كثيرون مثلنا من مراقبين ومحللين انتابهم، وهم يسمعون الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى ووزير الخارجية اللبناني محمود حمود وهما يعلنان يوم 82 آذار مارس المقررات الختامية والتوصيات النهائية لقمة بيروت العربية حيال ما سمي "الحال بين الكويتوالعراق"، مشاعر متناقضة من التفاؤل والتشاؤم، كانت الغلبة فيها ظاهرة عند غالبية هؤلاء المحللين والمراقبين من خلال نقاشاتنا معهم لمسحة التفاؤل. وكنا نتمنى أن نشاطرهم هذا التفاؤل، وكان التمني من جانبهم علينا ككويتيين أن نعطي الأمور ما تستحقه من ليونة وما تتطلبه من تغليب للعقل على العاطفة، حتى اننا تقبلنا اتهامات البعض لنا بأننا مغالون في التشاؤم وفي فقدان الأمل بأي "ترياق يأتي من العراق"، وبأننا كذلك "متعجلون مستعجلون" لا نعطي للمساعي بعضاً من وقت تحتاجه. يومها سكتنا على مضض وتمنينا لو كنا مخطئين في حكمنا على الأمور وفي نظرتنا الى واقع الحال، لأننا كما يقول المثل نريد "أن نأكل عنباً ولا نريد أن نقتل الناطور"، ويومها تحركت القيادة الكويتية بما تمليه عليها مسؤوليتها التاريخية أمام شعبها وأمتها، وما تفرضه عليها المصلحة القومية العليا، مدفوعة ببعض من أمل لاح من خلال تصريحات رئيس وأعضاء الوفد العراقي إلى قمة بيروت، فكانت تصريحات رئيس الوفد الكويتي النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد الصباح، وكذلك تصريحات وزيري الشؤون الخارجية الدكتور محمد صباح السالم الصباح ووزير الإعلام والنفط بالوكالة الشيخ أحمد فهد الأحمد الصباح على شاشات الفضائيات العربية وصفحات الصحف والمجلات التي ترحب بالمواقف العراقية وتؤكد أن دولة الكويت تحرص على وحدة العراق وشعبه حرصها على أي شعب عربي آخر، وتشدد أيضاً على أن الكويت ترفض استهداف العراق بأي ضربة وتحت أي ذريعة، بل لا يعنيها تغيّر النظام العراقي الذي يبقى شأناً داخلياً لا دخل للكويت فيه. يومها أيضاً اتهمت الحكومة الكويتية من جانب الصحافة الكويتية وبعض النواب بأنها تغالي في "ايجابياتها" وتبالغ في ابداء الثقة بحل مرتجى يأتي من بغداد، وكان رد الحكومة يومها التمني بلسان الشيخ صباح الأحمد على صحافة الكويت التي لا سلطة للحكومة عليها التخلي عن بعض التعابير واعتماد بدائل لها من مثل: جمهورية العراق بدل النظام العراقي والأسرى والمفقودين بدل "المرتهنين" والرئيس العراقي بدل "حاكم بغداد". في المقابل ماذا كانت النتيجة... وما هو الواقع المر؟.. النتيجة والواقع، مع الأسف، وبعد ما يقارب الشهرين ونيفاً المزيد من التسويف والمماطلة، "حالة مستعصية" كما وصفها رئيس مجلس الأمة الكويتي جاسم الخرافي. اذ يحاول العراقيون الهروب إلى قضايا أخرى تشكل باعتقادهم الأولوية لهم مثل موضوع الحوار مع الأممالمتحدة الذي رحبت به دول الخليج قاطبة والكويت في مقدمها، وأبدت حرصها على نجاحه، ومثل موضوع التعامل مع التعديلات على نظام العقوبات. وحيال هذا الواقع لا يمكن الكويت أن تصبر أكثر وأن تتهاون أكثر، وهي من هذا المنطلق تحركت عبر أكثر من قناة وعلى أكثر من صعيد، فكانت الزيارات المتكررة لوفود برلمانية كويتية، كان اخرها الزيارة التي قام بها وفد اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى والمفقودين برئاسة الشيخ سالح الصباح إلى بعض الدول العربية وإلى لبنان