ترى هل يتفاقم إحساسنا بالخوف من الفراغ الذي يواجهنا إذا ما آلت قضية فلسطين الى سلام وتم وضع بقيمة التوقيعات العربية الرسمية على وثائق المسالمة؟ إن الأمر يبدو كأنه كذلك فقد شرعت احاسيس القلق التي تنتابنا وخصوصاً الرسمي منها في الظهور برغم محاولات كبتها او إضفاء ألوان الارتياح المصطنع عليها. نحن أدمنّا قضية فلسطين وخصومة اسرائيل ولا أقول عداوتها، فباستثناء فلسطينيين ضحوا بأرواحهم من أجل ما آمنوا أنه حق لهم لم تتصرف بقيتنا إزاء الأمر على اساس من عداوة لإسرائيل ولا حتى لما نسميه بالصهيونية العنصرية، نعم كنا نتنافس جميعاً، حكاما ومحكومين، على اعلان الكره والشجب وحتى إلقاء الخطب وعقد المؤتمرات واطلاق الاناشيد معبرين دائماً عن رؤيتنا لدولة اسرائيل على انها عصابة من شذاذ الآفاق احتلت ارضا عربية وشردت شعباً من العرب لكن احداً منا لم يملك الجدية اللازمة لإتخاذ موقف صحيح. ولذلك تواصل استمتاعنا بالإدعاء بأننا نستعد للحرب من دون أن تخطر الحرب حقاً على بالنا. ومع أننا توقفنا في مرحلة ما عن تسمية اسرائيل بالمزعومة، إلا أننا لم نغير من نظرتنا اليها كمجتمع مفكك فاسد وسائر نحو الانهيار، ولم نتعامل معها على أنها واقع قائم لم يجوز التقليل من شأنه او تجاهل مؤهلاته. هكذا بدونا ومنذ أن أعلنت الدولة اليهودية العام 1948، وكأن فرحة غامرة حلت بأمزجتنا، وتساوى في ذلك الحكام والمحكومون، فقد فجر قيام اسرائيل قرائحنا بالشعر والاغاني، وانجزت لدينا اكثر خطب الزعماء حرارة، برغم تدني مستواها اللغوي، لقد استيقظت حماستنا الكامنة على تلك الهزة لكن شيئاً آخر فينا لم يستيقظ معها، وعليه لن يجد من يراجع سجل تعاملنا مع قضية فلسطين اية مواقف جدية للحرب أو السلام، وسيعثر على سلسلة من المواقف الحماسية المصطنعة والتي جرنا بعض منها إلى هزائم عسكرية في حروب لم نكن نقصد أبداً خوضها. إننا سنجد عندما نتجرأ على مواجهة انفسنا ان غالبيتنا من اصحاب السلطة، كما الجماعات والافراد، وجد له ضالة في قضية فلسطين، وهو لن يكون سعيداً باختفائها. لقد وجد الشعراء فيها موضوعاً لتقديم القصائد كما وجد كتاب القصص والمقالات ومؤلفو الكتب في احداثها معينا غير قابل للنضوب. أما الزعماء، وخصوصاً الجنرالات منهم، فقد عثروا فيها على كل منابع الإلهام. وفيما كان الزمن لا يتوقف، وفيما كانت خسارات الفلسطينيين تتابع، ظلت بقيتنا شديدة الحرص على ان لا تنتهي القضية. ولذلك كنا نغضب ممن يدعونا الى الجلوس والتفكير، بل قتلنا وشردنا اعدداً من مواطنينا لانهم تجرؤوا على التساؤل عن مدى سلامة مواقفنا. وفي حين كنا حملة طبول حرب لم نكن جادين في الاستعداد لها، وكان الإتهام بالخيانة نصيب كل من يشكك في جدية نياتنا لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. لم نكن من الرشاد بحيث نحاول خوض حرب جدية او نتعامل مع القضية بالديبلوماسية، ولم تفلح الهزائم التي وقعنا فيها ولا الخسارات الفادحة التي تكبدناها في الارض والارواح والحريات في ان تبلغ بنا سن المسؤولية فنتوجه الى ما يمكن الحصول عليه من سلام عبر جهود سياسية او نقعد