يقول المثل الدارج: "عليك أن تزور البندقية مرة في حياتك ثم تموت مرتحاً"... وهو فحوى المثل العالمي الذي يجعل من مدينة البندقية الجميلة قبلة القلوب الباحثة عن طمأنينة اليقين. زائر البندقية يذهب إليها مدفوعاً بشوق الحاج العارف والمطمئن إلى أنها المكان بأل التعريف الذي اتفق العالم أجمع على أنه ذروة تجلّي جماله وخلاصة هذا الجمال في بقعة واحدة، تختصر - كالمحجة - ورعه وشوقه إلى الاستعلائي أو الترانسندانتال بحسب قاموس "المنهل". يعرف الذاهب إلى البندقية أنه يسير في عكس اتجاه المدينة القادم منها، مهما كانت هذه المدينة. يعرف الذاهب أنه إنما يتجه إلى مكان العزوف والانقطاع، انه يقفز من هذا العالم إلى مكان خيالي يكاد ألا يكون موجوداً أو يكاد أن يختفي بلحظات. يعرف ان جسده سيتحرك بشكل مختلف تماماً في فضاء وقت فالتٍ لا تنتظمه معايير المدن الأخرى. زائر البندقية يسير دائماً على قدميه، متبعاً كتب الدليل السياحي كافة التي تنصحه، جميعها، في صفحاتها الأولى أن يترك نفسه للسهو والضياع في الأزقة الصغيرة الضيقة، بين الجسور الحجرية والخشبية، حتى يكتشف المدينة على ايقاع الصدف والمفاجآت. ويعرف هذا الزائر أنه، إن أعياه التعب وأراد العودة إلى فندقه، لن يستطيع أن يستقل تاكسي ولن يجديه نفعاً اتباع أرقام المباني في الأزقة والساحات، وان عليه التوجه إلى حيث تتسع مساحات المياه لتُرشد طريقه... هكذا... بالعودة إلى الغريزة، إلى الذكاء البدائي. لو أريد يوماً تغيير اسم البندقية لسمّاها العالم بالاجماع، ومن دون تردد، "نوستالجيا". إنها المدينة المندثرة في الأزمنة الغابرة والتي يخاف البشر كثيراً من فقدانها، من فقدان قابليتهم على التذكّر وعلى لعب الخيال. وموت الوقت العمومي الشديد الواقعية هو ذلك الحنين إلى البطء وإلى السهو والسَهَيان. إنها الملعب والفسحة حيث تستعيد الأجساد ذاكرتها القريبة التي لم يروّضها بعدُ تماماً ايقاع الوقت الجديد. فالأجساد السائرة في أزقة البندقية وساحاتها تتعب تعباً آخر... يشبه تعب الحصادين أو تعب صيادي السمك. إنه مغيب آخر يفتح الباب إلى نوم عميق لا تتصوره ملبداً بالحبوب المهدئة... الذاهب إلى البندقية هو المسافر العازف عن مدينته، المشتاق إلى نسيانها وإلى اغراق صورتها في المياه العميقة. في المياه الواسعة والعميقة، تلك التي يقول العارفون في علوم النفس إنها صورة النوستالجيا بلا منازع. ذلك أن جيناتنا البشرية التي خرجت من الماء، ثم من مياه الأرحام، لا بد وأن تشدنا إليها... لا بد. ترى هل نستطيع تشبيه البندقية بالمدينة - الأم التي نذهب إليها ذهاب البالغين إلى طفولاتهم التي انقضت. * * * اتجاه السهم المعاكس تماماً للبندقية يُشير إلى واشنطن. الذاهب إلى واشنطن يشعر أنه يخطو في رحلة البلوغ. رحلة كتلك التي يسير فيها المراهقون للانتقال من الطفولة إلى الرشد بكل ما يستدعي ذلك من شعائر تقرن الألم بلذّة الفخر بالقوة التي تُدخلك عالم البالغين. إنها غواية البلوغ التي تجعل الطفل محارباً فاعلاً في الواقع ومغيّراً فيه. واشنطن هي عالم اليقظة. لا تستيطع أن تفهم مدينتك - أو العالم - إن أنت لم ترَ واشنطن. هنا أيضاً ومن دون مثل دارج: عليك أن ترى واشنطن مرة واحدة في حياتك لكي تموت بعدها مرتاحاً أو عارفاً. إنها فرصتك لكي تتوقف عن التخبط في الأسئلة المرّة وغير المجدية. لكي تتوقف عن ترداد