باعتباره رئيساً للقمة العربية حالياً، ونظراً للدور الذي طالما لعبه على صعيد تأييد القضايا العربية المحقة، فكيف بقضية انسانية بهذا الحجم. علماً أننا في الكويت نرحب بالتحرك اللبناني لتفعيل قرارات قمة بيروت في موضوع الحالة وتحركه باتجاه بغداد. لقد أعلنت الكويت منذ انتهاء قمة بيروت أن الفترة الفاصلة بين قمة بيروت وقمة المنامة في آذار مارس المقبل ستكون فترة اختبار للنيات العراقية، وفترة امتحان أيضاً لقدرة قادة الدول العربية الشقيقة على وضع مقررات قمتهم الأخيرة في بيروت موضع التنفيذ، خصوصاً لناحية الحال العراقية - الكويتية والتي من شأن ايجاد حلول لها أن تنعكس مزيداً من التضامن على المستوى العربي في فترة حرجة من حياة الأمة، وهذا ما أكده أكثر من طرف عربي وأكثر من صوت حر ارتفع مطالباً العراق باستكمال تنفيذ مقررات قمة بيروت وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة وفي مقدمها اطلاق سراح الأسرى والمفقودين الكويتيين. فها هو الأمين العام مجلس التعاون لدول الخليج العربية عبدالرحمن بن حمد العطية يقول إن على العراق الايفاء بالتزاماته لجهة الأسرى وإعادة الممتلكات الكويتية المسروقة، مما يسهم في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة لتوحيد الصفوف والجهود ولنصرة قضايانا العادلة للأمتين العربية والإسلامية. وها هو رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري يعلن من قلب الجنوب اللبناني في احتفال إعادة بناء القرى المحررة، بأن الكويت عانت ولا تزال من ظلم ذوي القربى. وها هو أيضاً وأيضاً رئيس تحرير صحيفة "الأهرام" القاهرية إبراهيم نافع يدعو العراق أيضاً وأيضاً إلى مواصلة خطوات المصالحة مع الكويت. وانه آن الأوان أن تغير بغداد أفكارها السياسية ومواصلة الطريق الذي بدأته في قمة بيروت لحل المشكلات العالقة مع الكويت والاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه وتجاوزه، لأنه لا ينبغي أن يقع شعب عريق كالعراق تحت طائلة الحروب الدائمة والحصار. لكن العراق، ومع الأسف، لا يزال يمارس، كما قلنا، سياسة الهروب إلى أمام، ولا يزال رموزه يحاولون من آن لآخر محاولة حرف الأمور في متاهات جانبية، ورمي الكرة إلى ملاعب الآخرين، وبالتحديد ملعب الكويت، على غرار ما ورد في صحيفة "المستقبل" اللبنانية بتاريخ 29/5/2002 على لسان مسؤول عراقي وصفته بالمرجع السياسي الذي يشرف على الديبلوماسية العراقية من "أن المسؤولين في الكويت أعطوا تعليمات بوجوب وقف الحملات، لكن بعد مرور أيام أو أسابيع قليلة عاد بعض هؤلاء وعلى مستوى عالٍ، ليشنوا هجمات على العراق، ثم ما لبثت الصحف أن تبعتهم ولا نعرف سبباً لذلك". من حقنا هنا التساؤل حيال هذه المواقف: هل مواصلة المسؤولين الكويتيين إثارة مسألة الأسرى والمفقودين والمطالبة بحل قضيتهم الإنسانية العادلة هو هجوم على العراق؟ وهل المطالبة بإعادة الوثائق والممتلكات الكويتية وهي حق للكويت، هي هجوم على العراق؟ ثم هل فات المسؤول العراقي أن الصحافة في الكويت هي صحافة حرة لا تملك الحكومة أي سلطة عليها وعلى توجهاتها ومن حقها إثارة القضايا الكويتية المحقة، على عكس الصحافة في العراق المملوكة من الدولة والموجهة من دوائر النظام والحزب الحاكم. ثم ينتقل المسؤول عن الديبلوماسية العراقية ودائماً وفق صحيفة المستقبل الى القول: علينا ان نتحاور وجهاً لوجه وبرعاية لجنة المتابعة او استطراداً الجامعة العربية وقد اعلن العراق استعداده لاعادة الوثائق الى الكويت وكذلك "الرعايا" والممتلكات للكويتيين. لكن هذا الاستعداد يجب ان ينفذ عبر آلية يتفق بشأنها عبر لقاءات مباشرة والعراق مستعد لتسليمها الى الجامعة العربية او مباشرة الى الكويت ويجب ان نجري مفاوضات مباشرة وليس عبر الصحف، فالقضية تتعلق بدولتين متجاورتين وشقيقتين عربيتين ويجب ان نتفاوض في ضوء هذه الخلفية. هذا الكلام الذي يحاول فيه العراق القفز فوق القرارات العربية والدولية ليس وحده الذي يدفع الكويت من جديد الى النظر بريبة والى رسم علامات استفهام كبرى حول النوايا العراقية، فالمسؤول العراقي نفسه يعود الى ترداد النغمة ذاتها في قضية الاسرى والمفقودين الكويتيين والتي رددها قبله مسؤولون عراقيون في موقع القرار ويعود بالقضية الى النقطة الصفر عندما يحاول ان ينفي وجود أي اسير او معتقل كويتي تماماً كما كان يردد في شأن الاسرى الايرانيين، داعياً الكويت الى تأليف لجنة كويتية - عراقية للبحث في اي مكان تريده داخل العراق عن هؤلاء ومتجاهلاً ان الفيصل والمرجعية في الحالة بين الكويتوالعراق هو قرارات الاممالمتحدة ذات الصلة بعدوانه على دولة الكويت. ثم انه وفي سيناريو عجيب غريب يعلن مسبقاً ان المفقودين الكويتيين فّروا عام 1991 خلال "الانتفاضة" التي دعمتها ايران حيث فتحت السجون يومها واحرقت المستندات وبالتالي لم تعد هناك سجلات يستدل منها على مصير الاسرى الذين فروا في اتجاهات متعددة". هذا السيناريو الذي تحاول بغداد اقناع العرب به، بل تحاول "تمريره" على قادتهم، راسمة لنفسها صورة "المتعاون" و"المتجاوب" و"المستعد لحل الامور عن طريق الحوار المباشر مع الكويت او عبر الجامعة العربية في الالتفاف على قرارات مجلس الامن ضاربة بعرض الحائط بكل القرارات الدولية ذات الصلة والتي يمتنع العراق حتى الآن عن تنفيذها رغم الحصار المفروض عليه، فهل يريد القائمون على النظام العراقي اقناعنا واقناع القادة العرب بأن ما امتنعوا عن الالتزام به رغم وعدهم بذلك سوف يقدمونه على "طبق من ذهب" الى الكويت والى الجامعة العربية مباشرة. خبرت الكويت النيات العراقية على مدى اثنتي عشرة سنة، ولذا فهي تضع هذه الصورة امام قادة العرب وامام لبنان الذي يرأس حالياً القمة العربية، وامام لجنة المتابعة العربية، مطالبة اياها بالمحافظة على "صدقية" القرارات التي تدعو العراق الى اطلاق الاسرى والمفقودين الكويتيين في سجونه والى اعادة الممتلكات والوثائق الكويتية. وهي تدرك تمام الادراك، مع الاسف، ان العراق لم ينجح في اختيار بناء "الثقة المفقودة". كما انه تتمنى أن يرعوي العراق ويعود الى رشده خدمة للتضامن والوحدة العربية في زمن الانكسار والوهن العربي في وقت لسنا فيه بحاجة الى المزيد من المغامرات والمقامرات لزيادة الضعف والانكسار. ويحدونا في النهاية قول لوزير الدولة للشؤون الخارجية الشيخ محمد الصباح بأن الكويت تعتبر ما حدث في قمة بيروت من تعهد عراقي باحترام امنها وسيادتها واستقلالها وعدم تكرار ما حدث عام 1990 من عدوان على بلادنا تطوراً ايجابياً، الا ان الاعتذار نهج وممارسة وليس بحثاً عن الكلمات. * استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت.