} التقارب بين السياستين السورية واللبنانية وصل الى المصير، ما لم يحدث في علاقة بين دولتين متعاهدتين او متحالفتين. والمقال التالي يبحث في فقدان التلازم بين ثوابت لبنان الوطنية والثوابت الدولية، وخطورة ذلك في المتغيرات الدولية الراهنة وتأثيراتها في المنطقة. من ثوابت السياسة في لبنان ما بعد الحرب تأكيد الدولة المتواصل ان للبنان ثوابت واضحة ونهائية غير قابلة للنقاش في سياسته الخارجية، لا يحيد عنها مهما كلّف الأمر. وسياسة لبنان الخارجية، كما هو معروف، محصورة في مجالها اللبناني - السوري، شأنها شأن السياسة الداخلية، إذ ان الحد الفاصل بين الداخل اللبناني والخارج السوري لم يعد قائماً. ولقد شهدت الثوابت تغيراً نوعياً في السنوات الأخيرة إثر انتقالها من "تلازم المسارين" بين لبنان وسورية خلال مرحلة المفاوضات العربية - الإسرائيلية الى تلازم في اطار المسار الواحد. وتوسع التلازم اخيراً ليشمل المصير، وهذا المستوى من التلازم بين دولتين قل نظيره حتى في زمن الحرب الباردة وانقسام العالم الى كتلتين تتقيد دولهما بالتلازم في السياسة الخارجية وليس في المصير. وهذا يعني عملياً الانتقال من وحدة الموقف اللبناني - السوري ازاء إسرائيل الى ربط الوضع اللبناني عبر جنوبه بالحل النهائي للنزاع العربي - الإسرائيلي بشقيه السوري والفلسطيني. من هنا يمكن تفسير الكلام الرسمي اللبناني المطالب بتلازم القرارات الصادرة عن مجلس الأمن: القراران 242 و338، الصادران بعد حربي 1967 و1973 العربية - الإسرائيلية معطوفان على القرار 425 المتعلق حصراً باحتلال اسرائيل لجنوبلبنان في العام 1978. إنها سابقة لم يعرف القانون الدولي والعلاقات الدولية مثيلاً لها على المستويين النظري والعملي: ان يطالب لبنان بتنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالنزاع العربي - الإسرائيلي ويتخذ موقفاً مؤيداً للموقف العربي شيء - وهذا امر طبيعي ومطلوب - وأن يستنبط رابطاً وهمياً يخلط بين متطلبات "العلاقات المميزة" بين لبنان وسورية وقرارات الأممالمتحدة فهذا شيء آخر. لطالما جاءت ثوابت الحكم في لبنان منذ الاحتلال الإسرائيلي في العام 1978، لا بل منذ ان تحوّل جنوبلبنان ساحة حرب مفتوحة بين المنظمات الفلسطينية وإسرائيل منذ اواخر الستينات، لتؤكد على الفصل بين ازمة لبنان مع إسرائيل و"أزمة الشرق الأوسط"، اي النزاع العربي الإسرائيلي. هذه الثابتة في سياسة لبنان الخارجية تم التخلي عنها منذ مطلع التسعينات، خصوصاً منذ اقرار اتفاق اوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في العام 1993 واتخاذ المفاوضات الثنائية بين اسرائيل والدول العربية المعنية منحى مغايراً عن ذاك الذي ساد منذ مؤتمر مدريد في اواخر العام 1991. في البداية، اتخذت الثوابت شكل التنسيق والتعاون بين لبنان وسورية الى أن لم يعد ثمة حاجة للتنسيق طالما ان لبنان اتخذ خيار المقاومة المسلحة لتحرير الأرض بينما سورية اتخذت خيار المفاوضات المباشرة مع إسرائيل منذ العام 1994. والخيار السوري جاء مكملاً لحال الهدوء التام على الجبهة السورية - الإسرائيلية في الجولان ولالتزام سورية الكامل بالقرارات الدولية منذ تمركزت القوات الدولية في الجولان في العام 1974. وعلى وقع المواجهات العسكرية بين المقاومة بقيادة حزب الله المدعوم من الحكم اللبناني وسورية وإيران، وفي ظل تواصل المفاوضات بين اسرائيل وسورية، كانت الثوابت الوطنية في لبنان تتوسع لتخرج عن هدف تحرير الجنوب وتنفيذ القرار 425 - الذي تحول تاريخ إقراره يوماً وطنياً يُحتفل به على الصعيدين الرسمي والشعبي - لتصل الى النزاع العربي - الإسرائيلي الأشمل. وكلما انجزت المقاومة انتصاراً جعل الاحتلال عبئاً عسكرياً ومعنوياً على إسرائيل الدولة والمجتمع، كلما زادت الهوة اتساعاً بين تلازم المسار المفترض بين لبنان وسورية. الواقع ان التلازم الفعلي كان بين المفاوضات السورية - الإسرائيلية