تفاقم التطورات الأمنية والعسكرية، ومعها استمرار أجواء الحرب في الأراضي الفلسطينية، مأزق الاقتصاد الاسرائيلي الذي يعاني من درجة انكشافه البالغ أمام التقلبات في الأسواق الدولية، سيما وأن استراتيجيات النمو التي اتبعت خلال التسعينات كانت قائمة على توسيع الصادرات وجعلته أكثر تأثراً بوضع السوق الدولية. وتسعى الحكومة الاسرائيلية حالياً إلى خفض موازنتها، نتيجة الارتفاع السريع لنفقات الحرب، في وقت لا يكاد يمر يوم من دون أن تعلن الشركات الاسرائيلية عن تكبدها خسائر فادحة وتعيد النظر في توقعاتها للنمو. يعقد مسؤولو وزارة المال الاسرائيلية اجتماعاً الأسبوع المقبل يخصص للبحث في تقويم الوضع الاقتصادي العام في البلاد، وتحديد حجم الخفض الاضافي المفترض في الموازنة العامة، نتيجة استمرار القتال في المناطق الفلسطينية، في وقت تظهر المؤشرات الاقتصادية تفاقم الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الاسرائيلي. ومن المنتظر أن يسفر الاجتماع عن اقتراح اقتطاع قرابة 6،2 بليون دولار 12 بليون شاقل إضافية من الموازنة العامة، على أن ترفع التوصيات إلى الحكومة لاقرارها في حزيران يونيو المقبل عند إعادة المراجعة الدورية للموازنة. وكانت اسرائيل لجأت أربع مرات، منذ عام 1993، إلى إعادة رسم سياستها الخاصة بضبط عجز الموازنة. وكان قرارها الأخير قبل عامين يقضي بتحقيق خفض تدرجي للعجز بمقدار 25،0 في المئة سنوياً، للوصول الى عجز يناهز 5،1 في المئة من اجمالي الدخل القومي سنة 2003، على رغم المخاوف الحقيقية من إطالة الركود. وكانت الكنيست الاسرائيلية أقرت في السابع من شباط فبراير الماضي الموازنة الاسرائيلية لسنة 2002، والتي بلغ اجماليها 252 بليون شاقل 55 بليون دولار، بعد تأخّر استمر 27 يوماً نتيجة الخلافات بين أطراف الائتلاف الحكومي حول كيفية تقاسم بنود الموازنة وتوزيعها. ولم تتضمن الموازنة بنداً للانفاق الاحتياطي، واكتفت بالاعتماد على توقعات أثبتت التطورات الأخيرة عدم صحتها، ومفادها أن الاقتصاد سينمو بمعدل 5،1 في المئة، وأن عائدات الدولة من الضرائب والتضخم المالي ستزداد بمعدل 2،3 في المئة، في حين لن يتجاوز العجز معدل ثلاثة في المئة بلغ العام الماضي 25،2 في المئة من اجمالي الدخل القومي. ولم تراعِ الموازنة كذلك استمرار تأثيرات الركود وما يصاحبه من بطالة مرتفعة ينتظر أن تقارب 11 في المئة من مجمل القوى العاملة البالغ 4،2 مليون شخص. وكان النمو الذي شهدته اسرائيل مطلع التسعينات حفزه نمو الطلب على استهلاك المنتجات وشراء السلع الكمالية، وهو ما يفسر تراجع النمو بعد توقف قدوم المهاجرين السوفيات عقب عام 1996. واختلفت الصورة ابتداء من عام 2000، وبعد عامين من النمو السالب، عندما شهدت اسرائيل، في الشهور التسعة الأولى من السنة، نمواً مقداره 4،3 في المئة ناجماً عن تغير في تركيبة الاقتصاد وتركز النمو في صورة خاصة على توسيع الصادرات. إلا أن اندلاع الانتفاضة ألحق تخريباً بالغاً بالاقتصاد الاسرائيلي في وقت كانت الشركات الاسرائيلية بدأت تعاني منذ آذار مارس عام 2000 من التباطؤ في الاقتصاد الأميركي. وتعترف اسرائيل بأن الانتفاضة الفلسطينية تركت ثلاثة تأثيرات سالبة على اقتصادها: في قطاع السياحة والبناء والزراعة، أذ أدت إلى انهيار قطاع السياحة، في حين تأثر قطاع البناء الذي يعتمد بنسبة 30 في المئة على العمالة الفلسطينية، ومعه الزراعة التي تعتمد على العمال الفلسطينيين بنسبة 12 في المئة، علماً أن قطاعي البناء والزراعة سبق أن عانيا من قبل من مشاكل كبيرة، نتيجة التحولات البنيوية التي شهدها الاقتصاد الاسرائيلي باتجاه التركيز على الأنشطة التصديرية وزيادة نسبة الأكاديميين والفنيين على حساب أصحاب الوظائف اليدوية. كما أدى تباطؤ الاقتصاد الأميركي، وتراجع الصادرات الاسرائيلية اليه، إلى خفض إجمالي الناتج القومي الاسرائيلي بنسبة واحد في المئة على الأقل، وخفض توقعات النمو باتجاه سالب. ومن شأن إعادة النظر الحالية بالموازنة أن تعزز اتجاهات الركود في اسرائيل. وكان مسؤولو المالية يعتقدون أن الخفض الاضافي المترتب على استمرار الانتفاضة سيدور في محيط تسعة بلايين شاقل بليونا دولار، إلا أن حرب "السور الواقي" التي بدأها رئيس الوزراء ارييل شارون الأسبوع الماضي دفعت إلى زيادة تقديرات الخفض ثلاثة بلايين شاقل 625 مليون دولار إضافية، من دون احتساب أكلاف الحرب في حال تواصلت المواجهات خلال الفترة المقبلة. ويذهب 4،9 في المئة من إجمالي الموازنة العامة الاسرائيلية للانفاق الحربي. إلا أن تزايد أعباء الانتفاضة يعني أن النفقات الحربية مرشحة للارتفاع على حساب بقية بنود الموازنة. ويبلغ عدد سكان اسرائيل 93،5 مليون نسمة، 20 في المئة منهم من السكان العرب الفلسطينيين مقابل مليون مهاجر من يهود الاتحاد السوفياتي السابق. وتعاني اسرائيل من عجز في الميزان التجاري يبلغ أربعة إلى خمسة بلايين دولار. أما حجم ديونها الخارجية فيبلغ 38 بليون دولار. وشهدت صادراتها خلال النصف الثاني من السنة الماضية هبوطاً تجاوز 38 في المئة، في حين تأثرت بقية قطاعات الخدمات في شكل كبير. وأسفرت الأوضاع الأمنية المتوترة عن هبوط متواصل لقيمة الشاقل الاسرائيلي الذي انخفض إلى 8،4 شاقل مقابل الدولار في مداولات أمس. أما البورصة التي لا تتجاوز مداولاتها اليومية 55 مليون دولار، وهو مبلغ متهاود، فشهدت منذ اندلاع الانتفاضة سحب المستثمرين الأجانب بليون دولار من استثماراتهم في الأسهم الاسرائيلية.