كان الحدث الأبرز على صعيد الحال الفكرية في مصر خلال الأشهر الماضية هو صدور أربعة كتب وصفت بأنها تاريخية لقادة "الجماعة الإسلامية" المصرية، تمثل التأسيس الشرعي لما عرف بأنه مبادرة وقف العنف التي أطلقتها "الجماعة" منذ أعوام عدة لوقف مسلسل العنف الذي روع مصر خلال سبع سنوات متواصلة. والحقيقة أن الكتب الأربعة تجاوزت المبادرة إلى التأسيس لمرحلة جديدة في الخطاب الإسلامي الحركي يعود بالدعوة الإسلامية إلى موقعها الصحيح في قلب المصالح القومية العليا للأمة، بدلاً من الانزلاق إلى دوامات الصراع الثأري مع السلطة. الكتب الأربعة، وإن كانت صدرت من قادة ما زالوا في السجون، بما يعطي شبهة وجود ضغوط مباشرة أو غير مباشرة على من كتبها، إلا أن المتأمل في أسلوبها والتوازن النفسي والعلمي والإنساني الذي امتازت به يقطع بأن مثل هذه الضغوط لم تكن مؤثرة "جدياً" في هذا التحول الجديد، هذا فضلاً عن أن القادة الذين كتبوها أمضوا فعلاً مدة سجنهم بالكامل، ولا يتصور أن يقدموا تنازلات جوهرية وحاسمة في هذا الوقت المتأخر من دون قناعة إنسانية وشرعية وأخلاقية. ولا شك فيه أن الكتب وما حوته مثلت موقفاً شجاعاً ومسؤولاً من قادة "الجماعة الإسلامية" على رغم مرارة التجربة وأعبائها النفسية وتعريض أنفسهم لنهش المتربصين من داخل الصف ومن خارجه، وهذه أبرز إيجابياتها، كما أنها احتفظت بالدور المستقبلي للجماعة الإسلامية كحركة دعوية سلمية تشارك في التأسيس لنهضة مجتمعها العربي المسلم في مصر وهذه إيجابية أخرى. كما يأتي الإبراز الكبير لحسابات المصالح والمفاسد في منطلقات "التصويب" المنهجي كإحدى أهم الإيجابيات، لأن وعي هذه المسألة سيكون حاكماً لمسيرة الحركة المستقبلية، كما أن الوعي بهذه المسألة أو استيعابها هو دليل الحكمة والتعافي النفسي لأية حركة دعوية أو سياسية، وبرهان على تجاوزها مراحل المراهقة الفكرية التي تتجاهل الواقع وحساباته وموازناته الدقيقة وتتأسس على الاندفاع الحماسي بغير إدراك لحسابات المصالح والمفاسد. ويأتي أخيراً التنبيه المتكرر في الكتب الى مراعاة "المصالح القومية" لمصر بلورة لهذا الوعي وإعلاناً عن دخول "الحركة الإسلامية" في طورها الجديد، إلى صميم مشروع النهضة المستقبلية. ويشار الى أن الكتب، كأي جهد بشري، عابها بعض القصور المنهجي أو الفكري أو السياسي الذي يعذر أصحابه بحكم غياب الكثير من أبعاد لوحة هموم المجتمع المصري بحكم غيابهم أكثر من عشرين عاماً خلف جدران السجون، وهو غياب لا تلغيه متابعة بعض المنابر الصحافية والإعلامية من دون معايشة حقيقية ومباشرة للمجتمع وقضاياه. ولعل النقطة الأبرز هي ما نعتبره تدليلاً زائداً للحكومة من خلال أكثر من عبارة وموقف في الكتب الأربعة من دون داع، بل ربما تضر هذه العبارات والإشارات بقيمة الكتب ورسالتها وتأثيرها، وكان لا بد من الانتباه إلى الخيط الرفيع الذي يفصل بين مراجعات الجماعة لأخطائها المنهجية، وتحول هذه المراجعة إلى ما يشبه رفع الإثم عن الحكومة بعيداً من الجماعة والجماعات. كذلك هناك عدم وضوح للأفق السياسي الذي تعمل من خلاله الجماعة الإسلامية ونعني بذلك تصورها لمجمل هموم المجتمع وقضاياه. فالمشكلة الأبرز في الكتب هي الحديث عن الموقف والعلاقة مع "إخواننا الضباط والجنود" في جهاز الشرطة، وهذه جزئية في