والحرب الدائرة في جنوبلبنان، وليس بين لبنان وسورية على طاولة المفاوضات، ومع اقتراب ساعة التحرير، لا سيما بعد ان اتخذت حكومة يهودا باراك قراراً بالانسحاب من لبنان وحددت موعداً لذلك، كانت ثابتة تلازم المسارين تتوحد في مسار واحد جامعه المصير الواحد. اما رابط المسار الواحد فاقتصر على الكلام وليس على الوقائع الجديدة التي نتجت عن المفاوضات في واشنطن بين يهودا باراك والوزير فاروق الشرع، ممثلاً الرئيس الأسد، وبمشاركة الرئيس بيل كلينتون. مزارع شبعا شيك بلا رصيد وما ان انسحبت إسرائيل في ايار مايو 2000 على اساس القرار 425، كما كانت تطالب الدولة اللبنانية منذ العام 1978، الى أن لاحت في الأفق مسألة مزارع شبعا فدخلت قاموس الثوابت من الباب العريض. وفي هذه الأثناء لم يحل تلازم المسار والمصير بين لبنان وسورية دون تواصل المفاوضات بين اسرائيل وسورية وبلوغها مداها الأقصى اثر اللقاء التاريخي الذي جمع كلينتون والأسد في جنيف في آذار مارس 2000 والذي جاء مخيباً لآمال الأطراف الثلاثة سورية وإسرائيل والولاياتالمتحدة وإن لأسباب مختلفة. ولم يبق في الميدان بعد الانسحاب الإسرائيلي المفاجئ، اي قبل موعده المعلن، سوى مزارع شبعا، القضية المركزية في تلازم المسار المفترض والتي باتت توازي في اهميتها ورمزيتها بالنسبة الى السلطة في لبنان وسورية القدس والضفة الغربية وغزة والجولان. إثر الانسحاب الإسرائيلي، عاد جنوبلبنان الى الوضع الذي كان عليه قبل اواخر الستينات بعد ثلاثين عاماً من القتل والدمار، وعم الفرح لبنان بالانتصار وبانتهاء آخر حروب لبنان الإقليمية. غير ان الفرحة لم تدم طويلاً بعد ان تبين ان الجيش اللبناني لن ينتشر على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية وأن العودة الى اتفاق الهدنة الموقع بين لبنان وإسرائيل في العام 1949 غير ممكنة، كما ينص اتفاق الطائف. وانتقلت المعركة الآن الى خارج نطاق المنطقة التي يشملها القرار 425، الى مزارع شبعا، الخاضعة للقرارين 242 و338. هكذا بدا التلازم بين الثوابت الوطنية والثوابت الدولية مأزوماً في اساسه: الأممالمتحدة تعتبر ان إسرائيل انسحبت الى الخط الأزرق تنفيذاً للقرار 425 وأن مزارع شبعا، ارض سورية تحتلها إسرائيل، يقابله الموقف الرسمي اللبناني - السوري الذي يعتبر ان إسرائيل لم تنفذ القرار 425 بالكامل وأن مزارع شبعا لبنانية، لذا وجب استكمال تحريرها مع تأكيد احتمال بروز اراض اخرى تحتلها اسرائيل قد يلزم تحريرها في الوقت المناسب، كما اشار غير مرة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. وفي ظل هذه الوقائع، القديم منها والمستحدث، تعمق الشرخ بين لبنان والمجتمع الدولي، وفي مقدمه الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، حول مسألة كان بالإمكان البت بأمرها بالوسائل السياسية والديبلوماسية وليس فقط العسكرية، هذا في وقت لبنان بأمس الحاجة الى دعم المجتمع الدولي لانتشاله من ازمته الاقتصادية غير المسبوقة حيث بلغ الدين العام عتبة الثلاثين بليون دولار اميركي. لم يأخذ الحكم اللبناني في الاعتبار الوقائع التي استجدت منذ الانسحاب الإسرائيلي والتي بدلت قواعد اللعبة، ما يعني ان الموقف اللبناني المكرر حول الثوابت لم يعد يلقى تفهماً من المجتمع الدولي، لا بل وضع لبنان في موقع الاتهام والمعتدي بعد ان كان المعتدى عليه. اما قواعد اللعبة فتغيرت جذرياً لأن العناصر والظروف التي أنتجتها لم تعد قائمة: أنهت إسرائيل احتلالها وتحررت من "المستنقع اللبناني"، وبالتالي باتت قادرة على التحرك بلا قيد او شرط. توقفت المفاوضات بين سورية وإسرائيل وتسلم بشار الأسد السلطة في سورية وآرييل شارون الحكم في إسرائيل. تحولت "العملية السلمية" الى حرب شاملة بين إسرائيل والفلسطينيين، تراجع الدور الأميركي الى حده الأدنى، اي انه اقتصر على الجانب الأمني، مع مجيء جورج بوش الى الحكم. ولاقت تلك التحولات ترجمتها عبر