يتناول الناقد جابر عصفور الامين العام للمجلس الاعلى للثقافة في مصر مسار الناقد عبد القادر القط وتجربته الطويلة والمراحل التي اجتازها، عبر هذه الدراسة المعمقة التي ننشر اجزاء منها. وكان القط غاب قبل ايام بعدما فاز بجائزة مبارك. عبد القادر القط 1916-2002 واحد من ألمع تلامذة طه حسين 1889-1973 الذين تأثروا بمشروعه الأدبي والثقافي، شأنه في ذلك شأن محمد مندور 1907-1965 ولويس عوض 1915-1990 وعبدالعزيز الأهواني 1915-1980 وسهير القلماوي 1911-1997 وشكري عياد 1921-1999 وغيرهم من أبناء طه حسين وبناته الذين تلقوا العلم على يدىه في كلية الآداب في الجامعة الأم، الجامعة المصرية التي أصبحت جامعة القاهرة، واقتربوا منه في مجالات الممارسة المختلفة، وظلوا أوفياء لما يمثله الأستاذ، كل على طريقته وفي مدى توجهه الخاص، على امتداد الرحلة التي سبقوا فيها عبدالقادر القط إلى الرحيل عن دنيانا. .... يشبه المشروع الأدبي لعبدالقادر القط مشروع أستاذه الذي يبدأ منه، ولا يقتصر عليه، بل يمضي إلى ما يغدو استجابة لمتغيرات الواقع والعالم، في حيوية لم تعرف الانغلاق أو النكوص عن قيم البدايات الأصيلة. وينبني هذا المشروع على محاور ثلاثة. أولها: الوعي بالتراث وعدم الانقطاع عنه، وثانيها: الانفتاح على الثقافة الأوروبية والتفاعل معها، وثالثها: الإخلاص للواقع الحي في مدى الممارسة الأدبية والثقافية. وتتضافر هذه العناصر معاً بما يؤسس منظومة متجاوبة العناصر، متفاعلة المكونات، تبين عن وعي نقدي يجعل من المعاصرة التجسّد الحي للأصالة. ويترتب على ذلك أن يغدو الانتساب إلى تيار بعينه في الواقع نقطة البدء والمعاد، سواء في الحركة إلى الماضي التراثي الذي لا بد من فهمه لإدراك تأثيره في الحاضر أو امتداده فيه، أو الحركة إلى الآخر الأجنبي الذي لا بد من الإفادة منه، والتفاعل مع انجازاته بوضعها موضع المساءلة، وذلك من منظور الانتماء في الواقع الحي الذي يموج بالصراع. وكانت الحركة إلى الماضي التراثي هي المجلّى الأول، من حيث الزمن، في تعاقب الممارسة النقدية لمشروع عبدالقادر القط، منذ أن تخرج في قسم اللغة العربية في كلية الآداب - جامعة القاهرة - سنة 1938، ومنذ أن عمل أميناً بمكتبة الجامعة في العام التالي لتخرجه إلى أوائل سنة 1945، حيث أوفد في بعثة إلى جامعة لندن لنيل درجة الدكتوراه في آذار مارس 1945، وظل هناك إلى أن حصل على درجة الدكتوراه في شهر آب أغسطس1950 في موضوع "مفهوم الشعر عند العرب، كما يوضحه كتاب الموازنة للآمدى". وهو موضوع يكشف عن البداية السليمة للتجديد بحسب الصيغة التي أوجزها أمين الخولي بقوله: أول التجديد قتل القديم فهماً. وقد بدأ عبدالقادر القط حياته الأدبية بكتابة الشعر مثل أستاذه طه حسين الذي هجر الشعر إلى القصة والرواية. أما القط فظل مخلصاً لكتابة الشعر منذ أن كان طالباً في قسم اللغة العربية، متأثراً بالأصوات الرومانسية العالية الصدى في زمنه، من أمثال شعراء أبولو الشابي، وعلي طه، وناجي... إلخ وجماعات المهجر الشمالي والجنوبي جبران، ونعيمة، وإيليا أبو ماضي... إلخ وظل يواصل كتابة الشعر الذي لم ينقطع عن إبداعه في سنوات البعثة، بل بعد أن عاد من بعثته إلى القاهرة، وتسلم عمله مدرساً في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة عين شمس عند انشائها سنة 1951. وقد جمع ما انتقاه من قصائد هذه المرحلة في