نحن أمة تستسيغ الترويح على النفس وتحفل ثقافتها العصرية بما ينافس غيرها فيه، ولعل أمة اخرى لم تلق بأعباء كل أمانيها على الله مثلما نفعل، فمن يحصي ما نريده ان يحدث لنا سيجد اننا لا نتوكل، فنفعل الا في ما لا يزيد على واحد في المئة، أما ما تبقى فنترك أمر انجازه إلى الله مقابل القدر الذي يتيسر لنا من الدعاء. إننا أو لنقل أغلبنا قوم يستريحون بعد ان جاهدوا لأن لا يفعلوا أي شيء، ولعل في هذا ما يفسر توالي الأزمات علينا، واذا كان من شأن الأزمات ان تشد من عزيمة الأمم، وتكون سبباً لتحفيزها الى مواجهة نفسها ومن ثم دفعها الى القيام بما يجب عليها القيام به فإن تاريخنا الحديث زاخر بالشواهد على فشل الأزمات في ان تفعل فينا ما تفعله عادة في الآخرين. ان أية أزمة لا تقضي عليك لا بد لها من ان تكسبك تجربة تقوي من عزيمتك وتدفع بك الى العمل من أجل ان تتمكن من الوقوف، فلماذا تتوالى الأزمات على العربي وهو يواصل الاسترخاء لدرجة يبدو معها وكأنه يستمتع بما يصيبه من ويلات؟! ان الإجابة على سؤال كهذا كامنة في ما نفعل من تهوين لكل ما حل ويحل بنا في هذا العصر، وظاهرة في تغذيتنا للشعور بأن شيئاً لم يحدث وان أية أمور تسير بنا الى الخلف ليست سائرة في عيوننا الا الى أمام، وما الكوارث التي تنهال علينا سوى مصائب تحل بمن وضعناهم على قائمة الخصوم. أنا لا أظن أن أحداً سوانا يقدر على اصطناع الشعور بالسعادة في أحلك الأزمات، وها هي حالنا مع أحداث غزو اسرائيل لمناطق السلطة الفلسطينية واعمالها القتل والتدمير، فنحن بالإضافة الى أننا لم نشرح لأنفسنا الأسباب التي دفعت اليهود الى غزونا من جديد حتى نكون قادرين على اتخاذ المواقف المفيدة، بالإضافة الى ذلك دأبت الغالبية من مفكرينا كما الصحافيون والمذيعون عندنا على تهوين ما حدث على مشاعرنا وواصلت اقناعنا بأن في الأمر نصراً مؤزراً ليس له من شبيه. ان من يقرأ صحفنا أو مجلاتنا أو من يستمع الى اذاعاتنا أو يتابع مشاهدة محطاتنا التلفزيونية سوف لن يعاني أي شعور بالأزمة، بل ستساوره مشاعر الانتصار وأحاسيس العظمة والسمو. نعم، سنشهد طويلاً كما شهدنا أخيراً عربياً يتفجر هتافاً بسقوط الأعداء، واعلان النصر من دون ان يولد في داخله القدر المطلوب من الاحساس بالمسؤولية ومن دون ان تصحو فيه ارادة الفعل من أجل ان يكون مؤهلاً لمواجهة من قرر أنهم له من الاعداء. وما ذلك الا حصيلة ما يزرعه الفكر والاعلام من إلغاء للازمة تماماً كما جرت عليه العادة من إلغاء للازمات. لقد ازدهر بيتنا منذ زمن غير قصير نشاط من الفكر والاعلام يعمل على انهاء أية ازمة نتعرض لها وما اكثر ما تعرضنا ونتعرض له من أزمات. وسواء كان دافع ذلك النشاط هو تهدئة الأمور لاستمرار الاستقرار أو تعزيتنا والترويح على مشاعرنا، فإن المحصلة هي حرماننا من ان نتأزم فنضيق بالعجز فنتوجه الى تفحص أسبابه ومن بعدها الى التوقف عن الهتاف والانصراف بجدية الى اكتساب مؤهلات الدخول في الصراع. انظروا كيف ان المتطوعين منا للتهوين من الأزمات علينا وحرماننا من التأزم قد نشطوا منذ عصر الاستقلالات وولادة الدولة العربية. فمع اننا كنا في أزمة تخلف تحتاج من أولئك المتطوعين الى التأكيد عليها قد وجدنا من يوهمنا بأننا وقد كنا سادة الزمن السحيق لا نزال سادة اليوم والحق ان ذلك النشاط لم يتوقف على رغم تأزمنا الحضاري، بل تواصل بهمة ومثابرة لاصطناع الأدلة على اننا نحن المتقدمون وأصحاب أفضل الاخلاق وأسمى مشاعر الانسان ولم يدخر أحد جهداً لتطويع التاريخ وتفسير الدين وتلوين التراث حتى يعُمر الاحساس فينا بالتأزم الحضاري في بحر من السعادة المصنوعة، ولعل في هذا ما يفسر لنا استمرار الإصرار على اننا نحن المعلمون لهذا العصر وأننا غير مطالبين باعتبارنا سادة حضارة أفلت، ان نشعر بأية أزمة فتصرفنا وما زلنا نتصرف مثل صاحب بطاقة عضوية منتهية الصلاحية في أحد النوادي ويصر على استخدامها للدخول رافضاً دفع رسوم تجديد الاشتراك مع ان الأولى به ان يتحمل المسؤولية عن اهماله بدلاً من