مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    ارتفاع الصادرات السعودية غير البترولية 22.8 %    برعاية ولي العهد.. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    انتفاضة جديدة في النصر    استعراض مسببات حوادث المدينة المنورة    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    «الأرصاد» ل«عكاظ»: أمطار غزيرة إلى متوسطة على مناطق عدة    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    نهاية الطفرة الصينية !    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    الأمين العام لاتحاد اللجان الأولمبية يشيد بجهود لجنة الإعلام    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحالف العمل وليكود يؤلف حكومة برأسين متشدد ومتطرف . عن معنى دور البداوة السياسية في صنع القرار الإسرائيلي !
نشر في الحياة يوم 25 - 02 - 2001

} يحار الكثير من المحللين السياسيين في اقدام الإسرائيليين على التصويت لمرشح الليكود آرييل شارون واسقاط مرشح العمل ايهود باراك في وقت مالت تصريحات الأول نحو التطرف العنصري "وتهديد المنطقة بالحرب" والشعب الفلسطيني بالطرد، وتقويض مفاعيل "السلام".
هذه الحيرة ليست في محلها وخصوصاً عندما تقوم التحليلات السياسية بتطبيق النماذج الأوروبية على الكيان الإسرائيلي وتسحب توقعاتها تلك على استنتاجات تبسيطية في "دولة" لا تاريخية.
ولا شك في ان تلك التوقعات ليست ناضجة كفاية لأنها تسقط عقلانية الناخب الأوروبي على عقلانية مفترضة عند الناخب الإسرائيلي انطلاقاً من قراءة اقتصادية ساذجة لمستوى دخل الفرد الإسرائيلي ومقارنته بمتوسط دخل الفرد الأوروبي معطوفاً عليها سلسلة تبسيطات من نوع تطور الاقتصاد الإسرائيلي وتقدمه التقني العسكري تحديداً... لتستنتج في النهاية سلسلة أوهام سياسية ترجح النضج التاريخي واستعداد الكيان الإسرائيلي لقبول التسوية.
ودائماً كانت النتائج مخيبة للآمال السياسية. فالرهان الآلي على معادلة استقرار الدولة الإسرائيلة وازدهار اقتصادها وانتعاش كيانها يساوي في مجموعه رفاهية حياتية تترافق مع ارتخاء الصلات الاجتماعية وجنوحها نحو المسالمة والتعايش ليس في محله.
فهذه التوقعات المفترضة تقوم أصلاً على تصورات غير تاريخية في قراءة المزاج الإسرائيلي. فالتطور الاقتصادي ليس شرطاً كافياً للتطور الثقافي والنضج الأخلاقي والتقدم السياسي والخيار الحر القائم على الثقة بالنفس والحسابات الواقعية والمقاييس العقلانية.
وفي تجربة ما كان يسمى بالنمور الآسيوية نجد الكثير من علامات التشابه. فالقفزات النوعية على مستوى التقدم الاقتصادي - التقني لم تنتج آلياً في دول نمور آسيا علاقات سياسية متقدمة تتوافق مع نسبة نمو متوسط دخل الفرد السنوي. وأحياناً شهدت بعض تلك التجارب نكسات سياسية انقلابية أطاحت الكثير من الازدهار الاقتصادي والانتعاش الاجتماعي بسبب اتساع الفجوة الزمنية بين النمو التقني السريع وانكماش الحياة السياسية وانغلاقها على حلقات اجتماعية ضيقة.
