ثمة مناطق ساخنة تتسم بالحساسية يتعين الاقتراب منها بحذر مفرط في مسألة المراجعات الفكرية ل"الجماعة الاسلامية" في مصر، والقول بتأثير تلك المراجعات على منهجها الشرعي والعقائدي. فالمغالاة في ذلك تسقط المعالم الجوهرية المميَّزة لمنهج "الجماعة الاسلامية" وتزيل الحواجز الفارقة بينها وبين جماعة "الاخوان المسلمين" بشكل كبير، كما أن التشكيك في هذه المراجعات والتهوين منها لا يحقق قوة الدفع المطلوبة لها للاستمرار في تغيير معطيات المناخ السياسي المعقَّد في مصر. وقد يحمل مؤسسات المجتمع المدني على عدم الاشتباك الفكري معها، وتجد معه بعض القوى المناوئة للتيار الاسلامي فرصة سانحة في تحريض الدول والأجهزة الأمنية المتعددة فيها على استمرار بقاء الوضع على ما هو عليه، عملاً بالأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية وتغولاً على حريات المواطنين وافتئاتاً على حقوقهم الدستورية والانسانية. والتعميم في محاولات تقويم تلك المراجعات الفكرية والربط في ذلك بين ما يجري ل "الجماعة الاسلامية" في مصر و"جبهة الانقاذ" في الجزائر فيه نظر. صحيح أن ظروف نشأة كل منهما ترتبط بشكل كبير بالرغبة الشرعية الجارفة في تبني الخيار الاسلامي وتنامي الصحوة الاسلامية في بلديهما بنشاطاتها الدعوية والاجتماعية والسياسية. إلا أن هناك قدراً كبيراً من التفاوت بين الحركتين من حيث القدرة على مواجهة الواقع الذي يحيط بهما. ذلك أن "الجماعة الاسلامية" في مصر تتميز بمتانة بنيتها التحتية وقدرتها على الصمود أمام الأخطار كالأزمات العنيفة التي تعرضت لها وهي في حال الهزيمة العسكرية، كونها وعاء فكرياً وعقائدياً ثورياً متسقاً ومميزا لجماعة من الشباب انطلقوا بها في النجوع والمراكز والقرى وعبروا بها أسوار الجامعة وحرَّكوا من خلالها المياه الراكدة في الحياة السياسية في مصر فكانت هي بذاتها سبباً مباشراً ومتغيراً جديداً دفع الأمور في طريق جديد. أما "الجبهة الاسلامية للانقاذ" في الجزائر فإنها تأثرت بشكل أساسي بالاجراءات التي اتخذها الرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد ودفعه العملية التعددية، فجاء تكوين "الجبهة" وفق ما يبين من اسمها في شكل تحالف بين قوى ومدارس إسلامية مختلفة في فهمها للقواعد الشرعية ومتنافرة في رؤاها الحركية والسياسية. و"الجماعة الاسلامية" تميزت بتماسك المرجعية التنظيمية وقوة تأثيرات قيادييها الروحية على كوادرها وأعضائها، الأمر الذي حقق قدراً كبيراً من الانسجام لميكانيكية الآراء اثناء التواصل الطردي والطبيعي لعملية إنشاء وتفريغ صفوف تالية من القيادات في المحافظات المختلفة ووجود نظام مركزي في طريقة إصدار القرار وتمريره. ويأتي تحالف "الجماعة الاسلامية" على سبيل الاستثناء مع جماعة "الجهاد" المصرية في الفترة من 1980 واشتراكهما معاً في اغتيال الرئيس السابق أنور السادات حتى تم فض التحالف بينهما داخل السجن العام 1983. واذا كانت المصالح الحركية بين "الجماعة الاسلامية" في مصر و"الجبهة الاسلامية للانقاذ" في الجزائر، توافقت من حيث الخطاب الثوري وقدرته على حشد الجماهير إلا أن المنهج الشرعي اختلف نسبياً بين الحركتين. ويلاحظ هنا أن "الجماعة الاسلامية" المصرية توافقت على المنهج السلفي في تكوين منهجها العقائدي، وانعكس هذا في طريقة تفكيرها السياسي وحظر العمل من داخل التنظيمات الحزبية. وربما أثّر في هذا التوجه بشكل كبير حرص قيادات "الجماعة الاسلامية"، آنذاك، على نقاء صفوفها ضماناً لمزيد من إحكام السيطرة