كشف مسلسل فضائح الشركات الاميركية مدى قصور هيئات الرقابة على أسواق المال والبورصات وفداحة اعتماد إمكان الجمع بين الملكية والادارة في الشركات، فضلاً عن تقصير شركات التدقيق المحاسبي. وعلى خلاف الاعتقاد السائد، فإن النظم والقواعد المحاسبية المعتمدة ليست وحدها المسؤولة عما يجرى، لا بل إن الشوائب تطاول تطبيق هذه النظم وتلك القواعد التي وضعت نظرياً لتكون شاملة متكاملة توخياً للدقة. بداية، يمكن القول إن الهيئة المكلفة رقابة أسواق المال الاميركية SEC تلقت ضربة موجعة لأنها لم تستطع حماية المستثمرين كفاية بعدم قدرتها على الوقوف عن كثب على البيانات المالية الصادرة عن الشركات موضوع الفضائح، إذ سجلت إيرادات وهمية أو غير واقعية وأخفيت أكلاف في شركات تابعة تأسست لتدرج في موازناتها أكلافاً معينة هرباً من الاعتراف بالخسائر في الشركة الأم. كل ذلك كان من المفترض أن تكشفه هيئات الرقابة على أسواق المال بعدما عجزت عن ذلك أو تغاضت عمداً شركات التدقيق الخارجي ودوائر التدقيق الداخلي في الشركات نفسها. إن أهم حلقات التدقيق والرقابة هي في سوق المال نفسها حيث هناك هيئات عامة معنية مباشرة بالسهر على تأمين الشفافية الكاملة لأن الأمر متعلق بالمستثمرين صغاراً كانوا أم كباراً. ولدى كشف أي شائبة تجدر المساءلة والملاحقة. وهذه المسؤولية تفسر وحدها هبوط أسعار الأسهم الاميركية في الآونة الأخيرة لأن رد فعل المستثمرين كان بنزع الثقة عن الاسواق التي فقدت صدقيتها بالنسبة الى المساهمين في الشركات المدرجة أسهمها في البورصات. لذا فإن انعكاسات مسلسل الفضائح ستكون أشد أثراً في سلبياتها من انعكاسات أحداث 11 أيلول سبتمبر على الأسواق. وهذه التداعيات ستستمر في المديين القصير والمتوسط حتى تعود الاسواق لتشكل محط ثقة من جديد. فآثار 11 أيلول كانت ظرفية أما آثار الفضائح فستعيد النظر بصلب عمل النظام الاقتصادي الرأسمالي وصلب عمل آليات أسواق رأس المال فضلاً عن إعادة النظر بنظم الادارة المعتمدة وكيفية تطبيق الحكم السليم Good Governance إلا أن مطالبة أسواق المال بتشديد الرقابة أمر يبقى نظرياً بالنظر الى صعوبات جمة أبرزها أن هناك عشرات آلاف الشركات المدرجة أسهمها في البورصات، فأي عدد من المراقبين يستطيع متابعة كل هذا العدد من الشركات؟ لذا رأينا كيف أن الرئيس الاميركي لجأ الى إعلان إمكان تشديد العقوبات على المخالفين في إشارة منه الى الالتزام المتواصل بالنظم المعمول بها مفترضاً أنها سليمة ويجب أن تطبق وإلا فالعقوبات بالمرصاد. لكن ذلك لا يمنع السؤال عن صلاحيات هيئات الرقابة SEC المقتصرة على الدخول والتدقيق في شركات الوساطة المالية والمصارف من دون حق الدخول الى حسابات الشركات نفسها أو شركات التدقيق. وهنا يحضرنا المثل اللاتيني القديم: من يراقب المراقب؟ وتتعين الاشارة إلى أن الشركات موضوع الفضائح تمُتُّ بصلة مباشرة أو غير مباشرة لقطاعات التكنولوجيا الحديثة زيروكس وورلدكوم على سبيل المثال. ولذلك سبب يكمن في أن هذه الشركات لجأت الى إظهار أرباح أكبر من التوقعات بعدما تعرّضت أسهمها الى هبوط مريع خلال السنوات القليلة الماضية بعدما كان هناك ما اصطلح على تسميته ب"الفقاعة" عندما صعدت أسعار أسهم تلك الشركات على نحو جنوني غير واقعي. وهذه التقلبات وضعت شركات قطاعات التكنولوجيا والمعلوماتية تحت المجهر فتكشفت الفضائح التي لم نجدها في شركات أميركية عريقة مثل شركات التبغ والأغذية على سبيل المثال، وهي شركات عملاقة جذورها ضاربة في تاريخ الاقتصاد الأميركي. وهنا يمكن القول إن بعض القائمين على إدارة شركات التكنولوجيا أفادوا من ثغر في بعض النظم المحاسبية وغيرها علّ شركاتهم تتجنّب مخاض خفض أسعار الأسهم وتعود الى سابق عهدها في "الازدهار". إلا أن تلك الأساليب أوقعت الشركات ومساهميها كما أسواق المال في المحظور. وهذه الظاهرة ليست جديدة، فقبل 15 عاماً قامت شركة في بريطانيا نشاطها تأجير الحواسيب الشخصية وازدهرت أعمالها إلا أن أسعار الحواسيب كانت تتراجع سنة بعد سنة منذ منتصف الثمانينات. وكانت الشركة تسجل في حساباتها الحواسيب بالسعر التاريخي لها وإذ بها بعد سنوات قليلة تجد أن