الى التشابه العام هناك خصوصية للكيان الإسرائيلي تزيد من سلبيات الفجوة الزمنية. فالتفاوت بين النمو التكنولوجي والميل الدائم نحو التطرف يصعب ردمه بالدولارات الأميركية والغواصات الالمانية وفتح أسواق الاتحاد الأوروبي والدعم غير المشروط للسياسة الإسرائيلية والتمويل الدائم لآلة الحرب والتعزيز المفتوح الحساب لكل ما يحتاج اليه الكيان من مال وحنان ورعاية. فالمشكلة الإسرائيلية أكثر تعقيداً من قصة النمور الآسيوية وهي مشكلة لا يمكن مقارنتها، بالتأكيد، بالمجتمعات الأوروبية الحضرية ذات الشخصية التاريخية الواضحة في تركيبها وتطورها وتوازنها وتقدمها الهادئ وثبات مزاجها. فإسرائيل الكيان والدولة غير قادرة على تصديق تنازل القيادة الفلسطينية عن حقوقها والتسليم بها كأمر واقع. فطبيعة المستوطن القادم من وراء البحار أو الزاحف من وراء الصحراء أقرب الى مزاج "البداوة" السياسية الى العقلانية "الحضرية". فقوته في النص الإيديولوجي وليس في الاقتصاد السياسي. وتقديس النص والتمسك به يعطيانه القوة الذاتية والرغبة الدائمة في تغليب عناصر الشك على حقائق اليقين.
فالنص عند المستوطن البداوة المعاصرة يعوض النقص في شخصيته اللاتاريخية المتقلبة وغير المستقرة. فهو ابن بيئة مختلفة وتاريخ مختلف وثقافة مهجنة فرضت عليه الظروف ان يعيش في كيان "شرق أوسطي" غير مستقر وغير طبيعي ويتعرض للاهتزاز كل فترة زمنية. فمشكلة اسرائيل أصلاً مع نفسها، والبحث في ميل الناخب الى التطرف يجب ان ينصب على طبيعة الكيان وتركيبه المتقلب والمتغير نتيجة الهجرات الدائمة بداوة سياسية الآتية من مجتمعات غير موحدة في أمزجتها تقذف بفائضها البشري الى كيان ضائع بين نص مقدس وحق مكتسب بالقوة. هذا القلق الدائم مضافاً اليه تقلب صورة المجتمع كل عقد من الزمن بسبب الفيض "البدوي" السياسي الزاحف باسم هجرة اكتسبت شرعيتها بالنص والقوة يفسر ميل الناخب الى التطرف. فالمجتمع الإسرائيلي أساساً يقوم على عدم الاستقرار السكاني والنمو الديموغرافي غير الطبيعي والمتوازن. فكلما استقر الجيل السابق من المهاجرين وأخذ يعيد التفكير بوجوده ومستقبله ويطرح احتمال تعايشه مع أهل البلاد وجيرانه ينقلب مزاجه بموجة جديدة من المهاجرين بداوة سياسية يزحفون اليه بالطائرات والناقلات البحرية رافعين معهم "النص المقدس" كحامل ايديولوجي يعوض النقص عن الوطن الضائع/ المحتمل. فالتدفق البشري أشبه ببداوة سياسية "معاصرة" تجد في النص قوة تعويض عن وطن ثابت شخصية تاريخية، وهو أمر يؤجج الحماسة ويعطل حسابات العقل فيضطر المهاجر القديم، الذي استقر وتوصل الى قناعة بالتسوية والتعايش، الى الهجرة مجدداً الى أوروبا وأميركا ليحل مكانه، وأحياناً جواره، المهاجر الجديد المشحون بقوة الايديولوجيا النص المقدس.
وبسبب الانقلاب السكاني الدائم يتقلب المزاج السياسي بين المسالمة والتطرف مع ميل ثابت نحو التشدد والانغلاق. فالبداوة السياسية التي أسست "الدولة" في فلسطين المحتلة هي المسؤولة عن اعادة عناصر المواجهة الى بدائيتها، وبداياتها الأولى، عند كل منعطف سلمي، وهي التي تعيد انتاج "النص المقدس" في كل فترة لتستخدمه ضد الآخر الفلسطيني كمقولات غير مصقولة سياسياً تدفع بواسطته الصراع مجدداً الى المربع صفر.