ديوان شعر أطلق عليه اسم "ذكريات شباب". وظل الشعر في خلده، لا يفارقه، بل سعى إلى النظم بالعامية في سنواته الأخيرة، ولكن ظل يتحرج من نشر شعره اللاحق، ربما بسبب الجذور الرومانسية التي لم تفارقه، والتي بدت غريبة بعد التغيرات الجذرية التي حدثت للقصيدة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. وإذا كانت البداية بالشعر قادته إلى التراث، والحوار الإبداعي معه، فإنها أَفْضَتْ إلى ضرورة مراجعة المفهوم التراثي للشعر، ومن ثم اختيار نقد الشعر في التراث النقدي موضوعاً لرسالة الدكتوراه، واختيار كتاب "الموازنة بين الطائيين: أبو تمام والبحتري" لأبي الحسن الآمدي نموذجاً يمكن من خلال دراسته - في خصوص آرائه - دراسة عموم الآراء التي تكوّن منها مفهوم الشعر السائد في التراث النقدي. وكان اختيار كتاب الآمدي يعني الانحياز إلى تيار النقد التطبيقي الذي يعتمد الذوق المدرّب على قراءة النصوص الإبداعية والعارف بأسرارها التقنية، كما كان يعني الانصراف عن تيار النقد النظري الذي اعتمد المنطق واقترب من الفلسفة، وتباعد في تنظيره عن عفوية التناول الذوقي المباشر للنصوص الشعرية، وذلك على نحو ما رأى القط في كتابات قدامة بن جعفر "نقد الشعر" وكتابات غيره من البلاغيين الذين تباروا في شرح تلخيص كتاب "المفتاح" للسكاكي. وبقدر ما كان الانحياز إلى النقد التطبيقي تعبيراً عن موقف نقدي، يحرص على المقاربة الذوقية المباشرة للنصوص، كان هذا الانحياز تجسيداً لمعيار قيمي لا يقبل من الشعر إلا ما صدر عن القلب وخاطب القلب في الوقت نفسه. وانتهى القط في رسالته إلى الهجوم على شعر المديح، وبخاصة الملابسات الاجتماعية التي أفضت به إلى المبالغة، وأدّت إلى انحدار الشعر العربي بأسره. وأصبح واضحاً في وعي القط، من خلال رسالة الدكتوراه، أن الأصل في الشعر هو الوجدان الفردي، وأن الأساس في حيويته الارتباط بقدرة الشاعر على التعبير عن ذاته في حرية، تخلو من قيد المنفعة الضيقة أو الدعاية الفجة أو الملق الكاذب. وكان الإطار المرجعي في مناقشة القضايا، وتحديد درجات القيمة الإبداعية، نظرية التعبير التي سبق القط إليها أستاذه طه حسين وزميله الأكبر سناً محمد مندور الذي سبقه إلى دراسة التراث النقدي للشعر، واهتم مثله بدراسة الآمدي بصفته قطباً من أقطاب مدرسة التذوق السليم، وذلك على نحو ما نرى في كتابه "النقد المنهجي عند العرب" الذي مضى في أفق لم يتعارض معه، جذرياً، الأفق الذي مضى فيه، بعده، القط في أطروحته التي أصّلت في وعيه النقدي الإيمان بنظرية التعبير، لكن في مراحلها المتطورة. ودليل ذلك موافقة محمد مندور على ضرورة تخلص الشعر من "الطرطشة العاطفية" أو "الهشاشة العاطفية" والغوص في معاني الوجود ومشكلاته مع الحفاظ على روح الشعر: الوجدان الفردي الذي أشار إليه عبدالرحمن شكري في بيته الشهير: ألا يا طائر الفرودس: إن الشعر وجدان. ولكن القط - من ناحية مقابلة - يخالف محمد مندور في جعل خاصية "الهمس" إطاراً مرجعياً لتحديد الشعر. وكان مندور رأى في شعر المهجر نموذجاً حياً للشعر المهموس الذي هو نقيض شعر الخطابة، وقرين نجوى الروح في رقتها، ولكنه نفى عن الهمس صفة الضعف. فالشاعر القوي هو الذي يهمس فتحس صوته خارجاً من أعماق نفسه في نغمات حارة، كما أنه عدو الخطابة التي تغلب على الشعر فتفسده وتبعده من الصدق، وغير الارتجال الذي يقترن بالتدفق العفوي