موازنتها مضخمة لأنها لم تأخذ الاحتياطات اللازمة لجهة تسجيل استهلاك هذه السلع المتدهورة أسعارها. فظهرت الموجودات على نحو لا يعكس الواقع. وكانت الشركة اقترضت من المصارف على أساس قيمة تلك الموجودات غير الواقعية... ثم كان الانهيار فالافلاس. ففي قطاع التكنولوجيا تقلبات مثيرة إذ يكفي أن نعرف أن سعر حاسوب "بنتيوم 4" الآن نحو ألف دولار، ولو كان هذا الحاسوب موجوداً عام 1964 لكان سعره 70 مليون دولار! مسؤولية أسواق المال وبالعودة الى مسؤولية أسواق المال والبورصات فإن الخوف من فقدان الثقة بهذه الأسواق دفع بالرئيس جورج بوش الى التدخل، كما تدخل مجلسا الشيوخ والنواب وبنك الاحتياط الفيديرالي فضلاً عن جهات فاعلة أخرى لأن الأمر متعلق بصلب عمل النظام الاقتصادي الأميركي. الجانب الثاني للقضية متعلق بما هو معتمد في الشركات الأميركية لجهة عدم الفصل بين الملكية والادارة بخلاف التقليد السائد في أوروبا إذ هناك إدارة ومجلس للمساهمين منفصلان عن بعضهما بعضاً. فللدمج بين الاثنين سلبيات تكمن في إمكان اللجوء الى المضاربة لتعظيم الأرباح. فإذا كان المدير أور ئيس مجلس الادارة مساهماً تتقدم لديه أولوية تعظيم المكاسب على حساب حسن الادارة. الى ذلك، فإن للمديرين وأعضاء مجلس الادارة الحق في الحصول على ما يسمى بالخيارات Options أي إمكان شراء حق الحصول على سهم قيمته 100 دولار بدولارين مثلاً. فإذا صعد السهم الى 110 دولارات يلجأ صاحب الحق للشراء الفعلي بسعر 100 دولار وبذلك تكون أرباحه 500 في المئة أي 10/2. لذا نرى أن رؤساء مجالس إدارات الشركات الأميركية أصحاب ثروات كبيرة تحققت من المشتقات المالية Derivatives. ولهذه التفاصيل علاقة مباشرة بما يحدث من فضائح، وها نحن نبدأ سماع اقتراحات فصل الادارة عن الملكية أو تشديد الرقابة على خيارات شراء الأسهم والمشتقات المالية العائدة لأعضاء مجالس الادارات. كما وجهت انتقادات أوروبية للنظام الأميركي المستمر في اعتماد السهم كامله. فهذا النوع من الأسهم غير مسجل بشفافية وغير مرتبط باسم بعينه لذا فإن عمليات البيع والشراء مشوبة ببعض الحذر لجهة عدم معرفة هوية المستثمر. فاذا تسربت معلومات وأفاد منها مستثمرون يعد ذلك جرماً فإن التحقيق يتعثر. أما بالنسبة إلى شركات التدقيق الخارجي مثل آرثر أند أندرسون وديلون أند توش وغيرهما فحصل لها ما حصل لشركات التصنيف ستاندرد أند بورز وموديز... التي تلقت ضربة بعد الازمة التي عصفت ببعض بلدان دول شرق آسيا وشركاتها. إذ وضعت تلك الشركات تصنيفات وصلت الى درجة AAA أي درجة الاستثمار المضمون، وذلك قبل سنة أو ستة أشهر من انهيار أسواق تلك البلدان وإفلاسات شركاتها. ولم نجد من يحاسب شركات التصنيف هذه على مسؤولياتها التي قد تكون ورطت مستثمرين منيوا بالخسائر. والحال نفسها تنطبق على شركات التدقيق الخارجي، إذ كيف يمكن الثقة بشركات لم تستطع كشف التلاعب في الحسابات مع أن مهمتها الأولى التدقيق في تلك الحسابات. ومن سيحاسب هذه الشركات على أخطائها؟ وهل الاخطاء مقصودة أم أن نظم التدقيق قاصرة؟ يبقى هناك جانب للقضية، لم نجد كثيراً من يتحدث عنه ألا وهو الاخلاق أو مبدأ حسن الادارة Good Governance. فقبل سنوات قليلة انبرت الدول الغربية ومعها البنك وصندوق النقد الدوليان لاطلاق مبدأ حسن الادارة ومحاربة الفساد على كل المستويات لا سيما المستوى الاقتصادي. وخصّت تلك الجهات الدول النامية بالنصيحة. والكرة اليوم في الملعب الأميركي الذي اندلعت فيه تلك الفضائح. لكن ذلك لا يعني أن عالم المال والاعمال في الولاياتالمتحدة فاسد، لأن إيجابيات ذلك العالم أكثر من سلبياته. ومع ذلك تجدر العودة الى النظر في نظام معمول به في بريطانيا يركز على حسن اختبار الاشخاص. فهذا النظام مطبق في القطاع المصرفي وهناك لائحة فيها من هم أصحاب كفاية وأخلاق. ومن يخرج من هذه اللائحة يستحيل عليه الدخول إليها مجدداً. وهناك أيضاً مبادئ لجنة بازل المصرفية التي تركز على الادارة كما تركز على رأس المال وكفايته والموجودات والسيولة، لكن من دون إدارة سليمة تسقط كل المعايير الاخرى الواحدة تلو الاخرى. * وزير الاقتصاد اللبناني السابق، نائب حاكم مصرف لبنان.