حيث نحن بانتظار أن نصبح قادرين على أن "نسترد بالقوة ما اضاعته القوة". حقاً، لا يشهد المرء لدى امة اخرى هذا القدر من الاضطراب في المواقف وفي خلط الاوراق وتزييف الاحداث واصطناع الواقعات مثل ما يشهد عندنا في شأن تعاملنا مع قضية فلسطين منذ ظهورها وحتى اليوم. لقد شرعنا في معالجة المسألة معتبرين اسرائيل دولة مزعومة وعصابة صهيونية غير قابلة للبقاء ومع أن بعض زعمائنا حاربوها من ضعف وحققوا الاستيلاء على غزة والضفة الغربية ونصف القدس، الا اننا سرعان ما ضقنا ذرعاً بما فعلوه فانقلبنا عليهم وخونّاهم ولازلنا ننعتهم حتى وهم في قبورهم بأبشع النعوت. ان هلعنا اصاب غالبية الجماهير العربية، من يفكر منها ومن لا يفعل، عندما تصورت احتمال انتهاء قضية فلسطين بحصول العرب على اقصى ما يستطيعون الحصول عليه وفقاً لمعطيات الظروف المحلية والدولية في وقت اعلان اول هدنة مع اسرائيل، وكان لذلك الهلع فضل تمهيد الطريق امام الانقلابات العسكرية. لقد مهدت مشاعر الهلع من طيّ صفحة مسألة فلسطين الى ظهور من تأكد من إنه سيكون بطلا في عين الجماهير اذا ما اطاح بملك او امير واعلن انه يفعل ذلك من اجل تحرير فلسطين. كان ولع الناس، مثقفين ودون ذلك، شديداً وظاهراً باستمرار القضية، وربما لم يكن يسعدهم حتى القضاء على اسرائيل، ففي ذلك حرمان للجميع من مبرر رائع لارتكاب اي شيء من الاشياء. هكذا اصبح كل ملازم يحلم بالاستيلاء على السلطة في بلاده وفي عمله مسبقاً انه موضع تأييد وترحيب من الشعب إذا ما قال لهم، بأنه ما انقلب الا لتحرير فلسطين، أي لادامة حياة القضية التي لا يسعدنا الإنتهاء منها لا بالهزيمة ولا بالانتصار. وما أن وقع أول انقلاب عربي حتى سال لعاب كل طامح الى السلطة من عسكر واحزاب وحركات للتحرير، ما جعل من انقلاب عسكر على عسكر واحزاب على احزاب امرا متواتراً لم يفتقر فيه أحد الى المبررات .. فقضية فلسطين قائمة على قدم وساق. ومع استمرار التهاب القضية وتواصل الصراعات في داخل الدولة وبين الدول العربية، وصعود زعامات وهبوط اخرى لا نجد خلال سنوات طوال من المواقف العربية، ما يمكن وصفه بالجدية ازاء الحرب او ازاء السلام. نحن لم نحقق نصراً ولم نعترف بهزيمة فصرنا لا نعرف المدى الذي وصلنا اليه في معالجة الموضوع ولم نفعل سوى تبادل التهم والتصايح في ما بيننا وزرع مشاعر البغضاء والمؤامرات، فبدونا وكأننا سعداء بما يحدث لنا، إذ المهم عندنا هو بقاء قضية فلسطين في حال اشتعال وفي جو من الضوضاء الصاخبة بحيث لا نفقدها ونستطيع في الوقت نفسه فرض ما ندعيه لاخفاقاتنا من مبررات. ظل هذا حالنا مع قضيتنا الخالدة حتى تجرأ المرحوم السادات على ما ادمناه من مسلمات وشرع في التعامل مع الأمر بواقعية، واقعية لا تعني أنها الحق ولكنها هي الصواب. إذ أن على صاحب المطلب الحصيف ان يحقق مطلبه أو أن يصمت حتى يصير قادراً على ذلك أما استمراره في الصياح دون فعل لكسب القدرة فليس إلاّ انتفاعا بالمأساة وتضليلا للضحايا. لقد اشعر السادات بعضاً من حكامنا أنهم على وشك أن يفقدوا مبرر وصولهم الى السلطة بل وبمرر استمرارهم فيها فهم لم يفعلوا