الذىي يأتي بأي شيء، فالهمس إحساس خاص بتأثير عناصر اللغة واستخدام تلك العناصر في تحريك النفوس وشفائها مما تجد. وذلك تصور لم يقبله على علاّته القط الذي ظل يرى في "الهمس" مصطلحاً ملتبساً، كما ظل يرى أن من الشعر ما يصدر عن جيشان عاطفي قوي يقتضي حدة إيقاع وقوة عبارة. وتوقف عند نقد مندور لقصيدة ميخائيل نعيمه "أخيي" "في الميزان الجديد" ورأى فيه نقداً انطباعياً، لا يكفي للكشف عن جماليات القصيدة على أسس موضوعية. فمثل هذا الكشف يحتاج إلى نهج جديد، يبدأ من نظرية التعبير، ولا يتوقف عندها، بل يسعى إلى الإفادة من النقد الذي أصابها على أيدي النظريات الموضوعية في الفن، وبخاصة نظرية "النقد الجديد" التي اقترب عبدالقادر القط هوناً من مدخلها التقني في دراسة نص العمل الفني. ويفضي هذا الاقتراب إلى المحور الثاني من مشروع عبدالقادر القط النقدي، في تفاعله والنقد الأوروبي، والصلة بتياراته الإبداعية في الوقت نفسه. فقد وقع طوال سنوات بعثته تحت تأثير الأصوات النقدية الأوروبية التي لم تقطع علاقتها بنظرية التعبير، وسعت إلى تعديلها وتطويرها. وسرعان ما قادته هذه التعديلات إلى معرفة "النقد الجديد" الذي ازدهر في انكلترا والولايات المتحدة، وكان من رواده ت. إس. إليوت، ومن أعلامه آي. إيه. ريتشاردز وتلميذه إمبسون، فضلاً عن ف. ر. لي÷ز في انكلترا، وفي اميركا: كلينث بروكس، ومزات، آلان تيت، وارن، جون كرو رانسوم الذي استمد التيار النقدي كله اسمه من كتابه "النقد الجديد" الذي صدر سنة 1941. ولم يوغل عبدالقادر القط في التأثر بهذا النقد، أو الأخذ عن أحد من أعلامه، كما فعل رشاد رشدي أو تلاميذه الذين تابعوه بإحسان أو غير إحسان. ويبدو أن سبب عدم إيغاله في الأخذ عن هذا النقد، والحفاظ على أصوله التعبيرية، هو ما ينطوي عليه هذا النقد من خطر عزل الأعمال الأدبية عن سياقاتها الفردية والاجتماعية، والإسراف في الإيمان بمبدأ أن الأعمال الأدبية توجد ولا تعني، وأنها كيانات جمالية قائمة بنفسها، مستقلة عن كل ما عداها بصفتها علاقات جمالية لا تتطلع إلا إلى ذاتها، ولا يرى منها الناقد إلا ملامحها الشكلية التي تؤكد أن الفن فرار من الشخصية واطِّراح للنزعة الإنسانية. ولا شك في أن ما في أصول نظرية التعبير من وصل العمل الفني بوجدان صاحبه، والتسليم ضمنياً بتأثر هذا الوجدان بالواقع الاجتماعي السياسي، هو الذي قاد القط إلى رفض الانغماس في النزعة التقنية للنقد الجديد، والاقتراب - بدل ذلك - من النظريات التي أكدت ضرورة الصلة بين "الأدب والحياة" أو "الأدب والواقع الاجتماعي" وغير ذلك من الشعارات التي رفعتها الطليعة النقدية اليسارية طوال الخمسينات والستينات، وهي الشعارات التي وجدت صدى في وعي القط الذي ظل منطوياً على أصوله الزراعية بصفته منتسباً إلى أسرة ريفية في إحدى قرى محافظة المنصورة، وبصفته مخلصاً لأفكار طه حسين عن العدل الاجتماعص بما لا يتعارض مع معتقداته الليبرالية، وذلك في سياق انبعثت فيه استجاباته المتعاطفة مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي أفضت إليها ثورة تموز يوليو سنة 1952، خصوصاً ما ارتبط منها بالعدل الاجتماعي، وما واكبها من دعاوى أدبية، تؤكد ضرورة إسهام الأدب في تحرير الواقع من قيوده الجامدة. .... وكان واضحاً لكل من يتابع ممارسة عبدالقادر القط التي امتدت إلى أكثر من نصف قرن أن ارتباطه بالواقع الحي كان