الأفق السياسي قد تكون لها أهميتها بحكم تاريخ الصراع الدموي، ولكنها ليست كل المشكلة ولا حتى أهم ما فيها، بل ربما صح القول إن العلاقة مع الأجهزة الأمنية هي ناتج أو "مرآة عاكسة" لعلاقة الحركة الإسلامية بالحال السياسية في الدولة، حكومة ومعارضة، الذي يخشى منه أن تظل الحركة، بعد هذا العمر، أسيرة الإحساس بأنها "قضية أمنية" وليست قضية سياسية. وهذا خطأ كبير وخطر عظيم نبهنا اليه مراراً في الأوراق الفكرية المتعلقة بتجربة "حزب الإصلاح". فالسلوك الأمني سلباً كان أو إيجاباً ليس محض اجتهادات أشخاص وإنما هو جزء من سياسة أمنية، والسياسة الأمنية جزء من سياسة عامة للدولة تحكمها وتحدد لها دورها وسقفها وأفقها وأولوياتها. وعندما نؤسس لحركة مستقبلية، دعوية أو سياسية، لا بد من استحضار هذا الأفق جيداً وإلا كان ذلك مؤشراً على عدم نضج، أو نوعاً من البناء على رمال متحركة. تتصل بهذا المعنى ضرورة التمييز بين مراجعات ذاتية للحركة لتصحيح أخطاء منهجية أو سلوكية وبين التراجع عن قطب وجودها المتميز ذاته، أي كونها حركة تغيير شعبية معارضة، إن الأمر الذي ينبغي أن يكون واضحاً في هذه المراجعات أن اعتراف الحركة بأخطاء في مسيرتها الدعوية لا يعني أنها تحولت إلى جناح ديني للحزب الوطني الحاكم، تخطئ هي إذا تصورت ذلك، ويخطئ النظام السياسي إذا تصور أن هذا هو المطلوب. وقد يغفر للكتب تجاهلها التنبيه الى هذه النقطة، ولكن القلق فرضته بعض العبارات الواردة فيها مثل الحديث عن أن التحدي الآن الذي يواجه مصر هو "التخلف والفقر". فإذا كان التشخيص صحيحاً إلا أننا لا يمكننا الحديث عن التخلف إلا مع الحديث عن القمع ومصادرة الحريات وتزوير إرادة الإنسان وغياب الاختيار الحر للمواطن المصري لممثليه وقادته وسياسات دولته. كما أن الحديث عن الفقر لا يمكن تمريره من دون الحديث عن "الفساد"، كما أنه لا يجوز لحركة إسلامية في أي وقت وأي ظرف أن تتجاهل قطب الخلل والاضطراب في بنية المجتمع وعلاقته بالسلطة، ألا وهو "غياب الشريعة الإسلامية" كمرجعية حاكمة، بما يفرزه ذلك على صعيد الواقع من ازدواجية الشعور والولاء في ضمير المواطن وسلوك الجماعة. والحاصل هنا أن وجود الجماعة ذاته كحركة شعبية مستقلة هو إعلان عن "دور معارض" أياً كانت صفته، يرى قصوراً ومعايب وسلبيات، ويرى في نفسه القدرة على خدمة أمته من خلال تصديه لهذه السلبيات والقيام برسالته الإنسانية والدينية والوطنية لدفع حركة مجتمعه إلى الأمام والأفضل، حتى وإن اصطدمت هذه الرؤية برؤى أخرى في النظام السياسي أو أي قوة سياسية أخرى في المجتمع، طالما كان التدافع سلمياً وملتزماً بالقواعد التي تأسست الآن من خلال المبادرة والكتب الأربعة، وهي تقديم مصلحة الأمة العليا على ما دونها، وحماية الأمن القومي للبلاد، والعمل من خلال النظم القانونية والدستورية القائمة واحترامها حتى وإن اختلفنا معها. النقد الذاتي على جانب آخر، فالذي ينبغي أن ننبه إليه، لدى الرأي العام ولدى حكومة الحزب الوطني أن اعتراف الجماعة في مراجعاتها بأخطاء ارتكبتها في أثناء مسيرتها الدعوية أو السياسية لا يعني أن موقف الحكومة ذاته كان سديداً ونزيهاً ومبرأ من العيب والأخطاء لا يلزم من هذا ذاك، وتلك نقطة مهمة لا بد من التشديد عليها أكثر من مرة. كانت هناك أخطاء فادحة ارتكبت أيضاً