مازالت الهجمة الإسرائيلية الشرسة ضد الشعب الفلسطيني التي بدأت مطلع شهر نيسان أبريل الجاري مستمرة، من احتلال للمدن وقصف مخيمات اللاجئين وتدمير المنازل والمباني والمؤسسات والمراكز الصحية ومرافق الماء والكهرباء واعتقال وقتل المئات من الشباب. إن الهدف السياسي العريض وراء هذا التصعيد العسكري أصبح واضحاً الآن وهو التخلص من اتفاقات أوسلو وتدمير السلطة الفلسطينية تدميراً كلياً، وتقويض سلطة الرئيس عرفات وإذلاله واستبداله بقيادة أخرى أكثر تقبلاً للاملاءات والشروط التي تمليها إسرائيل. وسينتج عن تدمير السلطة الفلسطينية ومؤسساتها فراغ سياسي وإداري في الضفة الغربية في مجال الأمن والنظام وتوفير الخدمات الحكومية والأشغال العامة وغيرها وستخلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار مما يمكن اسرائيل من استعادة سيطرتها على الحياة اليومية في الضفة الغربية، على أن ُتترك إدارة قطاع غزة الذي يسهل محاصرته وعزله عن إسرائيل لسلطة فلسطينية ضعيفة، وهذا النهج سيمكن شارون من الاستمرار في عملية الضم لأراضي الضفة عن طريق بناء المزيد من المستوطنات. كانت السلطة الفلسطينية خلال السنوات العشر الماضية حكومة في طور البناء والتكوين تعمل بموازنة سنوية قدرها بليون دولار، وهي تقوم بتوفير الخدمات الأساسية لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة كافة والذين يبلغ عددهم 3.3 مليون نسمة، وتوظف السلطة حوالي 150 ألف ما بين كوادر حكومية ومدرسين وأطباء وعمال مستشفيات وصحة عامة وقضاة وشرطة ورجال أمن. لقد قدمت الدول المانحة والمؤسسات متعددة الجنسيات ما مجموعه 4.5 بليون دولار كمساعدات للمناطق الفلسطينية في الفترة من 1993 إلى 2001، وقد وجه هذا العون في معظمه إلى بناء مؤسسات حيوية وبنى تحتية أساسية للدولة الناشئة، والتي تم تدميرها نتيجة للهجمة الإسرائيلية الأخيرة على الضفة الغربية. وإذا ما انهارت السلطة الفلسطينية واختفى جهازها المدني ولم تعد له صفة قانونية، فإن الجهات المانحة ستفقد القنوات التي تمكنها من تقديم المساعدة للشعب الفلسطيني والتي تقدر ب1.5 بليون دولار هذه السنة، وسيصعب إعادة بناء وتأهيل هذه القنوات بالسرعة المطلوبة. لقد أعربت الأممالمتحدة والبنك الدولي عن القلق العميق إزاء التدهور الحاد في الاقتصاد الفلسطيني الذي نتج عن سياسة الإغلاق وتضييق الخناق على المناطق الفلسطينية. ولقد ابتدأت إسرائيل بتطبيق هذه السياسة عقب الانتفاضة الأخيرة التي بدأت منذ 17 شهراً. وأقيمت المئات من نقاط التفتيش في مختلف المناطق، ما قلص من حرية تنقل الناس والبضائع. وتدّعي إسرائيل أن هذه التقييدات تهدف إلى منع الفلسطينيين من القيام بهجمات انتحارية ضد المواطنين، ولكن الفلسطينيين ينظرون إلى الحصار والاغلاقات كمحاولة لتجويعهم وإذلالهم. على أن التدمير والتهجير والقتل والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني خلال الأسابيع الماضية ستؤدي إلى المزيد من الغضب والمزيد من العمليات الاستشهادية في إسرائيل. تحمل الاقتصاد الفلسطيني خسائر فادحة في عام 2001 فانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35 في المئة، إضافة إلى تراجع بلغ 15.3 في المئة عام 2000، وذلك مقارنة بالنمو القوي الذي بلغ 7.8 في المئة عام 1999. وبالإضافة إلى الخسائر البشرية التي تكبدها الفلسطينيون والتدمير الذي لحق ببنيتهم التحتية، فقد قاسى من انخفاض شديد في الإنتاج وفي التجارة والسياحة والاستثمارات الأجنبية. وجاءت أكبر الخسائر في القطاعات المنتجة وذلك بسبب الاغلاقات والتقييدات المفروضة على حركة الناس والبضائع. وأصبح أكثر من نصف الفلسطينيين يعيش اليوم تحت خط الفقر دولاران للشخص يومياً، كما انخفض الدخل الحقيقي إلى ما دون مستواه في أوائل الثمانينات. وقد لعبت البطالة في القطاع الخاص الفلسطيني دوراً رئيسياً في التدهور الاقتصادي، اذ خسر حوالى 80 ألف فلسطيني أعمالهم في إسرائيل منذ أيلول سبتمبر عام 2000، بينما خسر 60 ألفاً آخرون أعمالهم داخل المناطق الفلسطينية بسبب انهيار الطلب واضطرار المؤسسات لصرف عامليها. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن أكثر من 100 ألف فلسطيني بلغوا سن العمل خلال الانتفاضة فإن نسبة البطالة تكون قد قفزت من 10 في المئة في أيلول عام 2000 إلى حوالى 60 في المئة في الوقت الحاضر. قُدر التدمير الذي لحق بالأملاك الخاصة والمرافق العامة وبالبنية التحتية والخسارة في الإنتاج بمبلغ أربعة بلايين دولار أو ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي للمناطق الفلسطينية عام 2000، وفي كثير من الحالات استنفدت الأسر الفلسطينية جميع مدخراتها وقدرتها على الاقتراض، وحتى قبل الهجمة الإسرائيلية الأخيرة، كانت السلطة الفلسطينية على حافة الإفلاس بعد أن انخفضت الضرائب المحصلة إلى 20 مليون دولار شهرياً أو خمس مستواها السابق، وقد زاد الأمر سوءاً عدم إفراج إسرائيل عن الضرائب المستحقة للسلطة الفلسطينية المحجوزة من قبل الإدارة الإسرائيلية والتي بلغ مقدارها 500 مليون دولار بنهاية عام 2001، إضافة إلى الارتفاع الحاد المسجل في نفقات الطوارئ التي تكبدتها السلطة خصوصاً في مجال الصحة. في بداية عام 2000 أُعطي العديد من موظفي القطاع الخاص إجازات طويلة من دون أجر، ولو استمر الوضع الراهن ولم تعد السلطة الفلسطينية قادرة على دفع رواتب الموظفين الذين يعملون في مؤسساتها، فان الهبوط في دخل الأسر الفلسطينية سيستمر، وسيكون لهذا تأثير مضاعف في الاقتصاد. فالانخفاض في الاستهلاك على البضائع والخدمات سيؤدي إلى مزيد من البطالة وتدنٍ في الدخل وتصبح المشكلة اكثر تعقيداً بسبب التخريب الذي لحق ببرامج التنمية وتوقف مشاريع البنية التحتية التي يمول الكثير منها من مساعدات خارجية. سجل قطاع الزراعة الذي كان يساهم بنحو 10 في المئة من اجمالي الناتج المحلي عام 1999، تراجعاً خطيراً خلال الأشهر السبعة عشر الماضية فانخفضت صادرات المنتجات الزراعية إلى إسرائيل ومصر والأردن بشكل كبير. وتأثر أيضاً قطاع الإنشاءات الذي كان يساهم بنحو سبعة في المئة من اجمالي الناتج المحلي عام 1999 بسبب توقف العمل في مشاريع البنية التحتية