استهداف إسرائيل مواقع سورية في لبنان رداً على عمليات حزب الله ضد اسرائيل في مزارع شبعا. هذه المتغيرات جعلت من "ورقة" الجنوب، التي يعتقد البعض في لبنان وسورية انها في متناول اليد، بلا مردود سياسي، لأن الأطراف المعنية بها، لاسيما الولاياتالمتحدة وإسرائيل، غير مكترثة بما تقدمه في مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي بسبب تغير قواعد اللعبة، كما أشرنا اعلاه. وهذه "الورقة" باتت الآن اشبه بشيك بلا رصيد. الواقع ان هذه "الورقة" الوهمية كانت بلا مردود سياسي قبل اعتداءات 11 ايلول سبتمبر في الولاياتالمتحدة، ولقد تحولت الى عبء على حاملها بعد هذا التاريخ. "توازن الرعب"، الذي توهم البعض انه قائم بين لبنان وإسرائيل، تحول فجأة بعد 11 ايلول الى توازن رعب معولم يتجاوز ليس فقط لبنان وسورية بل منطقة الشرق الأوسط كلها. توازن الرعب بين الولاياتالمتحدة والإرهاب هز ثوابت العالم كله، المتحالف مع اميركا والمناهض لسياستها، والمعادي لها لأسباب شتى. أدرك ياسر عرفات حجم الحدث ووقعه على المجتمع الأميركي فاحتاط للأمر قدر المستطاع، وأدركت سورية والدول العربية، لا سيما تلك المعنية بشكل او بآخر بأسامة بن لادن وحركة الطالبان خطورة الوضع، فدانت العمل الإرهابي الذي طاول اميركا، وعدم الاستنكار والخوف من الآتي الأعظم العالم بأسره. وبسرعة فائقة لم تتجاوز بضعة ايام اقر مجلس الأمن ثوابت دولية جديدة عبر اتخاذ القرار 1373 الملزم لمحاربة الإرهاب وحدد مهلة ثلاثة اشهر لكي تستجيب الدول الأعضاء متطلباته ولتجيب بدقة على الأسئلة المفصلة التي تضمنها. إزاء هذه المتغيرات الدولية منذ 11 ايلول، مضافاً إليها المتغيرات المحلية والإقليمية منذ انسحاب اسرائيل من جنوبلبنان في ايار 2000 وتوقف المفاوضات العربية - الإسرائيلية، كيف سيتمكن لبنان، واستطراداً سورية من ايجاد التوازن المطلوب بين الثوابت الوطنية المعمول بها منذ اواخر القرن الماضي والثوابت الدولية في ظل الحرب الأولى على الإرهاب المعولم في القرن الحالي؟ أين موقع تلازم المسارين المفترض بين لبنان وسورية من تلازم المسار الدولي لمحاربة الإرهاب، وكيف سيتم تحرير مزارع شبعا في زمن الحرب المفتوحة بين إسرائيل والفلسطينيين وبعد اتهام واشنطن حزب الله بمشاركته في عمليات ارهابية خارج نطاق مجاله اللبناني، كما صرحت اخيراً مستشارة الأمن القومي كونزاليسا رايس مشيرة الى ضلوع حزب الله في تفجير القاعدة العسكرية في الخبر في المملكة العربية السعودية؟ بكلام آخر، ماذا سيفعل لبنان لردم الهوة بين ثوابته الوطنية المتلازمة مع ثوابت سورية القومية والمناقضة مع ثوابت واشنطن الدولية؟ هذه التساؤلات تأتي في رأس جدول الأعمال المطروح بين لبنان والمجتمع الدولي. وعلى رغم اهمية التمييز بين المقاومة والإرهاب، وهو تمييز يجمع عليه اللبنانيون، فإنه لم يعد يكفي في مواجهة الاستحقاقات المفروضة على لبنان وسواه، لا سيما سورية وإيران، علماً انهما بدأتا تتأقلمان وبسرعة لافتة مع متطلبات مرحلة ما بعد 11 ايلول. إن الهامش الذي أمنته "الساحة" اللبنانية في مراحل سابقة والتي وظفته سورية وإيران وسواهما من الأطراف لخدمة مصالحها لم يعد متاحاً اليوم. لذلك فلن يكون سهلاً التعامل مع الأوضاع الجديدة إما بالواسطة او بالأسلوب المعهود. والمدخل الصالح لذلك اقامة دولة القانون في لبنان القادرة على اتخاذ القرار الحر في الشأنين الداخلي والخارجي، وهذا يعني اقامة علاقات متوازنة مع سورية على قاعدة تأمين مصالح الطرفين وليس على حساب المصلحة اللبنانية، كما هي الحال اليوم. ولن تتأمن المصلحة اللبنانية إلا بعد ان يتلازم القرار اللبناني مع حاجات اللبنانيين وأولوياتهم في الشأنين السياسي والاقتصادي. إنها أولى الثوابت منذ انتهاء الحرب في لبنان قبل عشر سنوات وقبل بدء الحرب على الإرهاب وبعدها. * رئيس دائرة علم السياسة والإدارة العامة في الجامعة الأميركية في بيروت.