جدد الانذار الذي وجهه الرئيس بوش الى ارييل شارون، الحديث عن انذار مشابه سبق للرئيس ايزنهاور ان وجهه الى زعماء دول الاعتداء الثلاثي في تشرين الثاني نوفمبر 1956. ومع ان المقارنة تبدو غير متكافئة بين أحد أشهر قادة الحرب العالمية الثانية وبين سياسي مغمور صنعته شهرة والده... إلا أن القدرة على استخدام سلطة الرئاسة، تبقى وحدها المعيار الصحيح الذي يميّز أحدهما عن الآخر. والدليل أن رؤساء اسرائيل وفرنسا وبريطانيا لبوا نداء الانسحاب الذي طلبه ايزنهاور عام 1956، في حين رفض شارون الاستجابة لانذار جورج دبليو بوش بحجة أن المهمة العسكرية لم تستكمل أهدافها بعد. ولما تكررت "دعوة الانسحاب من دون تأخير" على ألسنة الرئيس الأميركي ووزير خارجيته كولن باول ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، كرر شارون رفضه مدعياً أنه يقاتل من أجل وجود اسرائيل وبقاء الشعب اليهودي. ورأت صحيفتا "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" في تعاطي شارون مع الطلب الأميركي إهانة شخصية للرئيس وتحقيراً لهيبة دولة عظمى ربطت نفوذها وسياستها الخارجية بمصير دولة اسرائيل. والمؤكد ان بوش لم يتجرأ على اتخاذ قرار حاسم كما فعل ايزنهاور، لذلك تلطى وراء الاجتماع الرباعي في مدريد لكي يبرر دعوة وقف النار الفوري. أي الاجتماع الذي ضم أمين عام الأممالمتحدة كوفي أنان والوزير كولن باول، ووزير خارجية روسيا ايغور ايفانوف ووزير خارجية اسبانيا جوزيب بيكيه. يجمع الديبلوماسيون في الأممالمتحدة على القول بأن فكرة إرسال مراقبين دوليين الى المنطقة ستصطدم بمعارضة الحكومة الاسرائيلية التي رفضت سابقاً هذا الاقتراح. والسبب أن انتشار هذه القوات سيكون فوق الخط الأخضر الفاصل، الأمر الذي يثير مخاوف اسرائيل من أن يصبح هذا الخط بمثابة حدود نهائية. وهذا ما يفسر رفض شارون قبول قوات مراقبة لأن تصوره لمساحة الدولة الفلسطينية لا يتجاوز 24 في المئة من مساحة الضفة الغربية. وعليه يمكن اعتبار هذا الموضوع مصدر خلاف آخر مع الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي. ولكي يمنع شارون التدخل الخارجي قبل دفع الفلسطينيين الى الاستسلام، قام خلال الأيام الأخيرة باجراء تغيير في طاقم الحكم بطريقة تنسجم مع طموحاته. وهي طموحات سلبية تعكس التطلعات الايديولوجية لليمين المتطرف الذي قضى على مسيرة السلام بعد اغتيال اسحق رابين. ويستعد زعيم ليكود الآن لمواجهة التدخل الدولي الحاسم بقيادة الولاياتالمتحدة لأنه يرفض تطبيق خطة تينيت وتوصيات لجنة ميتشل وكل الفرص المتاحة لاستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية. ومعنى هذا ان الأفق السياسي في اسرائيل لم يعد محصوراً بخلاف الصقور والحمائم، وانما بمؤيدي التدخل الدولي ومعارضيه. وهذا ما يفسر حل المجلس الوزاري الأمني المصغّر واستبداله بمجلس استشاري لا يضم ممثل حزب العمل الوزير شمعون بيريز. كما يفسر بالتالي إصرار رئيس الحكومة على اختيار الجنرال موشي يعالون خلفاً لرئيس هيئة الأركان شاؤول موفاز، على رغم اعتراض وزير الدفاع بنيامين بن اليعيزر. ولم يكن هذا الاختيار المدروس سوى اعتراف بأهمية الجنرال الذي اغتال أبو جهاد في تونس 16/4/1988 وبأن مهمته الجديدة تقضي باغتيال الانتفاضة التي أشعلها وحرك عناصرها من بعيد أبو جهاد. واضح من التغيير الذي أجراه شارون في مواقع القرار انه عازم على احراج الإدارة الأميركية عن طريق الادعاء بأن بلاده تقف سداً منيعاً في وجه الأصولية الاسلامية، تماماً كما وقفت في عهد غولدا مائير واسحق شامير ومناحيم بيغن سداً في وجه الشيوعية. وفي رأي حزب ليكود ان مثل هذا الدور لا يتحقق الا إذا تغيرت طبيعة التكوين