يجذبه إلى مشكلات هذا الواقع في تجلياتها الأدبية على وجه الخصوص، ولذلك لم ينغلق على نفسه في المؤلفات الأكاديمية التي لا يجاوز تأثيرها أسوار الجامعة، وإنما سعى إلى الإسهام المستمر في الحياة الثقافية، والانغماس في قضاياها ومعاركها، مجسِّداً رسالة أستاذه طه حسين الذي تعلم منه أن معنى الجامعية الحقة لا يكتمل إلا بإسهامها في تغيير الواقع خارجها، والسعي إلى الارتقاء به فكراً وثقافة وإبداعاً وعملاً سياسياً واجتماعياً. صحيح أن القط لم يندفع في العمل الاجتماعي العام، ولم ينغمس في الممارسة السياسية على نحو ما فعل أستاذه طه حسين، وذلك بسبب الظرف الاجتماعي السياسي المتحول في عالم ثورة تموز يوليو من ناحية، وبسبب طبيعته الشخصية من ناحية ثانية، ولكنه انغمس بكيانه كله في الحياة الثقافية بندواتها ومجلاتها وجرائدها ومؤتمراتها وقضاياها ومشكلاتها. وأتصور أنه كان يجيب بهذا الانغماس عن السؤال المهم: أَمِنَ الخير للناقد أن ينعزل عن الحياة حوله داخل قاعة المحاضرات، أو قاعة المكتبة، فيخرج كتاباً وراء غيره، من دون تأثير فاعل في الحياة من حوله، أم يقتحم الحياة خارج أسوار الجامعة حتى بمحاضراته داخل الجامعة، ماضياً في ممارسة دوره الثقافي الذيي يسهم في تطوير هذه الحياة، والتأثير فيها بالكتابات التي تصدر عنها لتعود إليها؟! وكانت إجابة القط متجسدة في ممارساته التي انطلقت من الجامعة إلى الحياة، ومن الحياة إلى الجامعة، في مراوحة لم تتوقف، خصوصاً في حرصها على نقل مشكلات الثقافة الفعلية في الحياة إلى الجامعة، ورصانة الدرس الجامعي إلى خطاب الحياة الثقافية، وذلك طوال سنوات حياته المديدة التي امتدت الى عامه السادس والثمانين. .... وأتصور أن ارتباط القط بتحولات الواقع الثقافي وسعيه إلى توجيه هذه التحولات، كانا واضحين منذ البداية، في الخمسينيات، خصوصاً في ما كتبه عن يوسف السباعي الذي ظل يتهمه بالشيوعية، وما أبعده منها، وتسبب في منعه من السفر إلى الخارج في سنة من سنوات الخمسينات. ولكن نزوعه النقدي المعادي لرومانسية السباعي ظل مستمراً، وظل إيمانه بعلاقة الأدب بالحياة قائما. ظهر في ما كتبه عن رشاد رشدي ومدرسته، في مطلع الستينات، وما كتبه عن لويس عوض في ما رآه إسرافاً في استخدام النقد الأسطوري في قراءة ديوان صلاح عبدالصبور "أحلام الفارس القديم" في منتصف الستينات. وأضيفت إلى ذلك المعارك التي خاضها ضد خصوم الشعر الحر، طوال الخمسينات والستينات، فكان بكتاباته المدافعة عن هذا الشعر، واحداً من أبرز المؤصِّلين لتوجهات الشعر الحر والمشجعين على تنوع تياراته، وذلك في مواجهة العقاد الذي نفى القصيدة الحرة من لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون المجلس الأعلى للثقافة حالياً وأحالها على لجنة النثر للاختصاص، وفي مواجهة كل الهجمات اللاحقة، وأهمها الهجمة التي قادها صالح جودت وأعضاء لجنة الشعر في "العريضة"، التي رفعوها إلى رئيس الجمهورية، في تشرين الثاني نوفمبر 1964، متهمين شعراء القصيدة الحديثة بالقرمزية والكفر والخيانة الوطنية. وقد جمع القط الكثير من مقالات هذه المعارك في كتابه "قضايا ومواقف" الذي يؤكد انغماسه في مشكلات ثقافتنا المتغيرة، وانتماءه إلى التيار المستنير فيها بدفاعه عن قيم الحرية والعقلانية، ومن ثم دفاعه عن الالتزام الأدبي الذي يصل بين الأدب والمجتمع بما لا ينفي حرية الأديب. وتنتسب