على عناصرها، بعيداً من الأحزاب، وهي ما زالت في طور التكوين والانتشار. وعمدت "الجماعة الاسلامية" إلى اعتناق المذهب الوسطي في عدم جواز تكفير المجتمعات وآحاد الناس، وكان لها بحثها الشرعي في جواز العذر بالجهل لآحاد الناس الذين يقعون في المعاصي والذنوب. إلا أن الأمر اختلف في "جبهة الانقاذ" كنتيجة طبيعية لاختلاف مشاربها ومدارسها الفكرية والشرعية. فبدا واضحاً أن هناك مرجعيتين اساسيتين تحكمان عمل "الجبهة"، مرجعية مدني ورؤاه السياسية المتحررة، ومرجعية علي بلحاج الشرعية السلفية، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله عند أول أزمة واجهت "الجبهة". إذ ألغى الجيش جولة الانتخابات وحل "الجبهة" نفسها فتحولت هذه الى مجموعات متناثرة يعتنق بعضها النهج التكفيري الاستباحي. وكان لا بد من استحضار هذه المعطيات بشكل واضح عند التعاطي مع عملية المراجعات الفكرية للحركة الاسلامية في مصر والجزائر، لفك الاشتباك ورفع الالتباس بين ما هو فكري ويخضع للتطور والمتغيرات، ولا يصطدم، من ثم، بالثوابت العقائدية التي تعتمد الى حد كبير على النصوص الشرعية الصحيحة. والأمر الذي ينبغي الانتباه إليه هو أن المراجعات الفكرية للحركة الاسلامية ليس الدافع اليها ما يروج له بعض الكتاب أو الخبراء الأمنيين، أي المأزق الذي تعيشه هذه الحركات نتيجة الاجهاضات الأمنية. إلا أن الأمر يعد تطوراً طبيعياً وفق السنن الكونية مع عدم إغفال اعتبار ارتطام مثل هذه الحركات بجدار الواقع وضرورة وضع الهزيمة العسكرية في مكانها الطبيعي من دون إفراط أو تفريط. فالحركة الاسلامية المعاصرة في مصر، على رغم أنها ولدت عملاقة في اوائل السبعينات، حتى بدا كثير من القوى والمدارس الفكرية المغايرة أقزاماً أمامها، إلا أنها اتسمت بقدر كبير من السذاجة والمراهقة السياسية آنذاك بحيث سيطرت على خطابها السياسي فكرة العزلة عن المجتمع التي تبناها شكري مصطفى وانتشر بها في فترة وجيزة وتأثر بها آخرون ممن قد لا يعتقدون فكر التكفير. وارتبط ذلك، بشكل جوهري، بغياب المرجعية الدينية المرشدة نظراً الى ظروف "الإخوان" القهرية في الاحتجاب، وهجرة كثير من العلماء الثقات في ذلك الوقت إلى بعض الدول الخليجية. وهكذا اعتمد جيل السبعينات على قدراته الخاصة في فهم النصوص الشرعية. بيد أن الحركة الاسلامية اكتشفت بعد عشر سنوات من ذيوع فكرة التكفير والعزلة مدى سذاجة الفكرة التي تهاترت لدرجة تصور امكان خضوع الدولة لاختطاف الشيخ حسين الدهبي، وزير الأوقاف آنذاك ثم قتله. ثم عادت "الجماعة" لتواكب الواقع من حولها، فعلى رغم تأثر صالح سرية ايضاً بفكرة جاهلية المجتمع وعدم موالاة الأنظمة التي لا تطبق شرع الله، إلا أنه أجاز العمل الحزبي الاسلامي والمساهمة من خلاله في الانتخابات ودخول البرلمان والمشاركة في الوزارات، وكان صريحاً في أنه يسعى من هذا الطريق الى تحويل الدولة الى دولة إسلامية. بمعنى أنه أراد أن يكون ذلك التصور من خلال آليات الحركة الاسلامية وليس من خلال محاولات فردية، فالجماعة هي التي تقرر لا الأفراد، وهي التي تدفع بهم وهي التي تقرر اشتراكهم. وعلى رغم تمتع صالح سرية بجرأة في اعتماده فقه الواقع، إلا أن أهم ما عاب الحركة الاسلامية وعطل قدراتها إغلاقها باب الاجتهاد ولجوؤها الى التقليد والمحاكاة. وإن شئنا الدقة فقد كانت هي جزءاً من الواقع العربي والاسلامي المر الذي استسلم لحال التردي والهزيمة بعد سقوط الخلافة الاسلامية كإحدى نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية. لقد