على الجانب الآخر، وليس أدل على ذلك من اعتراف الدولة بتخبط السلوك الأمني أكثر من مرة حتى اضطر السيد الرئيس إلى إصدار قرار إقالة وزير الداخلية أربع مرات متتالية، وهو ما لم يحدث في أي وزارة أخرى ولا في أي مرحلة من تاريخ مصر. بيد أن الأمر لا يتصل بمجرد أخطاء في السلوك الأمني، بل إن من الظلم الفادح أن يتحمل الجهاز الأمني المسؤولية وحده. إن الترهل في الجهاز السياسي وافتقاده القدرة على المبادرة في استيعاب القوى الشعبية وتحولات المجتمع، وعجزه الفاضح عن تقديم أي مبادرات سياسية جديدة تستوعب طاقات الشباب الجديدة ومعارضتهم هو المسؤول الأول عن تفاقم موجات العنف والغضب في المجتمع. وكان واضحاً أن الجهاز السياسي يهرب من مواجهة الأزمة بترك الملف بكامله للجهاز الأمني، فإذا وقعت كارثة حملوها للجهاز الأمني وحده. وظلت اللعبة على هذه الحال العشوائي حتى الآن. المشكلة كانت وما زالت مشكلة ذات أبعاد سياسية واجتماعية وليست أمنية، ولو لم يقع العنف من الإسلاميين في هذه المرحلة كان سيقع من غيرهم، طالما أن "المزاج الشعبي" العام يشعر بأنه مهمش والحكومة تحترم مشاعره ولا تشعره بالمشاركة. وشهدت مصر في الوقت نفسه موجة من أعمال العنف السياسي التي قام بها شباب يساريون في تنظيم "ثورة مصر" ضد سفارات وشخصيات صهيونية أو أميركية، وقبلها بسنوات قليلة قاد يساريون أيضاً موجة من العنف البالغ في أحداث 17 و18 كانون الثاني يناير الشهيرة. ويذكر أن بعض من أمسكت بهم الشرطة يشعلون النيران في محال "الأوبرا" أصبحوا الآن رؤساء تحرير صحف "قومية" ومسؤولين كباراً في وزارة الثقافة المصرية وأعضاء مختارين من جانب الحكومة في مجلس الشورى. مراجعة شجاعة إن مراجعات الجماعة التي امتازت بالشجاعة في مواجهة النفس وأبناء الحركة والمجتمع، لا يمكن أن تكتمل ويكتب لها النجاح إلا بظهور مراجعات أخرى من جانب النظام السياسي، تملك قدراً من الشجاعة للاعتراف بأخطاء وقعت في هذه المحنة التي شهدتها مصر، ويمكن التأسيس على الاعترافات والصرخات التي أطلقها أعضاء البرلمان عن الحزب الوطني الحاكم من أبناء الصعيد في أثناء "شبه المراجعات" التي أجرتها القيادة السياسية في أعقاب حادث الأقصر الشهير، وكذلك الكتابات المخلصة التي قدمتها أقلام مصرية مستقلة في الكثير من الصحف القومية والحزبية والمستقلة آنذاك. وفي هذه المراجعات لا ينبغي تجاهل أن "العنف" أصبح مزاجاً عاماً في المجتمع المصري بصورة لم يسبق لها مثيل في وحشيتها ودمويتها سواء كان عنفاً سياسياً أو عنفاً اجتماعياً أو حتى أسرياً وهذه حقيقة لا بد من وضعها نصب الأعين إذا كنا مخلصين لهذا البلد ومستقبله، إنه لا بد من وجود مبادرات حقيقية لفتح أبواب الأمل أمام هذه القطاعات الواسعة من الشباب المصري الذي يبحث عن المشاركة في هموم مجتمعه، ويريد أن يسمع صوته "المختلف" للمجتمع وحكومته وأجهزته. لا بد من ضخ "ترياق" الحرية في شرايين المجتمع لاستيعاب فاعليات الأمة في قنوات وشعاب مشروعة، سواء كمؤسسات مدنية أو جمعيات أهلية أو أحزاب سياسية أو منابر صحافية وإعلامية، فهذا "الترياق" هو وحده الضمانة والحصانة لحماية المجتمع من فيروس العنف السياسي والعنف الاجتماعي والانفجارات العشوائية التي تخرج بين حين وآخر من أجيال غاضبة تشعر أنها مهمشة. إن الجماعة أدت