على رغم تأكيد الرئيس الاميركي ان الاطاحة الرئيس العراقي باتت ضرورة اميركية، الا انه قال للمسؤولين الالمان في 23 أيار مايو الماضي "ليس على طاولتي خطة حرب". الأمر الذي يفتح باب التنافس واسعاً بين اجنحة الإدارة الاميركية لاعتماد هذه الخطة أو تلك، وما يجري اليوم بين الخارجية الاميركية والبنتاغون هو أحد أوجه هذا التنافس، وما يزيده أهمية مكانة كل من وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ووزير الخارجية كولن باول على صعيدي الادارة والرأي العام الاميركي. وإذا كان البنتاغون اكثر ميلاً الى الحسم العسكري ولو بجهد منفرد، فإن الخارجية الاميركية ترغب في بناء تحالف دولي أولاً، وعليه فهي تحاول استنفاد دور الاممالمتحدة، خصوصاً في ما يخص عودة المفتشين، كما انها اكثر اصغاء لدول الجوار العربية والاسلامية من البنتاغون الذي يعلق رموزه المدنيون أهمية خاصة على العلاقة مع اسرائيل. سبق ان شدد قادة اسرائيليون باراك، نتانياهو على أهمية ضرب العراق من دون انتظار تهدئة الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي معتبرين ان التغيير في العراق عامل مساعد للتوصل الى حل سياسي لقضية الشرق الأوسط. وفي المقابل تحذر مصر والسعودية من خطر ضرب العراق قبل تهدئة الحالة الفلسطينية - الاسرائيلية، وهم بذلك يأملون في ربط اسقاط صدام بتغيير شارون. وامتد الخلاف الاميركي على الشأن العراقي الى اسلوب التعامل مع فصائل المعارضة العراقية. وفي الوقت الذي انحازت القيادة المدنية في البنتاغون وبالذات نائب وزير الدفاع وولفوفيتز، وريتشارد بيرل للمؤتمر الوطني العراقي باعتباره المظلة الوحيدة للمعارضة العراقية واعتبرت أي عمل خارج المؤتمر هو اضعاف بل تآمر ضده، فإن الخارجية الاميركية لم ترَ في المؤتمر الوطني سوى طرف معارض فشل في استقطاب فصائل المعارضة الاخرى واساء استخدام المساعدات المالية التي خصصها له الكونغرس، وعليه تسعى الخارجية الاميركية الى توسيع التعامل مع بقية أطراف المعارضة خارج المؤتمر، وذهبت الى اكثر من ذلك في دعم تنظيمات جديدة، منها "حركة الوطنيين الاحرار" ذات الغالبية السنية، والتي تم الاتفاق المبدئي على دعمها مالياً من جانب الخارجية واشنطن بوست 12 ايار 2002. ان مبادرة الخارجية الاميركية لعقد مؤتمر سياسي للمعارضة العراقية، يسبقه اجتماع لجان متخصصة للبحث في قضايا فنية، يصب في الاتجاه ذاته. الأمر الذي عارضته الأوساط الاميركية المؤيدة للمؤتمر واستطاعت فعلاً عرقلته عندما جعلت من معهد الشرق الأوسط المسؤول عن تنظيم المؤتمر هدفاً لانتقاداتها، مما اضطر الخارجية الى التخلي عن المعهد وتولي المسؤولية مباشرة، وفي المقابل عرقلت الخارجية الاميركية مشروع مؤتمر للعسكريين العراقيين برعاية المؤتمر الوطني يعقد في واشنطن. أما الكونغرس الذي سبق له ان اصدر عام 1998 قانون تحرير العراق معترفاً بالمؤتمر الوطني العراقي مظلة للمعارضة العراقية ورصد الأموال لهذا الغرض، فقد ضعف تأثيره بوصول الجمهوريين للسلطة، ومع ذلك، حاولت أطراف في الكونغرس في الشهر الماضي عرقلة مشروع للخارجية الاميركية بتقديم 3.1 مليون دولار ضمن مشروع صحي ينفذ في كردستان العراق بالتعاون مع الحزبين الكرديين الرئيسيين، لأن المشروع وهو الأول من نوعه داخل العراق يتم تنفيذه خارج اطار المؤتمر الوطني في وقت تحرم الخارجية على المؤتمر