غاب التصور السياسي عند الاسلاميين واكتفوا بإنزال النصوص الشرعية وتحقيق مناطقها وفق النموذج الذي حدث في العقود الأولى للدولة الاسلامية وتعاملوا مع الوسائل والآليات وفق منطق الحلال والحرام وحصروها في فكرة الخروج المسلح، على رغم اختلاف الواقع القديم الذي تعامل مع مفرداته الخاصة التي أهم ملامحها سريان القوانين الاسلامية وتطبيق أحكام الشريعة. فكان الفرض الوحيد المطروح للنقاش يكمن في المبررات التي قد تقود الجماعة إلى الخروج على حاكمها المسلم، حتى ان كمال حبيب لم يقدم لنا ما يشفي الغليل وهو يتعرض لهذه القضية حينما تواصل مع ياسر الزعاترة في صفحة "افكار" في فك الاشتباك بين الفتوى والجدوى، فتقدم العلوم الانسانية وتعددها وتطور علم النظم الدستورية يحتم على فقهاء الحركات الاسلامية التصدي بالنظر إلى هذه القضية الشائكة في مدى تواصل هذه الحركات مع مجتمعاتها وعدم الاعتماد بشكل أساسي على ما سبق أن طرحه الإمام الجويني في مباحثه عن شكل الدولة الاسلامية وطريقة الحكم فيها. ان البحث عن الخيط الرفيع بين الفتوى والجدوى وتأثر حال العنف بباب الخروج على الحاكم أمر فيه نظر، لأن "الجماعة الاسلامية" المصرية هي أمس واليوم وغداً، تتمسك بضرورة تطبيق الشريعة الاسلامية نصاً وروحاً وتعديل القوانين وتنقيتها مما يخالف أحكام الشريعة الغراء، وتهيئة المجتمع روحياً وأخلاقياً لذلك من خلال أسلمة وسائل الإعلام وتكريسها للقيم الروحية والتعاليم الدينية والفضائل الأخلاقية، بدلاً من دغدغة المشاعر بفنون وآداب هابطة. وفي هذا الصدد على وجه التحديد لم يصدر عن "الجماعة الاسلامية" ما يفيد تنازلها عن شيء من ذلك او قبولها بتبعيض الشريعة، بل ان المؤكد أنها تتمسك في أدبياتها ببطلان التحاكم الى غير شرع الله وتدعو الى أسلمة العلوم الانسانية ودعم الجهود المخلصة التي تبذل في هذا الصدد تطويراً للفكر الاسلامي وإثراءً للفكر الانساني المشترك. والثوابت العقائدية ل "لجماعة الاسلامية" لم يطرأ عليها تعديل، ذلك أنها تفقد أهم أسباب وجودها بتنازلها عن شيء من ذلك. وهو الأمر الذي دفعنا الى تفسير مبادرة وقف العنف التي اطلقتها القيادات التاريخية ل "الجماعة الاسلامية" على أنها ليست ردة عن ثوابت عقائدية بقدر ما تكون تطوراً في فقه التعامل مع الوسائل والآليات. هذا التغيير عبر عنه بوضوح أحد أبرز الزعماء التاريخيين ل "الجماعة" وهو كرم زهدي بقوله "إن القتال في حد ذاته ليس غاية وإنما هو إحدى وسائل تحقيق الأهداف، إذا ثبت فشله في بعض المراحل يتعين العدول عنه الى غيره". فالفتوى والجدوى مرتبطتان ارتباطاً يصعب الفصل بينهما، ولعله من نافلة القول إن المراجعات الفكرية تسبب تطبيعاً للتصورات السياسية الاسلامية بفعل النضج الذي تحدثه مثل هذه المراجعات الفكرية للحالة الفقهية. ومن هذا الباب ينبغي النظر إلى مبادرة وقف العنف في مصر على أنها مراجعات في الوسائل والآليات وفي الوقت نفسه تنبئ عن نضج سياسي طرأ كنتيجة طبيعية للخبرات والعلوم والمعرفة المكتسبة لمثل هذه القيادات، سواء من حيث التحصيل العلمي الاكاديمي نتيجة البحث والتنقيب طيلة سنوات عدة، أو من حيث الخبرة في التعامل مع الواقع والتخلص من الطريقة الديماغوغية في اتخاذ القرارات. وانعكست رغبة "الجماعة الاسلامية" في التفاعل مع القوى السياسية الأخرى في القضايا القومية المشتركة عبر البيان الذي أبدوا فيه رغبة في التعاون مع القوى الوطنية كافة من أجل وقف التطبيع مع اسرائيل وتحرير القدس. * محام مصري