هذا النكوص السياسي الإسرائيلي الدائم يجد تفسيره في تكوين الدولة اللاتاريخي وتأسيسها الارتحالي من مكان الى وعد ومن زمان معلوم الى آخر مجهول.
تأسست الحركة الصهيونية في فضاء دولي شديد الاضطراب فالتبس الأمر على بعض المثقفين العرب في عهد السلطنة العثمانية واندفعت بعض الاقلام ، لعوامل انسانية، للتعاطف مع الاقليات اليهودية المضطهدة، أو المطاردة، في روسيا القيصرية وأوروبا الشرقية. فتفهم مطالب الحركة الصهيونية جاء في فترة اشتد فيها الصراع العثماني - القيصري في مناطق آسيا الوسطى والبحر الأسود وعلى امتداد خطوط المواجهة العسكرية في بلغاريا ورومانيا والمجر والبلقان. انذاك كانت الحركات القومية في أوروبا الشرقية تضغط باتجاه الاستقلال عن السلطنة، بدعم روسي- غربي، لاضعاف اسطنبول وضرب الحصار حولها وتطويقها في الجبهتين الأوروبية والعربية، وهو ما جعل بعض المثقفين يرد على محاولات الحصار بتأييد كل فئة مظلومة في تلك المناطق. وبسبب احتقان المشاعر مالت السياسة العامة نحو احتضان كل فريق مضطهد في أوروبا. فمثلاً عندما وقع حادث اغتيال القيصر الروسي الكسندر الثاني واتهمت موسكو اليهود بتدبير الجريمة تعاطفت السلطنة معهم. وزاد احتضانهم حين أقدم الكرملين في العام 1881 على افتعال حملة تهجير واسعة شملت 600 الف يهودي رافقتها خطوات مشابهة في رومانيا. وطرحت سياسة تهجير اليهود من روسيا مسألة اسكانهم فتأسست في العام نفسه 1881 المستعمرة الأولى في فلسطين ريشون له زيون بادارة اليهود الروس واشرافهم، واعقبها نقل حركة البيلو الشباب الصهيوني عشرات اليهود المطاردين الى فلسطين في سنة 1882.
في هذا الجو الدولي المضطرب حصل الالتباس السياسي وتأخر وعي الاهداف الحقيقية للحركة الصهيونية. وبقي سوء الفهم على حاله حتى بعد تأسيس الحركة الصهيونية رسمياً بانعقاد مؤتمرها الأول في بازل سويسرا سنة 1897 بتوجيه من اليهودي النمسوي تيودور هرتزل. انذاك كانت الهجرة اليهودية في بداياتها الأولى ولم تكن واضحة في معالمها السياسية فلاقت العطف الإنساني والرعاية الاجتماعية لأسباب كثيرة، منها تلك المتعلقة بردود الفعل السلبية ضد الاطماع القيصرية في أراضي السلطنة العثمانية وممتلكاتها في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى والبحر الأسود.
وحين بدأت حركة "البيلو" بشراء الأراضي في فلسطين وتأسيس المستوطنات الزراعية باسم جمعية "شوفيغي زيون" لم يلحظ السكان اي شبهة سياسية في الأمر فكان الرأي الغالب هو تفهم مظالم فئات مغلوبة ومرفوضة في أوطانها جاءت الى ديار المسلمين تنشد الطمأنينة النفسية والاستقرار.
واستمر الاحتضان حتى بعد تأسيس الحركة الصهيونية لأن المزاج العام قرأ افكارها انسانياً وضمن الالتباس الحاصل انذاك نتيجة الصراع ضد الاستعمار الأوروبي من جهة والمواجهة العسكرية الروسية - العثمانية من جهة أخرى. فتغليب التناقض مع أوروبا - روسيا جعل وعي اهداف الحركة الصهيونية يتأخر وأحياناً يتراجع الى دائرة النسيان حتى حين بدأت الصهيونية بتأسيس أول مصرف يهودي مركزه لندن وفتح فروع له باسماء مختلفة في اسطنبول انكلو ليغانيتن والقدس ويافا وحيفا وبيروت باسم انكلو بالستاين. وكان هدف المصرف وفروعه تمويل هجرة اليهود الى فلسطين وتأسيس المستوطنات الزراعية وفق خطة منهجية لم تظهر بوضوح الا بعد فترة اندلاع الحرب العالمية الأولى.