دورها في حدود أبنائها والمنتمين إليها، ويمكن البناء فعلياً على ضماناتها ومشروعها الجديد، ولكن من الذي يضمن للمجتمع سلامته من أجيال أخرى لا يدري أحد كيف تفكر الآن، ولا كيف سيخرج احتجاجها وغضبها على المجتمع في المستقبل، طالما بقي المناخ والتربة اللذان أفرزا جيل العنف يحتفظان بخصوبتهما الملائمة لنمو بذور العنف من جديد. إنه من دون وجود مراجعات حقيقية للنظام السياسي تحقق في أخطاء الماضي وتؤسس لمشروعات وبنى سياسية تستوعب حاجات المستقبل فإنه من غير المرجح أن تؤدي تحولات الجماعة الإسلامية إلى ثمرة ذات جدوى في المجتمع، وستتحول إلى جهد فئوي محدود جداً في تأثيره ومحيط فعله. مراجعات الجماعة يستشف منها نزوع إلى العودة بالحركة إلى "مهدها الفكري الأول" كحركة دعوية. ولعل هذا النزوع كان سبباً أيضاً في عدم الاهتمام بالأفق السياسي في خطاب الكتب الأربعة. وعلى رغم تحفظنا الكبير على هذا الأمر، لأنه حتى لو كنت حركة دعوية فأنت لا تعمل في "فضاء" اجتماعي وسياسي، وإنما تعمل من خلال خريطة سياسية لا بد من أن تراعيها وأن يكون لك موقف منها حتى لو كان موقف البعد والتحفظ، بيد أنه ينبغي التشديد على صدقية الجماعة عندما تقرر أنها - بهذه الدعوة - إنما تعود إلى سيرتها الأولى ومنهجها الأساس كحركة دعوية. فالجماعة الإسلامية كانت هكذا في نشأتها قبل أن تجرفها الأحداث وتنسحب إلى معركة ليست معركتها، ما باعد بينها وبين مبادئها ومنهجها قسراً على وقع العنف والعنف المضاد. ولا بأس أن تعود الجماعة إلى ممارسة دورها الذي حددته كحركة دعوية سلمية لا تعمل بالسياسة بمفهومها المباشر، الذي لا شك فيه أن المجتمع المصري، خصوصاً في صعيد مصر، يحتاج الى ما هو أبعد من السياسة بمفهومها المباشر، إنها بحاجة إلى جهد مخلص لتنمية المجتمع قيمياً وثقافياً وأيضاً اقتصادياً، وهذه هي البنية الأساسية التي يبنى عليها أي عمل سياسي بعد ذلك. أما النشاط السياسي وحده في بيئة محطمة على مختلف الصعد فهو تضييع وقت وربما تضليل للمجتمع عن همومه الكبرى وقضاياه. لا نعني بذلك استبعاد الجهد السياسي العام، إذ انك لا تستطيع ذلك ولو حرصت، وإنما نعني تأكيد أن المجتمع المصري بحاجة إلى جهد تنموي يلتحم مع صميم المجتمع ونسيجه وروحه وهويته. وهذا الدور لا يستطيع القيام به في مصر إلا أبناء الدعوة الإسلامية، فإذا صح وضوح هذه الرؤية في خاطر إخواننا في الجماعة الإسلامية وهم يخططون لدورهم المستقبلي فإنه سيكون بشرى خير وبركة لمصر ومستقبلها بإذن الله. مواقف غامضة على الجانب الآخر، هناك الموقف الغامض لحركة "الجهاد" المصرية، وما تردد عن موقف الشيخ عبود الزمر ورفضه مبادرة وقف العنف وعدم وجود توقيعه مع الموقعين على الكتب التي صدرت للجماعة. وما يمكن تأكيده في هذا السياق أنه لا يوجد رفض مبدئي من "الجهاد" لهذا التحول، وكان عبود الزمر من الموقعين على مبادرة وقف العنف في حينه، ولذلك فمن المرجح أن عدم وجود اسمه بين الموقعين ربما يرجع الى تحفظات بعيدة من "جوهر" التحول، وهذا أمر لا بد من استيعابه واحترامه كذلك، ولأن ذلك يصب في النهاية في مصلحة المبادرة والتحول الجديد وينفي عنه صفة الاضطرار والمداهنة. وما أراه في مجمل الموضوع أن "الأفق السياسي" سيكون حاسماً في التمييز بين موقف الجماعة والجهاد في التحول السلمي