الديموغرافي للدولة العبرية وأصبحت ملاذاً آمناً ليهود العالم، أي إلا اذا سقطت فكرة الدولة التعددية ولم تعد اسرائيل فلسطين موطناً لسكانها الأصليين من مسلمين ومسيحيين ويهود. وهذا يقتضي بالضرورة العودة الى إحياء فكرة الدولة الصهيونية التي تتمتع بنقاء عنصري مثلما كانت دولة جنوب افريقيا. وفي ضوء هذا التغيير استعرض الاتحاد الأوروبي قرار الحظر والمقاطعة الذي عوقبت به دولة ابارثايد سياسة التمييز العنصري. ولكن الخطب التي يلقيها شارون في الجنود تدل على عمق التغيير الذي نشرته الأحزاب اليمينية المتطرفة داخل اسرائيل وخارجها. فهي تشدد على العلاقة التي تربط الشعب اليهودي بأرض صهيون، معتبرة ان الحق في امتلاك أرض الأجداد والآباء هو جوهر وجود اسرائيل. ومن هذا المنطلق يتحدث رئيس الوزراء في الجنازات مردداً انشودة ديفيد شمعوني التي نظمها عام 1928 ثم تحولت الى أغنية شعبية. وتقول كلماتها: "رغم كل شيء سنبقى متمسكين بأرض اسرائيل... ما دام يصدح في العالم صوت يهودي... وينبض فيه قلب يهودي". وفي مواجهة عدالة الفلسطينيين التي يستقون منها قوتهم ونضالهم، طالب شارون الشعب الاسرائيلي بضرورة التمسك بشعار الأمن لأنه الوسيلة التي تحفظ استمرار الدولة العبرية. والطريف أن العزف على وتر الصهيونية وما يحمله لها "الارهاب الفلسطيني" من مخاطر، أعاد الى الشعب الاسرائيلي ذكرى التهديد بالقائهم في البحر. وهكذا شجعت حملات التضليل الجاليات اليهودية في العالم لأن تعلن تعاطفها مع شارون وتباشر هي في تنظيم مسيرات وندوات ومؤتمرات تتحدث فيها عن الحق التاريخي ليهود العالم بأرض الميعاد. ولكي تستغل اسرائيل ذكرى "المحرقة" طلبت من جميع يهود العالم القيام بحركة استنفار مشاعر الاضطهاد لتذكير الأوروبيين بأن تأييدهم للفلسطينيين سيشجع على حدوث محرقة ثانية. وكان من الطبيعي ان تؤدي هذه المواجهات الى ردود فعل عنيفة من جانب المجتمعات التي ترفض احياء الذكريات المزعجة من التاريخ. ففي جامعة بيركلي كاليفورنيا تظاهر أكثر من 800 طالب لاحياء ذكرى مجزرة دير ياسين، ثم اصطدموا مع طلاب يهود حرضتهم "ايباك" على التظاهر في ذكرى المحرقة. في سويسرا - حيث عوامل الحياد اقصت هذا البلد عن التأثر بالأحداث الخارجية - شهدت المدن الكبرى تظاهرات احتجاج ضد القمع الاسرائيلي. وعلق أحد كبار المصرفيين على هذا التحرك المفاجئ بالقول إن الشعب الذي دفع تعويضات خيالية تسديداً لمدخرات غير موجودة، أراد اظهار تعاطفه مع العرب نكاية بالذين نهبوا أمواله من دون حق. أما في فرنسا فإن أشباح اللاسامية بدأت تظهر على السطح في اطار سلسلة هجمات على مواقع دينية ومدنية مرتبطة بتصاعد وتيرة النزاع في الشرق الأوسط. وربما حركت حادثة الاعتداء على جوزيه بوفيه من قبل "رابطة الدفاع الصهيونية" مشاعر الكراهية النائمة في عدد من مدن فرنسا. هذا، وكان بوفيه قد عقد مؤتمراً صحافياً تحدث فيه عن مشاهداته في المناطق الفلسطينية، وعن الأسباب التي أدت الى طرده من اسرائيل بسبب اعتراضه على أعمال الظلم. ويتخوف يهود أوروبا من ترحيب الحكومة الألمانية بدعوة الرئيس الأميركي الى انسحاب اسرائيلي فوري من الأراضي الفلسطينية. خصوصاً وأن هذا الترحيب جاء عقب اعلان وزارة الدفاع الألمانية عن فرض حظر تصدير الأسلحة الى اسرائيل، بما في ذلك المعدات الخاصة بدبابات ميركافا. واعتبرت حكومة شارون قرار المانيا بمثابة اعلان تحرر من عقدة الذنب ومن مخاوف الابتزاز المادي والسياسي. خصوصاً وأن وزير الخارجية يوشكا فيشر قدم ورقة الى الاتحاد الأوروبي تطالب بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدسالشرقية. ومثل هذا المطلب وجد الصدى المستحب لدى اسبانيا وتركيا واليونان التي