قبل اندلاع الحرب الكبرى حصلت الهجرة الثانية بعد فشل ثورة 1905 الروسية وقيام القيصرية بتجديد مطاردتها لليهود في روسيا ومناطق نفوذها في أوروبا الشرقية. فجاءت موجات بين 1905 و1907 وكان من بين القادمين القائد الصهيوني، ومؤسس دولة اسرائيل لاحقاً، ديفيد بن غوريون.
بعد الهجرة الثانية بدأ الانتباه لخلفيات النزوح وأخذت الصحف في سنة 1909 تشير الى مخاطر الهجرات وأهدافها، وخصوصاً عندما أسس قادة الهجرة الثانية "مكتب فلسطين" لتنظيم "التهجير" وتمويله وشراء الأراضي في مناطق الاستيطان التي تركزت بداية في ثلاث نواحي: يافا وحيفا وطبريا.
أفرزت الحرب العالمية الأولى أسوأ ثلاث نتائج للعرب: تفكيك السلطنة العثمانية في الولايات العربية، واحتلال دول الحلفاء بريطانيا - فرنسا المشرق العربي وانكشاف معاهدة سايكس - بيكو القاضية بتقسيم المنطقة ومنع قيام دولة عربية بديلة، وصدور وعد بلفور في سنة 1917 وتعهد الانتداب بوطن لليهود.
وعلى وقع نهاية الحرب الكبرى استفاق العرب على خطورة الموضوع الفلسطيني وبدأ الحراك السياسي لوقف الزحف الذي ازداد حجمه باشراف بريطانيا ورعايتها. وليس غريباً ان تتصادف المواجهة مع فرنسا في دمشق اسقاط حكومة فيصل الأول مع حصول الصدام الفلسطيني - اليهودي الأول في نيسان ابريل 1920، فالصدام، وإن جاء متأخراً، كشف عن بداية وعي مختلف للمشكلة اليهودية فرضته الوقائع السكانية على الأرض وممارسات الحكومة المنتدبة دولياً. وردت بريطانيا على الانتفاضة الفلسطينية الأولى بتسليم ادارة فلسطين الى يهودي انكليزي هربرت صموئيل فأخذ بتنفيذ خطة التهويد بالتنسيق مع السياسي الانتهازي وزير المستعمرات آنذاك ونستون تشرشل. فتكررت الاضطرابات في العام 1921 فتم مواجهة الشعب الفلسطيني بالعنف فاستقر الأمر فترة لتعود المواجهات الى الاندلاع في العام 1929 في حادث عرف لاحقاً بانتفاضة البراق.
ورد الانتداب البريطاني بفتح ابواب هجرة اليهود وتنظيم انتقال النازحين واسكانهم باشراف المندوب السامي وادارته، فهاجر في العام 1931 أكثر من 4565 يهودياً، ثم 9553 في العام 1932، و30327 في 1933، و61854 يهودياً في العام 1935. وانتهى الأمر، الى انفجار ثورة 1936.
لم تندلع الثورة من فراغ بل سبقتها مقدمات سياسية خطيرة تمثلت بالهجرة الضخمة التي حصلت في العام 1935، ومحاولات شراء الأراضي الفلسطينية بالقوة أو من طريق الاغراءات المالية والرشاوى، واقدام اتباع جابوتنسكي زعيم ارهابي بشن هجمات على القرى العربية. فجاء الرد الفلسطيني مرفقاً للمرة الأولى ببرنامج عمل يوضح مطالب الاضراب العام وهي: وقف الهجرة، منع بيع الأراضي، واقامة حكومة وطنية دولة فلسطينية. ولا يزال برنامج ثورة 1936 يشكل الى الان جوهر برنامج منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها الوطنية في الضفة والقطاع.
