هل ثمة اسفنجة امتصت غضب جورج بوش؟ كيف تلاشى الرعد الذي سُمع في صوت الرئيس الأميركي وهو يطالب بانسحاب اسرائيلي فوري من المدن الفلسطينية ويشدد على أنه "يعني ما يقول"؟ هناك من يتحدث عن مزاج "تكساسي" متقلب يمكن أن يؤدي بصاحبه الى أن يحتد وحتى يغلي لكنه لا يلبث أن يبرد ويخمد. إلا أن الولاياتالمتحدة تزعم انها دولة مؤسسات ولا يمكن أن يصنع القرار فيها بمزاج فردي أو يولد عبر مخاض انفعالي. إذن، هذا الانقلاب السريع له مسببات موضوعية بينها ان "سورة" بوش كانت زوبعة محسوبة بعناية لكي تبقى ضمن فنجان الود الأميركي - الاسرائيلي. ولتفادي أي "اعوجاج" محتمل شنت اسرائيل هجوماً مضاداً سريعاً، سياسياً وإعلامياً، أوكلت إدارته الى بنيامين نتانياهو. ولم يكن هذا الاختيار اعتباطياً إذ أريد من خلاله الايحاء بوجود "اجماع" يجسده التقارب بين الخصمين اللدودين داخل "ليكود"، "بيبي" وارييل شارون، والتأكيد على وحدة مواقفهما التي تطالب واشنطن بإبقاء الضوء الأخضر مضاء أمام أرتال الدبابات التي تهدم البيوت وتقوض اتفاقات أوسلو وتقضي على أمل بقيام دولة فلسطينية. والى ذلك فإن رئيس الوزراء السابق هو من أكثر الزعماء الاسرائيليين معرفة بمفاتيح السياسة الأميركية ودراية بأساليب الاقناع والضغط وحتى الاكراه، الواجب اعتمادها لتعزيز الانحياز الاسرائيلي واحتواء أي محاولات قد يقوم بها "الحمائم" لايجاد نوع من التوازن، ولو اللفظي، في الموقف الأميركي. ولم يحتج "بيبي" الى قرع الأبواب اذ أنها شرعت قبل وصوله وكانت القلوب والآذان مفتوحة لسماع "توضيحاته" وقبولها أو الإصغاء الى تهديداته السافرة أو المبطنة. وساعد نتانياهو في مهمته ان العرب تركوا له الساحة خالية، فعلى الصعيد السياسي لم تشعر الولاياتالمتحدة بخطر جدي يهدد مصالحها، بل انها لم تحس حتى باحتمال تضرر صداقاتها وتحالفاتها في المنطقة. وقد اعترف وزير الخارجية الروسي ايغور ايفانوف في لقاء مع السفراء العرب بعجز موسكو والعواصم الأوروبية عن حمل شارون على النزول عن بغلته المدرعة، وقدم في المقابل نصيحة مجانية دعا من خلالها الى الضغط على الولاياتالمتحدة بوصفها الطرف الوحيد القادر على التأثير في القرار الاسرائيلي. وتحقيق هذا التأثير يمكن أن يتم عبر قنوات اقتصادية ومالية وسياسية، اضافة الى عتلات معنوية - أخلاقية وإعلامية. فشارون قدم "خدمات" للعرب بإقامة أعراس الدم في جنين ونابلس ورام الله وسائر المدن الفلسطينية، فأحدث بذلك تحولاً في الرأي العام الأوروبي وحتى الأميركي. ولكن مشاعر الاستياء وحتى الاشمئزاز التي خلقتها المجازر الاسرائيلية ينبغي ان توظف سياسياً، وهذا بدوره يقتضي ما هو أكثر من النواح والشكوى في الفضائيات العربية. وان تحركاً عربياً موازياً ولا نقول مكافئاً لكي لا نطلب المحال لما يقوم به نتانياهو يقتضي قراراً سياسياً ودعماً مالياً، وقبل هذا وذاك يحتاج الى إرادة واضحة وتصميم على ابلاغ من يهمهم الأمر في واشنطن بأن السيل قد بلغ الزبى وصار يهدد باجتياح ما تبقى من سدود.