات تبييض الأموال الذين باتوا في بعض المجالات أقوى من السلطات. في هذا السياق، أشارت أجهزة الرقابة العامة في وزارة المال، كذلك الإدارة المركزية للضرائب، بأن القروض المصرفية التي اعطيت من غير ضمانات كافية ل42 مستثمراً وهمياً ورجل أعمال ظرفياً في المدن الكبرى بلغت 50 بليون دينار. ويشير المحللون السياسيون والاقتصاديون الأوروبيون، المكلفون بالملف الجزائري، إلى أنه إذا لم يتمكن بن فليس من تطهير السوق المالية والقطاع المصرفي من هذه الشوائب في أقل من عام، فإن مصير حكومته، كذلك المستقبل السياسي الذي يعمل على تحقيقه، سيكون قاتماً. لذا، فهو في سباق مع الوقت، يعطي فيه الأولوية لتصحيح الاقتصاد وتصويب مسيرته وتنقيته من الشوائب العالقة به، على حساب السياسة. فالنجاح في هذا الميدان لا بد وأن يسحب نفسه على الأوضاع الاجتماعية، وهو في نهاية المطاف السلاح الوحيد لديه للتغلب على الهواجس الموجودة. اقتصادي لبناني.