وردت حكومة الانتداب على برنامج الثورة بزيادة هجرة اليهود طارحة مشروعاً لتوزيع الأراضي في العام 1937. فتجددت المواجهات بعد اغتيال حاكم منطقة الجليل الانكليزي اندروز، واعدام الشيخ فرحان السعدي، الأمر الذي فتح معركة واسعة مع القوات البريطانية امتدت الى العام 1938. فارسلت لندن لضبطها نخبة من قواتها بقيادة الجنرال ويفيل والعميد مونتغمري فتمت السيطرة على الوضع بعد سقوط 7 آلاف شهيد ونسف 2000 منزل وتفكيك معظم الادارات المدنية، واعتقال أو نفي كل المقاومين والشخصيات السياسية والنقابية.
وحين اندلعت الحرب العالمية الثانية في العام 1939 اتجهت بريطانيا الى اتباع سياسة مرنة لشراء الوقت وتهدئة الموقف في وقت شهدت فيه أوروبا معارك ضارية أعلنت خلالها المانيا النازية "الحل النهائي" للمشكلة اليهودية متبعة أسلوب الحرق أو الطرد فبدأت موجات جديدة تنزح من وسط أوروبا وجنوبها بعد تلك التي نزحت سابقاً من شرقها وشمالها.
وفي نهاية الحرب الكبرى الثانية كان الانتداب البريطاني اعد العدة من مال وبشر وسلاح لتنفيذ "وعد بلفور" فطرح مشروع التقسيم في 1947 معلناً الانسحاب من فلسطين في أيار مايو 1948. وبين مشروع التقسيم واعلان الانسحاب نجحت المنظمات الصهيونية في تجنيد 185 الف مقاتل يهودي من الذكور من سن 16 الى 50 سنة بينما لم تجيش الدولة العربية، بعد قرار جامعتها بارسال قواتها في 12/4/1948، اكثر من 15 الفاً. وانتهت الحرب بكارثة عربية ونكبة فلسطينية سقطت خلالها يافا وحيفا وعكا وطبريا ودمرت 450 قرية وشرد سكانها وأهلها الى دول الجوار، فاضطرت معظم الدول المعنية بالقتال توقيع هدنات مع الدولة العبرية في العام 1949.
تاريخ يكرر نفسه
منذ ذاك التاريخ تكررت القصص وتشابهت. تبدأ الدورة بتهجير اليهود من الخارج، وتقوم المنظمات بتجميعهم في مستوطنات ومستعمرات، فتعود المناوشات السياسية على الأرض والمياه، فتحصل مواجهات دموية تتحول الى معارك عسكرية... وتنتهي الدورة باحتلال المزيد من الأرض وطرد سكانها. فالرد الفلسطيني كان دائماً يقوم بالضد من سياسة فعل اسرائيلية بينما الفعل الإسرائيلي اعتمد دائماً استراتيجية مدروسة ومبرمجة ضمن منهجية واعية لاهدافها ووسائل تحقيقها. لذلك كان النجاح حليف الطرف الصهيوني - الإسرائيلي يقابله مسلسل لا ينقطع من التراجعات العربية - الفلسطينية. فالهجرات الأولى تمت بداية في سياق ملتبس الا ان معالمها توضحت في ظلال الانتداب البريطاني وسياسته القاضية بتنفيذ "وعد بلفور" ضمن خطة بعيدة المدى وخطوات هادئة ومتدرجة. ثم عاد الالتباس في فترة نمو الحركات النازية والفاشية في أوروبا فأخذت الهجرات تتوزع بين فلسطين والعالم الجديد الا ان الضغط السكاني وارتسام خريطة مستعمرات زراعية - عسكرية في مناطق ثلاث دفع الاحتقان الداخلي الى الانفجار فردت بريطانيا بسياسة عنيفة كشفت عن استراتيجية هجومية ضد المقاومة الفلسطينية آنذاك.