نظمت مساء الأربعاء الماضي مهرجاناً حاشداً تضامناً مع الفلسطينيين حضره أكثر من مئتي ألف شخص. كذلك أعلنت المجموعات اليسارية في البرلمان الأوروبي عن تأييدها تعليق اتفاق الشراكة القائم بين الاتحاد واسرائيل. فضلاً عن التظاهرات المناهضة لاسرائيل، لقد تولدت لدى الشعوب الأوروبية والآسيوية وأميركا اللاتينية والافريقية، مشاعر البغض ضد سياسة شارون. وأبلغ تعبير عن هذه المشاعر صدر عن الكاتب البرتغالي الحائز على جائزة نوبل ساراماغو دروسا، الذي وصف وحشية الجيش الاسرائيلي بأنها نسخة جديدة عن معتقل "أوشويتز". وقال ايضاً ان اسرائيل مسؤولة عن الظلم الذي تمارسه على الفلسطينيين بطريقة تظهرها كدولة من طراز الرايخ الثالث. ويبدو أن تشبيه ارتكابات الصهيونية بمجازر النازية أقلق الصحافة الاسرائيلية التي انتقدت بشدة تصريح المفكر البرتغالي لأنه في رأيها، شوّه الحقائق وشجع تيار اللاسامية الأوروبية على الظهور بعد خمسين عاماً. وكتبت "هآرتس" افتتاحية تدعي فيها بأن الوباء الأسود اللاسامية للنفس الأوروبية بدأت في الانتشار عبر التلفزيون والراديو والصحف ومختلف وسائل الاعلام. الحقائق الجديدة أقلقت الادارة الأميركية بسبب تحيزها السافر لاسرائيل وتصنيفها كدولة راعية لارهاب شارون. والمعضلة التي يواجهها الرئيس بوش في هذا السياق، تتعلق بالعجز المخزي الذي أظهره تجاه الرفض الاسرائيلي. وهو رفض مهين لم يسبق أن تجرأت على اظهاره أي دولة أخرى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990. ولكي يخفي الرئيس الأميركي مظاهر العجز الفاضح، طلب من وزير خارجيته التنسيق مع روسيا وأوروبا بهدف تطويق الموقف الاسرائيلي ومنعه من فرض توجهاته على سياسة أميركا في الشرق الأوسط. ويفسر المراقبون استهتار شارون بالانذار الأميركي بأنه نابع من عوامل عدة: "أولاً - ان الرئيس بوش هو الذي أعطى الضوء الأخضر للعملية العسكرية ضد السلطة الفلسطينية بعدما خذل العرب نائبه ديك تشيني في موضوع ضرب العراق. وهذا ما يجعله متواطئاً في حال استخدم لغة الفرض. ثانياً - ان الرئيس عازم على تجديد ولايته، الأمر الذي يجعله رهينة "ايباك" والإعلام اليهودي الطاغي. ثالثاً - بمقدور أصدقاء اسرائيل في الكونغرس تحريك الفضائح المالية التي ارتكبها الرئيس مع نائبه، في حال استخدم بوش لغة ايزنهاور لحض شارون على الانسحاب من الضفة الغربية. أي لغة التحذير والتهديد مع عدم الاكتراث بالناخب اليهودي الذي صدمه ايزنهاور بانتصار انتخابي ساحق حصل بموجبه على 58 في المئة من عدد الناخبين ونجح حزبه في 41 ولاية. صحيح ان اسرائيل بن غوريون لم تكن قد وطدت دعائمها السياسية بعد انقضاء تسع سنوات على قيامها... ولكن الصحيح أيضاً انه لولا الرعاية الأميركية المستمرة، ولولا مساعداتها العسكرية والمالية السخية، لكان وجود اسرائيل في المنطقة قد تعرض للانتهاك والضمور والذوبان. من هنا القول إن الأداء السياسي يختلف باختلاف نوعية الحكام، وبمدى قدرتهم على استخدام القوة المعطاة لهم. أصدر هذا الاسبوع 60 من علماء المسلمين وقادة الحركات الاسلامية في العالم العربي، بياناً يصف العمليات التي ينفذها الفلسطينيون ضد الاسرائيليين بأنها استشهادية، وكان ذلك أول ردّ على طلب الرئيس بوش من الزعماء العرب، اعتبار العمليات الانتحارية ارهابية. ولم يكن هذا البيان مناهضاً للمنطق الأميركي فقط، وانما كان بمثابة رفض سافر لمعايير عدالة البيت الأبيض في عهد بوش، والتي يعتبرها المسلمون والمسيحيون غير منسجمة مع القيم الأميركية، خصوصاً وأن اسرائيل استثمرت هذه المعايير على نحو مفرط، لكي تبرر حملتها الوحشية ضد ضحاياها القدامى من لاجئيي مخيمات 1948 و1967... * كاتب وصحافي لبناني.