اذا شبهنا الكوميديا بالنهر، فلا بد أنه ينبع من المدينة ويصب في التمدن، أي أن جمهورها لا بد أن يكون قد حصّل درجة عليا من التحضر. ولا نقصد التعلم، فالتعليم قد يجعل بعض الناس أقل تحضراً. هي اذاً مدينية ومدنية، والقرية لا تعرف الكوميديا، هي تأتيها زائرة لتفجر الضحك في قلوب أعيانها ثم تنسحب عائدة الى محل إقامتها، المدينة. ليس معنى ذلك ان القرية لا تعرف الضحك، تعرفه بالطبع، ولكنه ضحك ذو طبيعة خاصة، ليس نابعاً من الكوميديا، بل من عبيط القرية أو بلهائها من خلال ما يراه الناس من أفعالهم، أو يروى عنهم من نوادر وحكايات، هو ضحك على أشخاص وليس من أشخاص، ضحك أساسه الاستهانة والنظرة الفوقية وليس التقدير والاحترام وهما ما تشعر به الناس عادة تجاه ممثل الكوميديا الحقيقي. والكوميديا فعل حر يتعامل مع مجتمع حر. من المستحيل أن يكتب الكوميديا كاتب ليس حراً، كما أنه من المستحيل أن يتجاوب معها جمهور أقل حرية. ومن الأقوال الشائعة أن الناس تضحك في المسرح على اخطائها وعيوبها التي تقدمها لهم الكوميديا، الواقع أنهم يضحكون عندما تكشف لهم عن قدر الباطل في ما يظنونه حقاً، ومقدار الزيف في ما يتصورونه صدقاً، وكمية الاخطاء في ما يعتقدون أنه صحيح. ليس بهدف ردعهم أو تخويفهم أو وعظهم أو تعليمهم، بل برغبة قوية عند صناع الكوميديا في جعلهم أكثر مدنية، أي أكثر حرية، وهو ما يمكن الوصول إليه بالتفريج عنهم، اي بجعلهم متفرجين محتازين. ولقد كانت اللغة العربية واعية تماماً بما تفعل عندما اطلقت اسم "المتفرجين" على مرتادي المسرح. ففي بدايات المسرح العربي كان الاسم الذي نطلقه على المتفرجين هو النظارة - المشاهدين أي هؤلاء الذين يشاهدون، لكن هاتين الكلمتين اختفتا وحلت محلهما تلك الكلمة الجميلة، متفرج. انظر لمشتقات الكلمة: افراج، أصدر القاضي حكماً بالافراج عن فلان، أي أصبح حراً طليقاً. الفرج، الفرج آت عما قريب، ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فُرجت وكنت أظنها لا تفرج. المتفرج الجالس في قاعة المسرح أتى لأن الحياة تحولت الى حلقات حديدية اطبقت على روحه وجاء ليتخلص منها. اذاً الفرجة في المسرح بشكل عام إفلات من قيود الواقع المعاش، أي ممارسة للحرية ستجد اشياء كثيرة في المسرح ما زالت محتفظة باسمائها الاجنبية، مثل، السوفيتة، الكواليس، برنشبالة، بارتكابل، البروسنيوم.. الخ، ومع ذلك ستجد أننا لا نستخدم كلمة المدير التي يعرفها الغرب، بل قلنا المخرج. لست أعرف لماذا اختارها العقل الجمعي للمسرحيين العرب. هل أنه يخرج المتفرجين من حالتهم التي جاءوا بها الى المسرح؟ أم لأن وظيفته ان يخرج اجمل - أو اسوأ - ما في النص والممثلين وبقية عناصر العرض المسرحي. اذا قلنا إن الهدف من الكوميديا هو الفرجة، أي إحداث حالة الفرج، فهل ينطبق ذلك على المتفرجين وحدهم؟ الواقع أن ذلك ينطبق ايضاً على صناع الكوميديا فوق خشبة المسرح، إن أجمل إحساس يمر بصانع الكوميديا هو عندما تنفجر الصالة ضاحكة في اللحظة نفسها التي حددها لها من قبل، وهو ما يسميه صناع الفكاهة إفيه المأخوذة من كلمة effect. انها تلك اللحظة التي يصلك فيها خبر الإفراج عنك، اطلاق سراحك، كل الحلقات التي تقبض على روحك انفكت. هذه الضحكة الجماعية هي الدليل الصادق على أنك واحد من الجالسين في قاعة المسرح، هم أهلك وأنت واحد منهم، هم بالفعل يفكرون في ما تفكر فيه، هم يرفضون ما ترفضه ويسخرون مما تسخر منه، الأمر الذي يضغط على أعصابك هو نفسه ما يضغط على أعصابهم، أما الممثل الكوميديان فلا توجد لذة على الأرض تعادل لحظة سماعه الجمهور ينفجر ضاحكاً. صناع الكوميديا، اذاً، مكتئبون كرماء، وليسوا كما يظنهم الناس ظرفاء يفجرون الضحك حولهم في الجلسات الخاصة، القادر على ذلك هو عبيط القرية فقط. هم بشر يعانون من حالة اكتئاب علاجها الوحيد هو في إزالة الاكتئاب عن الآخرين. والويل كل الويل لمن يعاشر واحداً من صناع الكوميديا بعيداً عن خشبة المسرح. وكل تغير بالسالب في قيم المدينة الشجاعة، الرقة، التهذيب، الاتقان، روح المغامرة، رفض القيم المحافظة يترتب عليه تغيير في طبيعة الكوميديا التي تقدم على مسارحها. عندما تسود كوميديا البلاهة، فلا بد أن المدينة حدثت لها عملية ترييف فتحولت في علاقتها وقيمها الى قرية يبحث أهلها عن عبيط يضحكون عليه وليس عن كوميديا يضحكون مما تقدمه لهم. ليسوا متفرجين، لن يحدث لهم الفرج والإفراج، سيدخلون المسرح بقيودهم ويخرجون منه وهم أشد قيوداً. لست أعقد مقارنة بين المدينة والقرية من تلك المناظرات التي درسوها لنا في المرحلة الابتدائية اكتب مناظرة بين قرية و مدينة، أو بين ترام وباص، او بين قطار وحمار... إلخ انا أتكلم فقط عن طبيعة الضحك في كل منها، ولأن الكوميديا تتناول بالكشف والتشريح قيم المدينة السائدة بهدف تخليصها من الشوائب التي تعوق حركتها وتكبل حريتها النفاق، الكذب، الحيلية، الكسل، التواكل، الضعف الروحي، احتقار الحياة، احتقار المرأة، احتقار الطفل... إلخ لذلك كان من الطبيعي أن يكون لها خصوم. لذلك كان لا بد للمسرح من رعاة يدافعون عنه وعن أهله، رعاة أحرار يمثلون سلطة عليا عند الناس، كان من المستحيل أن يقدم موليير أعماله التي يكشف فيها القوى المحافظة في فرنسا بغير حماية ملك فرنسا نسيت اسم الملك، ولكن الى الأبد لن ينسى أحد اسم موليير وكان من المستحيل أن يقدم شكسبير روائعه بغير تأييد الملكة اليزابيث، وكان من المستحيل أن يقدم نجيب الريحاني وبديع الريحاني أعمالهما بغير تشجيع طبقة من الاعيان والباشوات، والبرجوازية الصغيرة، الحالمين جميعاً بالمزيد من الحرية والمدنية. الاتجاهات المحافظة تكره المسرح بوجه عام، لكنها تشعر بالفزع من الكوميديا على الارجح لأنها تحد من قدرتها على فرض وإشاعة النكد الأزلي العام وهو الإطار اللازم لحرمان الناس من الحرية. ولعل السبب في ذلك نفسي بحت، من هو ذلك الشخص ثقيل الظل الذي يشعر بود تجاه الفكاهة؟ إن مجرد سماعه لضحكة إنسان يذكره على نحو مؤلم بأن هناك من يستمتع بالحياة، تلك الحياة التي يكرهها بكل ما فيها ومن فيها. * كاتب مصري.