الوطني النشاط داخل العراق. أما الاستخبارات المركزية الاميركية فقد كان لها ولا يزال دور فاعل في الشأن العراقي. ويبدو من تقرير صحيفة "واشنطن بوست" 16 حزيران يونيو 2002، أن الرئيس الاميركي زاد من صلاحياتها ودورها في الشأن العراقي. والمعروف ان الاستخبارات المركزية كانت وراء نشاط المؤتمر الوطني في بداية تأسيسه في فيينا، وبعد ذلك في صلاح الدين. ولكن العلاقة تأزمت بعد انتكاسة المؤتمر الوطني في كردستان العراق عام 1995 اثر محاولة فاشلة لاسقاط النظام العراقي مما تسبب في خروجه بالكامل من كردستان العراق. اما مجلس الأمن القومي فأخذ يلعب دوراً أكثر فاعلية بتعيين الجنرال واين داونينغ Wayne A. Downing مساعداً لمستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس لشؤون مكافحة الارهاب. كان داونينغ قائد قوات العمليات الخاصة السابق، قبل تعيينه في مجلس الأمن القومي مستشاراً للمؤتمر الوطني العراقي، وساهم في بلورة خطة عسكرية طرحها المؤتمر الوطني لاقامة "جيوب" أمنية داخل العراق بحماية القوات الخاصة والقوة الجوية الأميركية. ولكن داونينغ بموقعه الجديد انفتح على فصائل عراقية أخرى، وعقد لقاءات مع بعضها بأمل ايجاد قاعدة مشتركة تضم المؤتمر الوطني والقوى الأخرى. وما يترشح اليوم من اتجاه الرئيس الاميركي الى اناطة الشأن العراقي لوزارة الدفاع ضمن مسؤوليتها عن الارهاب وفي ما بعد الحرب ضد العراق، بما يترك للخارجية الاميركية ملف الشرق الأوسط، سيكون له انعكاس على المعارضة العراقية واسلوب التعامل معها، والجدير بالاشارة ان البنتاغون اصرّ على حضور ممثل للمؤتمر الوطني في لقاء طلبت مجموعة "الأربعة" الحزبان الكرديان والمجلس الاعلى الاسلامي وحركة الوفاق عقده مع البنتاغون في حزيران الماضي، ولم يفوّت احد مسؤولي الدفاع فرصة تحذير "الأربعة" من مغبة تجاوز المؤتمر الوطني ورئيسيه تحديداً. ان عدم حسم الادارة الاميركية مسؤولية ادارة الصراع ضد حكم صدام حسين، يعني ضمناً بقاء ملف المعارضة العراقية عرضة لتناقضات اميركية أخذت تنعكس سلباً على المعارضة العراقية، خصوصاً تلك المتحالفة مع الولاياتالمتحدة والتي أخذ عددها بالتناقص مقارنة باجتماع صلاح الدين عام 1992 الذي تمخض عنه المؤتمر الوطني العراقي. ففي غياب وحدة الموقف الأميركي زاد تشرذم المعارضة العراقية خصوصاً عندما أصبح بعضها طرفاً في اللعبة الاميركية الداخلية. الحاجة الى "طائف" عراقي ان تطورات الوضع في العراق بعد أكثر من عقد على حرب الخليج الثانية، اخرجت قرار التغيير من يد المعارضة العراقية وهي تدرك بعضها في المعارضة اكثر من اربعة عقود ان غياب الدعم الخارجي يعني استمرار الوضع القائم. وان الولاياتالمتحدة هي الطرف الوحيد القادر والراغب في هذه المرحلة في الاطاحة بالنظام العراقي، ومن دون ذلك "ابشر بطول سلامة يا مربع". ولكن اعتبار واشنطن اطاحة النظام العراقي شأناً اميركياً تحكمه اعتبارات ما بعد 11 أيلول، وبالتالي الاعتماد على الغزو العسكري يجعل من دور المعارضة وفصائلها المختلفة امراً ثانوياً بالنسبة لها. ولكن هذا يجب أن لا يلغي حق العراقيين في معرفة مستقبل عراق ما بعد صدام، الا إذا كانت نية الولاياتالمتحدة حكم العراق مباشرة! ويبدو أن بعض فصائل المعارضة اختار لنفسه منذ الآن دور المعارض في عراق ما بعد صدام، فأخذت تظهر تحالفات، اهمها "اتحاد القوى