في بادرة طيبة قام المجلس الأعلى للثقافة في مصر، اخيراً، كرّم الناقد الكبير عبدالقادر القط، عبر ندوة حاشدة استمرت يومين كاملين، في جلسات نقدية متنوعة حضرتها نخبة من المثقفين المصريين، وقدمت فيها اوراق عدة كتبها بعض من زملاء المحتفى به مثل: شوقي ضيف وابراهيم عبدالرحمن ومصطفى مندور والدكتور محمد عبدالمطلب وعفت الشرقاوي ومحمد زكي العشماوي، وغيرهم. والندوة التي أعادت عبدالقادر القط الى الواجهة الأدبية افتتحها الناقد جابر عصفور الأمين العام للمجلس الاعلى للثقافة، والناقد صلاح فضل مقرر لجنة الدراسات الادبية فيه. من هو عبدالقادر القط؟ ووكيف تمت قراءة تجربته النقدية في الندوة؟ عبدالقادر القط مشوار طويل خصب وجاد. فتى في الرابعة والثمانين، أطال الله عمره، استاذ الادب والنقد في جامعة عين شمس، وترأس في ما سبق قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة نفسها عبر ستين عاماً من الجهد المتواصل وقدم للحياة الادبية المصرية والعربية الكثير من الكتب والأجيال. من أهم كتبه: مفهوم الشعر عند العرب، في الشعر الاسلامي والاموي، الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، في الادب المصري المعاصر، قضايا ومواقف... فضلاً عن ترجمات كثيرة معظمها من مسرحيات شكسبير، وديوان شعري وحيد عنوانه "ذكريات شباب". وكتب قصائده في الاربعينات ونشره في أواخر الخمسينات. ترأس تحرير مجلة "الشعر" في الستينات و"المجلة" في السبعينات و"إبداع" في الثمانينات، وهو حالياً مقرر لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة، وكاتب من كتاب المقال الثابت في جريدة "الاهرام". هو، إذاً، احد الرواد الكبار في الحياة النقدية والادبية المصرية والعربية الحديثة، وواحد من رعيل جيل ضم معه: محمود امين العالم وعبدالعظيم أنيس ولويس عوض وأنور المعداوي ومحمد النويهي وعلي الراعي وفؤاد زكريا وغيرهم، ممن تدين لهم حياتنا النقدية بكبير الدين، معترفة بأياديهم البيضاء. أما اليد البيضاء الابرز لعبدالقادر القط فتتمثل في دعمه المكين لحركة الشعر الحر في مصر والبلاد العربية، إبان نشأتها أواخر الاربعينات واوائل الخمسينات. وهو الدعم الذي ساعد هذه الحركة التجديدية، الوليدة مساعدة حاسمة على الترسخ والبروز والنجاح، لتنقل حياتنا الشعرية العربية نقلة جذرية من الطور التقليدي العمودي الى الطور التفعيلي الحر. وعودة الى الندوة التكريمية اعتقد أنها شابها وخصوصاً الجلسات البحثية نقصان بارزان: الاول: هو غياب اساتذة ونقاد كلية الآداب في جامعة القاهرة، وبدا أن جامعة عين شمس استأثرت بالتنظيم والتحدث عنه كونه "رجلها"، وكأن عبدالقادر القط - كعطاء ودلالة - ليس أوسع من جامعة عين شمس، وكأن لا تلاميذ له أو زملاء أو قادرين لفضله إلا في عين شمس. ونأمل ألا يكون ذلك التجاهل جزءاً من "حرب الجامعات" التي تعيشها الحياة الجامعية المصرية في الآونة الاخيرة. وهكذا فإن هذا المنطلق "الجهوي" الضيق "ضيّق" المحتفى به - على سعته - وحصره في صندوق مدرسي صغير، فيما الرجل اشمل واعم. أما الثاني فهو غياب كلمة المبدعين من الأدباء والشعراء من الاجيال المختلفة ممن عاونهم القط على الظهور أو الرسوخ أو النضج: سواء من جيل رواد الشعر الحر مثل أحمد عبدالمعطي حجازي الذين خاض القط من أجلهم معركته المشهورة ضد عباس محمود العقاد وزكي نجيب محمود وأساطين لجنة الشعر في المجلس الاعلى لرعاية الفنون والاداب في منتصف الستينات، دفاعاً عن التجديد وعن ثورة الشعر الحر، أو من الجيل التالي للرواد مثل محمد ابراهيم أبو سنة الذين فتح لهم القط صفحات مجلة "الشعر" ومجلة "المجلة" في السبعينات، أو من جيل الحداثة الراهن، الذي يسمى جيل السبعينات مثل أي واحد فينا ممن فتح لهم الرجل صفحات "إبداع" في منتصف الثمانينات وقد اشار القصاص سعيد الكفراوي - في الدقائق التي اقتنصها اقتناصاً للتعقيب - إلى هذا النقص الواضح، مشيداً بفضل القط عليه شخصياً وعلى جيله من كتاب القصة والرواية. ونأمل ألا يكون ذلك التجاهل جزءاً من سيادة مبدأ "الاستئثار والأثرة" الذي تفشى في حياتنا المصرية المعاصرة. خلت الابحاث من درس مناطق جوهرية في عمل عبدالقادر القط النقدي. فلم نجد - مثلاً - دراسة تتناول الاطوار التي مرت بها رحلة القط النقدية - التي امتدت نحو ستين عاماً - وما طرأ على هذه الرحلة الطويلة من تطورات وتحولات وتعديلات، وهي الدراسة التي كان يمكن أن تضع يد القارئ على سيرة عقل منفتح على العصر، وعلى مسار روح غير متحجر على ذاته أو رؤاه، موضحة "الثابت" و"المتحول" فيه. ولم نجد أيضاً دراسة تقارن بين مقدمة عبدالقادر القط لديوانه العمودي التقليدي وبين بيانه المجيد ضد العقاد، دفاعاً عن التجديد والمجددين المنشور في كتابه "قضايا ومواقف". وهي الدراسة التي كان يمكن ان تضع يد القارئ على "دراما" عقل الرجل وقلبه: كأن تتأكد لنا خصوبة الناقد التي تتقبل النقائص ما دامت جميعها صادقة، واتساعه لكل الاشكال الفنية الاصيلة ما دامت تعبّر عن حاجة حقيقية في الحياة، وصداقاً لقناعته النظرية بأن مجتمعاتنا العربية لم تنتقل الى طور الحداثة والتحديث انتقالاً كاملاً تاماً ناجزاً بعد. وعليه فإن تجاور الانماط الجمالية هو نتيجة طبيعية لتجاور الانماط الحضارية والاجتماعية والثقافية. على العكس من ذلك التوجه الجاد في درس رحلة القط النقدية، آثر معظم الباحثين أن يختاروا الحديث عن الديوان الشعري الوحيد لعبدالقادر القط "ذكريات شباب". وهو اختيار سهل، لانه يعفي اصحابه من مشقة البحث في جوانب الرحلة النقدية للناقد الخصب، مع ما يقتضيه هذا البحث من وضع جهد الرجل النقدي في سياقه السياسي والفلسفي والاجتماعي والجمالي وهو واجب عسير كما هو واضح ومع ما قد يقتضيه هذا البحث من مقارعة، أو معارضة أو تفنيد لبعض آراء الرجل عبر رحلته الطويلة وهي مهمة يصعب على معظم هؤلاء "المتهربين" التصدي لها، كما هو واضح. أما نقد الشعر فهو مهمة سهلة، خصوصاً إذا كان الشعر تقليدياً وكانت اساليب نقده هي الاخرى تقليدية مدرسية عقيمة. والحق ان فرار الباحثين من "نقد" نقد القط، إلى نقد شعره، ينطوي على اساءة للرجل نفسه، إذ قصد الفارون الاحتفاء به، وغدا الامر تركيزاً على "الثانوي" في مسيرته: الشعر، وإهمالاً "للجوهري" فيها: النقد. ولعل ذلك يتصل بثغرة اخرى في البحوث، إذ خلت جميعها من بحث - أو جزء من بحث - يعارض فكرة للقط أو ينتقد منهجاً اعتمده أو يساجل رأياً قاله. وكان الرجل منزهاً عن الخطأ في كل مساره النقدي الطويل العريض. وكأن تكريم أي رائد يتنافى مع الاختلاف معه او انتقاده في قضية من القضايا. وفات هؤلاء جميعاً، أن "لمحة" الانتقاد البسيطة - في قلب عاصفة المحبة والتكريم - هي التي كانت ستزيد من صدقية سيل الثناء. وظني ان عبدالقادر القط - الذي رحب بالاختلاف وعلمنا اصوله وضرورته - لم يكن سعيداً بهذا الطوفان العارم من "نعم" الخالي من قطرة "لا" واحدة. سادت البحوث والجلسات نبرة عامة تقضي ان يخرج القارئ أو المستمع بانطباع كليّ عن عبدالقادر القط مؤداه أنه رجل محايد، ناء عن الصراعات، بعيد عن الايديولوجيا، غير منحاز، وهي نبرة غير صحيحة، بل انها ظالمة للقط نفسه. هي غير صحيحة - مبدئياً - لأنه لا يوجد مثقف - فضلاً عن ناقد - محايد، أو غير منحاز. ونحن نعرف أن الخلافات النقدية والنظريات الجمالية في الفترة التي ازدهر فيها عمل عبدالقادر القط - الخمسينات وخصوصاً الستينات - كانت غطاء للخلافات السياسية وقناعاً للصراعات الفكرية والفلسفية والاجتماعية، نظراً الى أن الصراع السياسي المباشر كان - في ذلك الوقت - محجوباً أو مؤمماً. وهي ظالمة لعبدالقادر القط خصوصاً لأنه كان وما زال منخرطاً كل الانخراط