محتويات كتاب "قضايا ومواقف" إلى سياق التعاطف مع التجديد، وهو التعاطف الذي ظلّ يميز نقد عبدالقادر القط منذ السبعينات إلى اليوم،. فقد كتب عن شعراء المقاومة الفلسطينية بين الفن والالتزام، محللاً نصوص محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وانتقل من قصيدة العامية في دواوينها المتميزة إلى قصيدة الشعر الحر لجيل محمد ابراهيم أبو سنة، ومن الشعر الحر إلى القصة القصيرة والرواية في تتابع أجيالهما، غير مغفل فن المسرح وفن الترجمة. وحمل كتابه "في الأدب العربي الحديث" الذي صدر سنة 1977 ما يؤكد حرصه على متابعة الإبداع الجديد، وهو الحرص نفسه الذي تجلى في السياسة التي اتبعها عندما ترأس تحرير أربع مجلات أدبية: الشعر 1964-1965 والمسرح 1966-1967 والمجلة 1970-1973 وإبداع 1973-1992. ولا أنسى أنه أسهم في تعريف القراء المصريين بقصائد السياب التي نشرها في مجلة "الشعر" مع أقرانه من أعلام رواد الشعر الحر على امتداد الوطن العربي. وأشهد أنه كان حفياً بنا نحن الذين ننتسب إلى الأجيال الجديدة من النقاد. فهو الذي سمح بنشر غالبية مقالاتي في مجلة "المجلة" التي بدأت الكتابة فيها أيام يحيى حقي الذي سبقه في رئاسة تحريرها، وهو الذي فتح الباب لقصائد شعراء السبعينات في مصر: عبدالمنعم رمضان وأحمد طه وحلمي سالم وحسن طلب ومحمد سليمان وغيرهم، وخصص في مجلة "إبداع" باباً خاصاً بعنوان "تجارب"، كان النافذة التي أطل منها شعراء السبعينات على المشهد الثقافي المصري العربي. وعلى رغم أنه ظل متحفظاً على "قصيدة النثر" كثير الجدال معي، ومع كل من هو مثلي، حولها، خصوصاً كلما عرض ذكر أحد شعرائها، فإنه لم يتوقف عن متابعتها والإعجاب بالجيد الذي جذبه منها، ولذلك كتب عنها سنة 1996، لا بعقلية الناقد الجامد الكاره للجديد وإنما بعقلية المحاور الذي لا يتخلى عن أصوله الليبرالية، وهي الأصول التي جعلته يتخذ الموقف الشجاع الذي نذكره له بالعرفان والتقدير، عندما قبل رئاسة اللجنة التي صدر قرار بتشكيلها أثناء أزمة رواية "وليمة لأعشاب البحر" المعروفة، فكان جسوراً في الدفاع عن حرية المبدع، وعن حقه في الخروج على الأعراف الاجتماعية المحافظة، ما ظل عمله يهدف إلى الارتقاء بالواقع الإنساني وتحرير الوعي الفردي من شروط الضرورة. وكان دفاعه عن حرية الإبداع في هذه الأزمة، والآراء التي أدلى بها في مجلة "المصور" المصرية، دليلاً أخيراً إلى ليبراليته الأصيلة التي لم تتردد في الدفاع عن قيم الحرية والعقلانية التي آمن بها، وظل مخلصاً لها طوال حياته العملية والنقدية، سواء في جامعة القاهرة التي تخرج فيها سنة 1938 بعد ثلاث سنوات من تخرج شوقي ضيف سنة 1935، زميله الذي لحق به القط في الدراسة بالقسم نفسه، وتتلمذ معه على الأساتذة أنفسهم أو في جامعة عين شمس التي ترقى فيها إلى أن انتقل من رئاسة قسم اللغة العربية 1962-1973 إلى عمادة كلية الآداب سنتي 1973-1974. وأضيف إلى ذلك المجلس الأعلى للثقافة الذي ترأس فيه لجنة الشعر ولجنة التفرغ، والمجلات التي أشرف عليها وفتح صفحاتها للأجيال الجديدة، فضلاً عن الكتابات والمقالات التي ظل حريصاً على الإسهام بها في الحياة الثقافية إلى أن توفي في الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم الأحد السادس عشر من هذا الشهر، رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان شيخ النقاد بحق.