اغنيتك القديمة البائدة التي لا يسمعها أحد... واشنطن الهائلة. الهائلة الاتساع والقوة. مجرد المرور في قلبها يُدخلك في طقس البلوغ وشعائره دفعة واحدة. حجم الأبنية المقدودة على نسق الجبال الراسخة يبث في الناظر وجلاً من أوزان لا يمكن احتسابها بالمقاييس البشرية المعروفة. كأنك أمام اهرامات الجيزة. لكن اهرامات الجيزة تشفع بخيالك إذ هي تُرفق المشاهدة بصورة الفرعون - الإله، وتشفع أيضاً بخيالك إذ تنبئك بالوقت السحيق الذي مضى على موت ذلك الفرعون - الإله وتغيّر الأزمنة. فاهتراء الحجر بفعل الوقت يخفف من ذلك الخوف الذي تُمليه صورة العظمة والجبروت غير المعروفة حدودهما. حجر الأبنية في قلب واشنطن نظيف، رخامي اللمعان، جديد كأنه يُبنى كل يوم. لا تستطيع تصور مهندس معماري فرد يرسم خريطة المبنى الأميركي. يتهيأ لك انه دماغ جماعي، شبه هيولي، هو من هندس المبنى وأراد له ذلك النسق النيوكلاسيكي. وهذا الدماغ الجماعي، شبه الرباني، قرر ان يستوحي فكرته من عاصمة العظمة المطلقة، روما: أم المدن والحضارة. فالمثلث الجبهي الذي يعلو الأعمدة نسق روماني معمم، لكن المبنى الاميركي الذي يستوحيه يتجاهل أناقة وطلاوة المثلث والعمود، ورشاقتهما ومشاقتهما، لتجيء خطوطه مستقيمة ظلفة واضحة لا يشوبها أي نقش أو حفر يخفف من وطأة حجمه المضاعف مرات عدة. يتأفف سكان روما من النسق الهندسي النيوكلاسيكي الذي خلفته في مدينتهم فاشية موسوليني وفكرتها عن عظمة الأبنية. ويضيق سكان موسكو بماضيهم السوفياتي الماثل في أحجام الابنية الستالينية التي ترزح على أرض مدنهم كالاثم القديم الذي يعيق حركة الهواء وينفذ الى السماء كمسامير عملاقة مقلوبة. لكن الأميركي لا يبدو ضائقاً بمباني عاصمته. انه مرتاح فيها راحة تشبه الإلفة. انه معاصر لها، عظمتها لم تنقض ولا شيء يوحي له بأن الزمن قد يقرض حجارتها ويسير بها الى التآكل والقدم. بعد ايلول الماضي، انتبه الاميركي الى ان أبنية مدنه قد تنكسر بفعل غيرة البرابرة البعيدين عن الحدود، لكن الحجر المكسور ليس في البال المطمئن سوى دليل اضافي على عظمة البناء، وإذ ذاك فإن اعادة بناء ما انكسر تندرج في الحياة والمسار الطبيعيين للاشياء. واشنطن هي روما، معدلة ومنقحة بحسب الزمن الجدد. انها فهم العالم المعاصر الفوري ودرسه الذي لا يقبل النقاش. إنها مبانٍ هائلة الاحجام ومساحات هائلة الاتساع تقول براحة كبيرة انها قلب العالم، حاكمه ودماغه. إنها المدينة - الأب. المدينة البالغة المعلمة للواقع بلا هوادة. تقدم لزائرها، غير الاميركي، درساً في التواضع لمجرد ان يقيس جسده الغريب بأحجامها، وتقدم له ايضاً رغبة جامحة في التماثل... في ان يكون، بشكل ما، اميركياً... في ان يكون، بشكل ما، مالكاً لمكتبة الكونغرس، المكتبة الأضخم في العالم... خليةً في ذلك الدماغ الهيولي الذي يهندس العالم بوقته ومدنه. غواية المحارب وقد أدرك بأس البلوغ. تستطيع أيضاً أن تكره واشنطن وتدعو عليها بالخراب، بكل أنواع الخراب: ذلك الذي يحمله الوقت إلى الاهتراء والتآكل أو ذلك الذي يكسر الحجارة كسراً، كلها ودفعة واحدة حتى لا يكون هناك مجال للندم، ندم أهلها أو ندم زائريها. غواية قتل الأب، كما يقول العارفون في علوم النفس. إنها مدينة اليقظة التي لا تسمح بالسَهَيان أو الحلم. والداعون عليها بخراب عاجل إنما هم الرومنطيقيون العالقون في طفولات تشبه الكوابيس.