يوم أمس اختارته للعزلة الروحية والتأمل. مسافة كبيرة قطعتها منذ 50 عاماً، حينما صعدت وهي تحمل لقب أميرة إلى إحدى الأشجار أثناء زيارة لها الى أدغال كينيا، لتهبط ملكة على بلادها، بعدما بلغها نبأ وفاة والدها الملك جورج السادس. الصبية رقيقة الصوت التي أسرت قلب البريطانيين بقامتها الصغيرة، وقد أحاط بها حراسها طوال القامة حين عودتهاالسريعة من كينيا، بلغت 76 عاماً. وعلى مدى أربعة أيام تحتفل المملكة المتحدة باليوبيل الذهبي لعهدها الملكي. 25 مليوناً من البريطانيين سينزلون الى الشوارع ويشاركون في آلاف المهرجانات والحفلات التي يتضمنها الاحتفال ببدء السنة الخمسين، يوم أمس، لارتقاء اليزابيث الثانية العرش. استطلاعات الرأي أظهرت تصاعد شعبية الملكة: 81 في المئة من البريطانيين يؤيدونها ويؤيدون بقاء الملكية، مقابل 17 في المئة يتمنون قيام جمهورية. رأي البريطانيين يبعث ولا شك الرضا في قلب هذه المرأة التي عاصرت أحداثاً وحروباً وتحولات، بعضها هدد استمرار الملكية نفسها. هذه التحولات اجتاحت بلادها و كل قارة أوروبا، ولم توفر حتى عائلتها. وكلما اضطرت للتغيير كانت تفضل الاسلوب المحافظ. لكنها لم تستطع منع التحولات الجذرية التي أذعنت لها، تماماً كما لم تستطع منع تقدمها في العمر. بريطانيا تغيرت في عهدها. في تشرين الأول أكتوبر الماضي وقف توني بلير في البرلمان الهندي ليقول إن بلاده لم تعد قوة عظمى بل قوة محورية. قبل ذلك دخلت بريطانيا الاتحاد الأوروبي الذي غيّر قواعد السيادة ودور الدولة التاريخي. التكوين الاثني لبريطانيا اختلف، وكذلك تركيبها الديني، صار الاسلام الديانة الثانية. تفككت أوصال الاتحاد البريطاني الذي أقسمت على حمايته. العالم أيضاً تغير. بريطانيا لم تعد تقود بل تقاد، وتشبيه رئيس وزرائها الحالي توني بلير بأنه "سفير جورج بوش"، ليس الا تعبيراً عن مأزق بريطانيا في العثور على دور في عالم لا يعترف بالامبراطوريات السابقة وملوكها. عاصرت الملكة انهيار زواج اثنين من اولادها وتورط زوجتيهما في فضائح شغلت العالم على مدى سنوات. قبل أربعة أعوام ماتت الأميرة ديانا في حادث. وبكى العالم يومها. لكنه صفق مساء السبت مبتهجاً، فقد جلست كاميلا باركر بولز، "حبيبة" الأمير تشارلز، في مقصورة الأسرة المالكة في حدائق قصر باكنغهام لتتابع الحفلة الموسيقية الضخمة التي اطلقت احتفالات اليوبيل الذهبي. لا شيء يخلد إلا المؤسسة التي تتجاوز الأشخاص. اليزابيث الثانية كانت دائماً تعرف ذلك، وتعرف أن المؤسسات تبقى والأفراد يرحلون. زوجها الأمير فيليب خانها مع عدد من النساء. تعليقاته المثيرة للاحراج والاستياء لم تتلاءم أبداً مع صورة الاستقرار والاحترام التي سعت اليزابيث الثانية الى اضفائها على التاج البريطاني، ورغم ذلك لزمت الصمت لتجنب نفسها وأسرتها والملكية فضيحة قد تقوضها. أغلقت الشوارع في أحياء عدة من لندن امس لحماية المسيرات الملكية وتسهيل تنظيم الاحتفالات والمهرجانات. معظم الجادات في وسط لندن سيبقى مغلقاً حتى مساء غد من قصر باكنغهام إلى قلعة لندن، حيث تسير الملكة في موكب رسمي كبير، وتطلق 62 طلقة مدفعية لتحيتها. كانت الاحتفالات والجولات بدأت في أنحاء البلاد خلال الأسابيع الماضية، وبلغت ذروتها منذ صباح السبت حين بدأ البريطانيون إجازة رسمية تستمر أربعة أيام. فالمناسبة تستحق، واليوبيل الذهبي لا يحلّ كل سنة. اضطرت اليزابيث الثانية للاذعان وتغيير برامج الاحتفالات بسبب عدم رغبتها في دخول معركة خاسرة، مع منافستها الصغيرة المستديرة: كرة القدم. كذلك فعلت الكنائس التي عدّلت موعد قداس الأحد، لئلا يتعارض مع موعد بث مباراة الفريق الانكليزي من كوريا الجنوبية التي يسبق توقيتها بريطانيا بثماني ساعات. محلات السوبرماركت في بريطانيا استعدت بدورها لعطلة اليوبيل الذهبي ومشاهدة مباريات كأس العالم بتخزين أكثر من ثلاثة ملايين ليتر إضافي من البيرة، ومئات آلاف زجاجات المشروب، و5،4 مليون بيتزا مبردة، وخمسة ملايين من النقانق، وكميات هائلة من الحلويات والمأكولات. البريطانيون سيذكرون هذا العيد. بعضهم يتوقع أن تكون الملكة اليزابيث الثانية في سدة العرش وأن تحتفل بيوبيلها الماسي بعد عشر سنوات. بعض آخر يتوقع ألا تكون هناك احتفالات ماسية وأن يكون الأمير تشارلز صاحب الأفكار النيرة والمنفتح على العالم هو الجالس على العرش عام 2012، إذا قررت والدته أن 50 عاماً في الحكم كافية. لكن من يدري؟