ثم عاد الالتباس مجدداً عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية وخلالها فانكفأت الحماسة البريطانية موقتاً لاستيعاب ضغوط الجبهة العسكرية في أوروبا وشمال افريقيا معركة العلمين ونجاح مونتغمري في تدمير قوات رومل ثم تجدد المشروع بعد تيقن الانتداب من هزيمة المانيا ودول المحور، وانتهى باعلان "دولة اسرائيل" في لحظة انسحاب بريطانيا.
بعد النكبة اخذت تل أبيب بتحريك المجموعات اليهودية في بعض الدول العربية لايجاد نوع من التوازن بين هجرتين: هجرة عربية من فلسطين وهجرة يهودية من الدول العربية. الا ان النتيجة كانت المزيد من التجميع وبناء عناصر القوة في جهة في مقابل المزيد من التفكيك والتشريد في جهة اخرى.
بعد الدول العربية جاء دور المعسكر الاشتراكي فانفتح مراراً ملف "حقوق الإنسان". وبين انفتاح وآخر كان يعاد غلقه لاستيعاب التهجير الجديد وتركيزه في مناطق محددة تمهيداً لهجوم عسكري أو لشراء المزيد من الأراضي وبناء عناصر القوة والسيطرة.
واستمر ملف "حقوق الإنسان" في المعسكر الاشتراكي يفتح ويغلق حتى تم اختزاله الى بند واحد وهو السماح بهجرة نسبة معينة من اليهود الى أميركا وفلسطين في مقابل مساعدات أوروبية غربية أموال، ومواد غذائية، وسياحة محدودة ومكبلة باتفاقات لضبط التسلح وانتشاره.
وعشية سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره انفتح باب الهجرة الى فلسطين في وقت تم الاتفاق بين موسكو وواشنطن على حرمان اليهود المغادرين في اختيار الجهة التي يريدونها. فجاء الاتفاق السوفياتي - الأميركي على فرض خيار وحيد على المهاجرين أو المهجرين اليهود من دول أوروبا الشرقية خوفاً من اختيار الولايات المتحدة كهدف للهجرة. وبالتواطؤ الأميركي - السوفياتي تم تجميع حوالى مليون مهاجر روسي في فترة تقل عن عشر سنوات في مدن أراضي 1948 والمناطق المحتلة في 1967. وترافق التهجير الجديد في فترة اندلاع انتفاضة نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات وفي لحظة انقسام الوضع العربي اثر ازمة الكويت في العام 1990 وضرب العراق في 1991.
فالرد الإسرائيلي على الانتفاضة الفلسطينية الأولى تشابه مع الردود البريطانية - الصهيونية ضد انتفاضات 1920 و1921 و1929 و1936 و1938 و1947 تجميع عناصر القوة البشرية والاستيلاء على الأرض وطرد سكانها. فالتصعيد ضد "التصعيد" أو الهجوم المضاد ضد الانتفاضات شكل الأساس السياسي لمختلف الخطوات المرحلية بدءاً من تنفيذ الوعد البريطاني بلفور وانتهاء بالمشروع الصهيوني اقامة دولة لليهود في فلسطين.