بما في ذلك الطرق ومحطات توليد الكهرباء وغيرها من النشاطات الإنشائية في الضفة الغربية. وانخفضت المبالغ المخصصة لهذه المشاريع من 400 مليون دولار عام 1999 إلى 175 مليون دولار عام 2001، وطبعاً انعكس هذا سلباً على الصناعات المرتبطة بهذا القطاع مثل الإسمنت والبلاط والزجاج والأبواب والالومنيوم وغيرها. أسهم قطاع الصناعة بنسبة 11 في المئة من الناتج المحلي لمناطق السلطة الفلسطينية عام 1999، ويعتمد هذا القطاع على المواد الخام المستوردة من إسرائيل، ما يعني أنه قد حصلت هناك خسائر هائلة في هذا القطاع بسبب سياسة الحصار والإغلاق الإسرائيلي ومنع تدفق البضائع من وإلى المناطق الفلسطينية بشكل شبه تام. كذلك دمرت العديد من المرافق العامة والفنادق والمطاعم والمحلات التجارية ووكالات السفر وشركات النقل بعد أن قصفت بالصواريخ، كذلك أغلقت مشاغل متعددة للصناعات اليدوية. ولقد كانت البنوك في المناطق الفلسطينية تقوم بعمل نشط حتى عام 2000، ولكنها بدأت تعاني منذ ذلك الوقت، ولقد أدى تدمير الثروات والمصالح الخاصة والخراب الذي لحق بقطاع الإنشاءات وبالنشاط التجاري إلى تقلص الطلب على الائتمان كما ارتفع حجم الديون المعدومة وتوقفت البنوك عن منح التسهيلات ولم يعد باستطاعتها توفير الخدمات المصرفية المعتادة بعد الهجمة الأخيرة. إن انتفاضة الأقصى التي أشعل نارها شارون بزيارته الاستفزازية إلى الحرم الشريف في 28 أيلول سبتمبر عام 2000 أدت إلى استشهاد العديد، وقد تسبب هذا الرجل النازي بأسوأ أشكال المعاناة للشعب الفلسطيني بالإضافة إلى انهيار كامل للاقتصاد الفلسطيني. على أن البلد الذي سيكون الخاسر الأكبر في النهاية هو إسرائيل، فقد ارتفعت فيها نسبة البطالة والعجز في الموازنة وسجل نمواً سالباً في الناتج المحلي قدره - 0.6 عام 2001 وهذا أسوأ أداء منذ عام 1953. ويتوقع أن يشهد هذا الاقتصاد نمواً سالباً هذه السنة أيضاً. ولقد هددت المجموعة الأوروبية بقطع علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل وقريباً ستجد الدولة العبرية نفسها في عزلة عن العالم بأجمعه، ما سينعكس سلباً على الاقتصاد الإسرائيلي. وأما الفلسطينيون فلن تسوء حالتهم أكثر إذ أنهم فقدوا كل شيء ما عدا تصميمهم على البقاء وعلى تحقيق دولتهم المستقلة على التراب الفلسطيني. لم يحصل في الماضي إجماع عربي شعبي لنصرة القضية الفلسطينية كما هو عليه الحال الآن. فالشعور الوطني والقومي ضد إسرائيل واضح في كل عائلة وكل بيت، والمجازر التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني ببشاعتها أدت إلى استيقاظ الشعوب العربية بعد فترة ركود وعدم اهتمام طويلة، ووحدتها كما لم يحدث في السابق، ودفعتها للنزول إلى الشارع للتعبير عن رأيها وتقديم الدعم المادي والمعنوي لصمود الشعب والقيادة الفلسطينية. وإذا رفضت إسرائيل القبول بمبدأ الأرض والسيادة الفلسطينية مقابل السلام، فما على الدول العربية إلاّ أن تحضر نفسها لمعركة سياسية واقتصادية وشعبية طويلة من أجل البقاء والدفاع عن الكرامة والحق العربي. * الرئيس التنفيذي جوردانفست