المقبل، فإذا كانت الجماعة بحكم نشأتها ومنهجها أكثر ميلاً إلى العمل الدعوي والتربوي، فإن تنظيم الجهاد أيضاً بحكم نشأته ومنهجه كان أكثر ميلاً إلى العمل السياسي، وأدبيات الجهاد واهتمامات قادته كانت واضحة في هذا الأمر. وكذلك المنهج التربوي داخل الجماعة الذي كان ينفتح على القراءات السياسية والثقافية العامة، ولعل الأمر الذي لا يعرفه كثيرون من دارسي الحركات الإسلامية في مصر أن الكثير من إصدارات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة ومركز دراسات الأهرام كان يحظى بجزء مهم من البنية التثقيفية لقواعد تنظيم الجهاد، وكذلك المجلات والكتب الإسلامية ذات الاهتمام بجانب التثقيف السياسي. صحيح أن خيار العنف المسلح كان حاضراً في فكر الجهاد التغييري، إلا أن الأساس السياسي كان حاضرا بقوة ووضوح على عكس اهتمام الجماعة الإسلامية بالجانب الدعوي والتربوي. وهذا الأمر يجعلنا أكثر قرباً من تفهم ما سبق وألمحنا إليه من أن "التحول" الجديد للجهاد سيكون باتجاه النضال السياسي، لأنه المتوافق مع بنيته النفسية والثقافية. ولا شك في أن الحضور السياسي للجهاد مستقبلاً في الحياة السياسية المصرية سيكون عامل إثراء مهماً لها، كما أنه سيكون عامل جذب كبيراً للطاقات الشبابية التي تصنف "راديكالية"، وهو أمر- بلا شك - سيسهم في تجفيف منابع العنف السياسي في المجتمع. ولكن، كل ذلك شريطة وجود مراجعات حقيقية جادة في النظام السياسي، تنتهي إلى طرح آليات جديدة ورؤى جديدة لاستيعاب فاعليات المجتمع الإسلامية على وجه الخصوص، وقد يرى البعض صعوبة ذلك في الوقت الراهن، وهذا صحيح، إلا أننا لا نملك إلا أن نؤكد طريق العلاج والحل مهما كانت صعوبته، وكذلك فإن الرهان في هذا الإطار هو على المستقبل بدرجة أساسية، وتطور المجتمع المصري ونمو وعيه السياسي، على رغم إحباطه ويأسه، يمثل أملاً مشرقاً في ذلك المستقبل المأمول. مراجعات منتظرة إلى جانب مراجعات النظام السياسي فإن هناك تيارين آخرين من المؤكد أن ثمة مراجعات منتظرة منهما في ضوء مراجعات الجماعة، وهما تيار "الإخوان المسلمين" والتيار العلماني اليساري. وفيما يخص الإخوان فإن بعض ردود الفعل التي صدرت إعلامياً عن قادتهم تجاه مراجعات "الجماعة الإسلامية" كان غير موفق بالمرة، لأن روح الشماتة بدت صريحة، بأن هؤلاء اعترفوا أخيراً بخطأ موقفهم وبالتالي صحة منهج الإخوان وأن عليهم الانضواء تحت لواء الإخوان المسلمين، ونحو ذلك من تصريحات اعتبرها البعض شماتة واعتبرها آخرون مثل "الصيد في الماء العكر"، وكلاهما موقف ينبغي أن نتنزه عنه جميعاً، خصوصاً أنه من الممكن أن يولد حزازات جديدة بين فصائل العمل الإسلامي نحن في غنى عنها. وقد صدرت بالفعل ردود فعل مقابلة اتسمت بالعنف الشديد تجاه الإخوان في تصريحات الشيخ حمدي عبدالرحمن تحديداً، وعلى رغم التحفظ عليها إلا أنها كانت صدى للتصريحات المستفزة التي صدرت عن الجانب الآخر. إن مراجعات الإخوان المنتظرة أصبحت ضرورية على أكثر من صعيد، خصوصاً تحديد الموقع الدعوي والسياسي للجماعة وبالتالي الآليات التنظيمية التي تتصل بتحديد هذا الموقع وتخدمه بدلاً من الاضطراب والتجاذب بين الجانبين الذي ينعكس على آليات العمل التنظيمي ويؤسس لازدواجية في بنية الجماعة وسلوكها مع القوى الأخرى السياسية