شيئا ولا يريدون ولا يقدرون على فعل شيء مما وعدوا وواصلوا الوعد به من تحرير فلسطين وانهاء دولة اليهود دفعة واحدة أو بالاستنزاف على دفعات. وشعر كتاب واحزاب بالوقوع من دون القضية في هوة من الفراغ، فلم يكون لهم عند انتهائها من فرصة لكسب أو لظهور فهم تخصصوا فيها وادمّنوها وسيصعب عليهم اعادة تأهيل أنفسهم للانشغال بأمر جديد. لقد كانت قضية فلسطين مرتعاً خصباً للكتابة والتأليف وقول الاشعار، فهي فضلا عن أنها سهلة التناول فانها في الوقت نفسه الموضوع الوحيد المسموح سياسيا بالخوض فيه بقدر ما تسمح عواهن الكلام. ولم تقتصر الاصابة بالهلع من انتهاء القضية على حكام التحرير او كتائب من يكتبون، بل انها شملت المواطنين العاديين الذين جرت تهيآتهم بأوهام الكفاح والإنتصار. حقاً لدى شعوبنا استعداد فطري لتصديق أوهام المجد وهي أميل الى السير خلف وعود براقة منها الى اتباع من يحملّها مسؤولية الفعل ويضع أمامها احتمالات الفشل والنجاح، لقد أدى ما قام به زعماؤنا الانقلابييون من ترويض للجماهير وشحن لها بأوهام النصر الميسر المحترم وما انجزوه من إدامة توترها بصخب الخطب وضجيج التظاهرات والمسيرات والمؤتمرات، أدى بها الى حالة من ادمان قضية لا تفهم خباياها ولا تدرك تفاصيلها، لكنها تعودت على التعايش معها صباح مساء لدرجة اصبحت معها لا تستسيغ الحياة من دونها، ولذلك اصيبت الشعوب ايضا بالهلع نفسه الذي أثاره مسلك المرحوم انور السادات بخطوته الواقعية الجريئة. واخيراً وقد ظهر وكأن بقية العرب سائرون في طريق سار فيها السادات يتساءل المرء عما سيفعلونه بعد الانتهاء من السلام. اننا لا نتحدث هنا عن السلام في حد ذاته، فكل سلام قد يكون ناقصاً او غير عادل، لكننا نتحدث عن الحالة التي تعقب السلام، وهي الفراغ الهائل الذي سنجد فيه انفسنا بلا قضية عشنا عليها جميعاً خمسة عقود أو يزيد. ترى ما الذي ستحويه خطب بعض الزعماء بعد انتهاء القضية، وكيف سيعثرون على ملح الحماسة في غير موضوع يتعلق بفلسطين، وهل ستصفق شعوب لخطب لا تحتوي على شيء من كفاحنا من أجل تحرير فلسطين، وهل ستلقى اناشيد واغاني شعبية اي قدر من الزيوع بيننا إذا لم تتعلق بالقضاء على اسرائيل، وماذا سيفعل الشعراء والكتاب والمؤلفون من دون وحي من فلسطين. حقا سيبدو كل شيء باهتاً ولا طعم له إذا ما انتهت القضية وسنلاحظ وكأن عرساً صاخباً قد حط عليه الصمت فجأة أو أن الشمس انطفأت بلا مقدمات، ولعل هذا التوقع هو الذي يدفع البعض منا حكاما ومحكومين الى التقاط جمرات باقية في رماد المسألة، فنحن نلاحظ زعماء يتحدثون عن أن المعركة الحقيقية مع الصهيونية قادمة، وهي معركة الصراع السياسي والاقتصادي، ونلاحظ اصحاب فكر وعامة من الناس يعلنون ان المعركة مع اليهود لم تكن ابداً معركة عسكرية، بل هي صراع حضاري ممتد الى الابد، وفيما يستعد المفكر والعامي للشروع في المصارعة الحضارية من دون أن يفكر في اكتساب المؤهلات، نخشى أن يواصل بعض الساسة خوض الصراع السياسي الاقتصادي بالادوات نفسها التي خضنا بها صراع الحروب من طوارئ وخطب واناشيد واغنيات. * كاتب رئيس وزراء ليبي سابق.