ان يتشاجر مع حراس النادي أو مع مؤسسيه. حقاً انهم قلة منا أولئك الذين صارحونا بأزمة الحضارة عندنا، أما الغالبية فقد انصرفت الى الترويح عنا وشحننا بالفراغ حتى طغى الاحساس بالزهو المصنوع على ما يجب ان يولد من مشاعر الضيق بالتخلف والتي وحدها هي المشاعر التي يمكن ان تقنع المتخلف بالجلوس على مقاعد التلاميذ. اننا وبعد ان داومنا على حرمان انفسنا من أزمتنا الحضارية، تواصل حرماننا من كل الأزمات، فالهزائم التي حلت بنا في مواجهة اسرائيل في شأن قضية فلسطين وبغض النظر عن المسؤول عنها قد جرى تحويلها شفوياً الى انتصارات، نعم، كان الغضب يتفجر منا في كل مرة هزمنا فيها، ولكنه كان مجرد غضب سرعان ما يلفه الهدوء، أما الإحساس بأن الهزيمة هي تعبير عن أزمة فلم نظفر به، وبذلك لم نتعرف على أنفسنا وعلى ما فيها من عوامل العجز، وعليه لم تستيقظ فينا إرادة الفعل الحقيقي والجدي لاكتساب مؤهلات المشاركة في الصراع. إن أحداً لم يترك نيران الفشل تشتعل بين جوانحنا، فقد كانت الخطب والاعلام والفكر تسارع الى اطفائها وصب أوهام القوة والانتصار عليها، هكذا ظل الغضب عند الفشل مجرد اندفاعة عابرة سرعان ما يقوم المتطوعون بتهوينها علينا واقتناعنا بأننا في الواقع من الناجحين. تذكروا ما فعلناه عقب كل حرب خسرناها مع اسرائيل وخصوصاً عقب حرب 1967 فستجدوا اننا وربما حتى اليوم واظبنا على التصرف كمنتصرين فلم نعش الأزمات التي تولد مكابدتها إرادة التصرف بجدية من أجل كسب المؤهلات، ألم يكن أولى بنا ان نعترف لأنفسنا بالعجز والتخلف وسوء السياسات بدلاً من حرق اعلام الخصوم في التظاهرات؟ ايضاً في الحالة أو في أزمة العراقوالكويت، انظروا كيف نجاهد لإلغائها لدرجة اننا اخترعنا لها اسماً غير الاسم الذي تستحق، لقد جاهد الاعلام والفكر لحرمان الأمة بل وحرمان العراق نفسه من الاحساس بأن في الأمر أزمة، وذلك بالتهوين منها والدعوة الى أنها مجرد عتاب خشن بين أشقاء يجب نسيانه، بل وشطبه من أي سجل للتاريخ مع انه من المفيد لنا ان نعيش الأزمة بعمق حتى نستوعب الأمور الكامنة خلف مشاعر العروبة. وحتى نكتشف العيوب التي فينا والخلل الذي يسكن علاقاتنا لعلنا نوفق الى تقويم ما فينا من اعوجاجات. حقاً لقد كانت الحالة أزمة، وكان يمكن لنا ان نستفيد منها، لكن نشاط المتطوعين للتهوين علينا ونصب الاحتفالات من حين الى آخر لإعلان زوالها حرمنا من ان نعيش الأزمة وان تعتصرنا آلامها فنتوجه بجدية الى إزالة أسبابها والحيلولة دون حدوث مثلها وذلك من أجلنا جميعاً كما من أجل الكويتوالعراق بل وحتى من أجل حكومة العراق. وأخيراً انظروا كيف نتعامل مع غزو اسرائيل لأراضي السلطة الفلسطينية ومحاصرة الرئيس عرفات. اقرأوا واستمعوا وشاهدوا ما تفرغه من نشاط الفكر والاعلام والتظاهرات فتجدوا ان الشعور بالأزمة مغيب وغائب عنا، فيما تنهمر علينا وبغزارة قناعات النصر لنا والهزيمة لاسرائيل. اننا واجدون في كل ما نسمع أو نقرأ أو نشاهد ان شارون هو المحاصر وليس عرفات وان ما قامت به اسرائيل من غزو أثبت للأجيال هزيمة الكيان الصهيوني واننا نحن الذين حققنا الانتصار مع انه من الأجدى لنا ان نشعر بالأزمة البادية في عجزنا عن الفعل الصواب، ذلك العجز الذي هو حصيلة لغيبة أمور كثيرة اصغرها القدرة على الاستعداد للدخول في صراع، وهو عجز يحتاج علاجه الى تجديد كل شيء فينا من أخمص القدم الى اسلوب الابتسام، هكذا نحرم مرة اخرى من عيش أزمة من الأزمات فما زلنا نمارس التهوين وتعزية النفس وتحويل الهزيمة شفوياً الى انتصار وعليه سنظل محرومين مما تولده الأزمات في الناس من احساس بالعجز والتخلف ومما تدفعهم اليه من مسعى لاكتساب مؤهلات الصراع ومن ثم سنظل سادرين في استرخاء بعد كل أزمة طاحنة تمر بنا وكأنها تمر بآخرين، وغداً تجف دماء الشهداء ويخرج علينا الرئيس عرفات لنقيم احتفالات الانتصار على عدو لم ننتصر عليه. ولعل ما سنسعد به من احساس الانتصار هو السلوك الأكثر اثارة عندي لمشاعر الإشفاق. * كاتب، رئيس وزراء ليبيا سابقاً.