والسؤال ماذا سيكون الرد الإسرائيلي على الانتفاضة الثانية خصوصاً في حال تحالف التشدد والتطرف وشكلا حكومة برأسين تجمع العمل وليكود؟
هل تتبع اسرائيل الاستراتيجية نفسها فتقوم بحركة استيلاء قضم المزيد من الأراضي وتهجير طرد المزيد من الشعب الفلسطيني واسكان توطين المهاجرين الجديد أم انها تعيد تجميع عناصر قوتها وتحصن مواقع الاستيطان لفرض شروط سياسية على الجانب الفلسطيني؟
البداوة والسياسة
كل الاحتمالات واردة ويرجح ان تستمر سيطرة عقلية الاستيطان في توسيع هيمنتها على القرار الاسرائيلي. فالسياسة في الدولة العبرية لا تزال في حال تراجع منذ حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 لمصلحة تصاعد نفوذ التطرف والعنصرية مستفيدة من الفضاءات الدولية والمساعدات المالية والعسكرية الأميركية والألمانية والشريان البشري الذي يمدها باسباب التوازن السكاني الخارجي للتعادل مع النمو الديموغرافي الفلسطيني الداخلي. وتراجع السياسة لمصلحة التطرف يفسر جنوح حزب العمل من التشدد الى التطرف وقبوله التعاون واحياناً الخضوع لتحالفات يقودها مناحيم بيغن واسحق شامير وأخيراً ارييل شارون. وأساس انزلاق حزب العمل من التشدد الى التطرف يجد تفسيره الواقعي في تركيب الدولة العبرية التي بدأت بالهجرة من روسيا القيصرية والاستيطان التي استقرت سياسياً ونفسياً فترة محدودة وعادت مجدداً الى الاهتزاز بعد الهجرة الروسية الأخيرة التي تطالب بحصتها في الاستيطان وتوزيع الثروة والمشاركة السياسية في القرار العام.
وتحالف التشدد مع التطرف في اكثر من محطة سياسية منذ نهاية السبعينات الى الآن يؤكد على ان طبيعة الدولة العبرية متقلبة ديموغرافياً، فهي ما ان تستقر شخصيتها أو هويتها التاريخية لفترة وتبدأ باعادة حساباتها ضمن منطق توازن المصالح مع الفلسطينيين والتعايش مع دول الجوار العربية حتى يضطرب مزاجها السياسي بوصول دفعات موجات جديدة من اليهود النازحين المهجرين من الخارج فتفقد توازنها لتعود الايديولوجيا النصوص المقدسة الى واجهة الدولة. وتعكر المزاج الإسرائيلي الديموغرافي لا يكتفي بتعطيل السياسة في الدولة العبرية بل ينقل التوتر وسموم الكراهية العنصرية الى دول الجوار العربية. فالهجرات اليهودية المتتالية منذ مطلع القرن العشرين اسهمت في تبديل شخصية الدولة اكثر من مرة، وأثرت مراراً على التوازن النفسي الداخلي اذ كان الكثير من اليهود المستقرين هجرات سابقة يرحل الى أوروبا وأميركا تاركاً "ارض الميعاد" للنازحين الجدد. فتقلب الهجرات وتعدد هويات موجات النزوح مهاجرون قادمون ومهاجرون راحلون ساهم في تغلب مزاج اللااستقرار وخلط توازن الشخصية التاريخية للدولة العبرية وصولاً الى انقلاب قرار السياسة من التشدد الى التطرف والعنصرية والعودة الى التهديد بالطرد والاستيلاء وربما الحرب مع المنطقة.
زاد تعرض الدولة العبرية الى ما يشبه "البداوة" السياسية ارتحال وترحيل في تاريخها القصير نسبياً من صعوبات قبول اسرائيل بالتسوية السلمية ضمن استراتيجية توازن المصالح وقلل من امكانات التعايش مع الفلسطينيين أو دول الجوار. فالموجات الأولى التي استقرت في المنطقة وباتت على استعداد نفسي للتفهم والتفاهم مع المحيط تغلبت عليها موجات البداوة السياسية هجرة جديدة اطاحت بعناصر الاستقرار "الحضري" السابقة ودفعت مزاج الدولة الى التقلب والميل الدائم نحو التطرف والتمسك بالنص المقدس المشبع بالعصبية الدموية.
* كاتب من اسرة "الحياة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.