الاسلامية" الذي يضم قوى اسلامية - شيعية بغالبيتها، ترفض التعاون مع الولاياتالمتحدة والنظام "الأميركي" البديل، وجعلت هدفاً لها "اعتماد الشريعة الاسلامية منهجاً لحياة الناس ونظاماً ينظم شؤونهم ومرجعاً يحتكم اليها في مشكلاتهم". كما صرح عضو المكتب السياسي لحزب الدعوة الاسلامية قاسم السهلاني بتاريخ 19 أيار الماضي، "اننا نرفض رفضاً قاطعاً التدخل الاميركي في التخطيط والتنفيذ للنظام البديل في العراق". وبرزت الى العلن بشكل حاد مخاوف اثنية ومذهبية، فالجبهة التركمانية ترفض أي حل فيديرالي يخضعهم لحكم الأكراد، كما أصدر بعضهم "اعلان شيعة العراق" تحسباً وتخوفاً من استمرار المعادلة الطائفية التي تحكم العراق منذ نشأته. يقابل ذلك مخاوف السنة العرب من أن يتعرضوا للاضطهاد باسم "حكم الاكثرية" وتحميلهم خطايا حكم صدام. وفي مثل هذه الاجواء نجد العناصر العربية القبلية نفسها مضيعة أو مجيرة لمصلحة هذا الطرف أو ذاك من دون ان يكون لها تمثيلها المباشر. كما ان هناك الاقلية الآشورية وغيرها من أقليات لم تعد تعرف أي مصير سينتظرهم في عراق ما بعد صدام يتقاسمه الشيعة والسنة والأكراد. فطرح "اتحاد بيث نهرين" الآشوري في كانون الثاني الماضي مشروعاً لدستور يقيم ثلاث مناطق للحكم الذاتي أو الادارة الذاتية، منها منطقة تخصص للكلدواشوريين تشمل محافظة دهوك "نوهدرا" بعد فرز المناطق التي تلحق بعقرة، ويلحق بها المناطق التي يسكنها الكلدوآشوريين من محافظة نينوى. وفي مثل هذه الأجواء تقلص هامش التيار اليساري العلماني الذي لا يخضع للمعايير الاثنية والطائفية، وحتى التيار الليبرالي الذي راهن على الولاياتالمتحدة يجد نفسه يتراجع في أجواء الانقسام والاستقطاب الطائفي والاثني والعشائري. هذه الاطراف كافة التي يوحدها العداء لنظام صدام، فشلت الى الآن في الاتفاق على صيغة للعيش المشترك في عراق ما بعد صدام، فكيف الحال بعد الاطاحة به! ان افتقاد النخب السياسية العراقية القدرة على التوصل الى الحلول الوسط يجعل من المساعدة الاقليمية وبالذات العربية ضرورة، فهناك حاجة عراقية ومصلحة للاطراف الدولية والاقليمية للمساعدة في توصل الاطراف العراقية الى صيغة مشتركة للعيش الآمن والأمين. ولنا في اتفاق الطائفاللبناني نموذجاً لوضع نهاية لحرب أهلية استمرت 15 عاماً. كما حال الكويتيين ابان الاحتلال العراقي، فقد ساعدت السعودية على عقد اجتماعات ضمت الأسرة الحاكمة الكويتية ومكونات المجتمع الكويتي السياسية للتوصل الى صيغة لما بعد التحرير، الأمر الذي له الفضل في عودة البرلمان والدستور في كويت ما بعد الاحتلال. فإذا كانت السعودية قد تمكنت من المساعدة في لبنان والكويت، وفي المبادرة بطرح حل للقضية الفلسطينية، فالمجال واسع لها ولدول اقليمية اخرى صديقة للغرب للمساعدة في التوصل الى اتفاق "طائف" عراقي. ان توصل هذه الدول الى قناعة بأن واشنطن مصممة على الاطاحة بصدام ولو منفردة يجب ان يقنعها من باب المصلحة الذاتية بالمساهمة والمساعدة في توصل العراقيين اليوم الى معادلة سياسية تكرس المشاركة المتكافئة لمكونات الشعب العراقي بما يضمن استقرار عراق ما بعد صدام. اما توجس تلك الحكومات العربية من الشارع العربي اليوم، فيجب ان يقابله توجس اكبر من انفراد اميركا بحكم العراق وما يخلقه من مشاكل أكبر واخطر لتلك الانظمة داخلياً وخارجياً. * كاتب عراقي، لندن.