والدعوية. والأهم في هذا السياق هو ضرورة التأسيس لوعي دعوي جديد لدى الجماعة يؤمن بحقيقة "التعددية" في الحال الإسلامية دعوياً وسياسياً كذلك، وينبغي تجاوز مرحلة القبول بالتعدد خارج الإطار الإسلامي والتصرف داخل الحال الإسلامية كممثل وحيد لا يقبل وجوداً لآخرين، دعوياً وسياسياً. أما على الجانب العلماني واليساري، فإن مقتضى "المصلحة القومية" لمصر يوجب العمل على عزل هذه الرموز اليسارية المتطرفة والفاسدة، التي تتاجر بكل شيء ممكن على حساب أمن مصر القومي ومصالحها، ابتداء من استعداء الأقباط على مصر وشعبها، وانتهاء باستعداء النظام السياسي وأجهزته الأمنية على الشباب الإسلامي وتعمد "الدس" وإشعال لهيب الفتن بين الطرفين لاستمرار العنف والتشنج والإحباط، لأن هؤلاء المتطرفين لا يعيشون إلا في هذه "الخرائب". وعندما تستعيد الأمة وعيها ورشدها ويسود الأمن والأمان فإن هذه الرموز الفاسدة والمتطرفة لا وجود لها ولا قيمة، إنهم أشبه بحفاري القبور، عيدهم يوم يكثر الموتى. ولا شك في أن القطاع الأوسع من اليسار المصري يمقت انتهازية هذه الرموز ويعرف نياتها، ولكنها في النهاية الأكثر احتكاراً لقنوات حزبية وإعلامية تعطيها أكبر من حجمها، مستندة - مع الأسف - الى دعم جهات سياسية في الحزب الوطني ذاته، تتخيل أن هذه الرموز المتطرفة تخدمها في مواجهة الحال الإسلامية. وعلى هذه الجهات أن تعيد النظر في "خدمها" هؤلاء، لأنهم أصبحوا عبئاً على الحياة السياسية وعلى أمن مصر ومصالحها، وإن نظرة واحدة متفحصة كفيلة بإبراز هذه الصورة واضحة جلية لكل ذي عين، وعلى جانب آخر فإن مراجعات حقيقية مطلوبة من اليسار المصري نحو موقفه من الحركة الإسلامية، والتعايش معها والقبول بدورها وفق تعددية فكرية وسياسية بناءة في المجتمع، بعيداً من التشنج وبعيداً من الهوس المتصل بماض تتنازعه الأهواء. فإذا جاز القول إن علاقة الحركة الإسلامية بالتيار الناصري لا ينبغي أن تظل أسيرة الصراع السياسي بين الإخوان وعبدالناصر، كذلك العلاقة بالحركة الإسلامية لا ينبغي أن تظل أسيرة هواجس الماضي عن دور الحركة الإسلامية في تصفية التيار اليساري والناصري في مطلع السبعينات. لقد تغيرت خريطة الحياة السياسية، ليس في مصر بل في المنطقة العربية وعلاقات الصراع والمواجهة مع العدو الصهيوني بما لم يكن يخطر على البال، وتغيرت معها خريطة التحديات والمخاطر، الأمر الذي يفرض وعياً جديداً بمتطلبات المرحلة وعلاقات القوى الوطنية مع بعضها بعضاً. وينبغي للحركة الإسلامية في المقابل أن تحذر شراك رموز الفساد والتطرف في المعسكر اليساري التي تهدف الى سحبها إلى صدامات مع قوى وطنية شريفة ربما وجدت نفسها - في نهاية المطاف - في خندق واحد معها. * رئيس تحرير فصلية "المنار الجديد". الكتب الأربعة حملت الكتب التي صدرت تحت سلسلة "تصحيح المفاهيم" العناوين الآتية: "تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد في أخطاء"، "النصح والتبيين في تصحيح مفاهيم المحتسبين" و"حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين" و"مبادرة وقف العنف رؤية واقعية ونظرة شرعية". وحملت الكتب توقيع قيادات مجلس شورى الجماعة الاسلامية: اسامة حافظ، عاصم عبدالماجد، كرم زهدي، علي الشريف، ناجح ابراهيم، عصام دربالة، فؤاد الدواليبي وحمدي عبدالرحمن.