في استقطابات الحياة الثقافية والادبية، ويبدو أن الذين ينفون الطابع "الايديولوجي" عن نقد القط ومواقفه يحصرون "الايديولوجيا" في المعنى السياسي اليساري وحده وهو حصر غير سليم لأنه يبتسر مفهوم الايديولوجيا ابتساراً تبسيطياً دارجاً. وعلى ضوء المفهوم الواسع للايديولوجيا، فإن عبدالقادر القط ناقد ايديولوجي بلا منازع: ذلك أن الوقوف الى جانب حركة الشعر الحر لم يكن مجرد موقف فني شعري فحسب، بل هو موقف فكري ايديولوجي في صميم جوهره. ولعل دعوته إلى الرومانسية - في نقده أو شعره - لم يكن مجرد اختيار مدرسة من المدارس الادبية، فحسب، بل كان اختياراً ايديولوجياً لكون الرومانسية هي ثورة الروح المتمردة على التقاليد البالية، وهي سطوع ذات الفرد في مواجهة فلسفة القطيع. ورئاسته للجنة العلمية التي كتبت تقريرها التاريخي المستنير عن رواية "وليمة لاعشاب البحر" ابان العاصفة السلفية العاتية، لم يكن موقف خبير تقني محايد بل كان موقفاً ايديولوجياً انحاز انحيازاً حاسماً لحرية الابداع، ولضرورة عزل المعيار الديني عن تقويم الانتاج الادبي. وعلى ذلك، يصح ان نصيح في محبي عبدالقادر القط، لا تصفوا الرجل بأنه غير منحاز وغير ايديولوجي، فهذا غير سليم، ولا ينطبق عليه لأنه ضالع، ومقاتل، ومنحاز، وايديولوجي، حتى وإن كانت أيديولوجيته غير محصورة في القفص اليساري الزاعق، بل حتى إن كان الرجل يؤدي معاركه الساخنة بعفة لفظ وسعة صدر. وثمة تساؤل يثار: هل عبدالقادر القط مع الحداثة أم ضدها؟ وهو تساؤل يدفع الرجل دائماً الى تبرئة نفسه من تهمة معاداة الحداثة، حتى انه مازح بعض الباحثين في الاحتفال بتكريمه صائحاً، "والله العظيم مانا ضد الحداثة". ويستطيع الكثيرون من محبي القط ان يدحضوا اتهامه بمعاداة الحداثة عبر براهين عدة: تبدأ من دعمه الكبير لثورة الشعر الحر، ولا تنتهي بموقفه المضيء في موقعة "وليمة لاعشاب البحر" وتمر بالكثير من الرؤى والمواقف المرنة. وأبرزها تحول موقفه ازاء قصيدة النثر من الرفض المطلق الى القبول النسبي. لكنني كواحد من أهل الحداثة التي يتهم القط بخصامها - اود ان ارد عنه هذه التهمة، بشهادة ذاتية من كلمتين: الأولى: أنني واحد من شعراء ذلك التيار الذي يسميه البعض - أو يسمّي نفسه - شعراء السبعينات الحداثيين. وقد اتاح لنا عبدالقادر القط فرصة الظهور والتواجد على صفحات مجلة "إبداع" في الثمانينات، منطلقاً من اقتناعه بضرورة تقديم كل التيارات الادبية. وهو أتاح لنا تلك الفرصة على رغم أنه لم يكن يستسيغ شعرنا الحداثي، ذاك، وعلى رغم اننا كنا دائمي الغضب منه والعراك معه والتمرد عليه. لكننا مع مضي الوقت بدأنا ندرك "المعادلة" الدقيقة التي بناها الرجل لنفسه: إنه ينظر الى القديم بعين الحديث حتى ينقذ ذلك القديم من قدمه ومواته، وينظر إلى الحديث بعين القديم حتى ينقذ ذلك الحديث من فوضاه وانفكاكه. الثانية: ان شخصية عبدالقادر القط هي نفسها "شخصية حداثية" بامتياز. ذلك أن الحداثة الحقة هي الاعتداد بالتعدد والايمان بالاختلاف والحرية والتجديد وفصل اللاهوت عن الناسوت، وهذه القيم بعينها هي ما يتبناه عبدالقادر القط ويؤمن به: فهو مدافع صلب عن حرية الرأي والابداع، وهو مؤمن عميق الايمان بالتعدد وقبول الآخر وتجاور التيارات وتحاورها في تسامح سياسي، وفكري وجمالي رحيب. وهو محارب اصيل في صف كل جديد شرط أن يكون اصيلاً، وهو المتجدد الذي يطور فكره ورؤاه مع تطورات العصر وتغيرات الحياة. القط، إذاً، تجسيد دقيق للحداثة، بشخصه وسلوكه وممارسته، حتى وإن اختلف بعضنا معه - بعد ذلك - في بعض القضايا الحداثية الفقهية او التطبيقية. لم يكتسب عبدالقادر القط مكانته العالية في حياتنا الثقافية لأنه كاتب "محترم" بفتح الراء فحسب بل لأنه كاتب "محترم" بكسر الراء يقدر الآخر، ويفهم ان الاختلاف صحة وضرورة ورحمة. * شاعر مصري.