إطلاق 80 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الأمير محمد بن سلمان    انطلاق المؤتمر الدولي لأكاديميات الشرطة    السعودية الأولى خليجياً وعربياً في مؤشر الأداء الإحصائي    «الجناح السعودي».. ينطلق في «الصين الدولي للطيران والفضاء»    وزير الخارجية: حل الدولتين السبيل الأوحد لتحقيق السلام    «الرابطة» تُرحِّب بقرارات القمّة العربية والإسلامية    رئيس بولندا يشكر خادم الحرمين وولي العهد    الفرج يقود الأخضر أمام «الكنغر»    إسناد التغذية والنقل ل«جودة الخدمات» بإدارات التعليم    «التقني»: إلغاء إجازة الشتاء وتقديم نهاية العام    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة.. نشروا مقاطع منافية لأخلاقيات المهنة    وزير الداخلية يرعى حفل جامعة نايف وتخريج 259 طالباً وطالبة    5 مشاهير عالميين أصيبوا بالسكري    في بيتنا شخص «حلاه زايد».. باقة حب صحية ل«أصدقاء السكري»    ماذا لو نقص الحديد في جسمك ؟    المملكة تحذر من خطورة تصريحات مسؤول إسرائيلي بشأن فرض سيادة الاحتلال على الضفة الغربية    الأهلي يطرح تذاكر مواجهته أمام الوحدة في دوري روشن    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت    الذهب يستقر قرب أدنى مستوى في شهر مع انتعاش الدولار    سعود بن نايف يستقبل أمين «بر الشرقية»    أمير الرياض يستعرض إنجازات «صحية تطوع الزلفي»    أمير القصيم يطلق مبادرة الاستزراع    تطوير وتوحيد الأسماء الجغرافية في الوطن العربي    الاتفاق يعلن اقالة المدير الرياضي ودين هولدين مساعد جيرارد    مقتل ضابط إسرائيلي وأربعة جنود في معارك بشمال غزة    نقلة نوعية غير مسبوقة في خدمة فحص المركبات    استعادة التنوع الأحيائي في محمية الأمير محمد بن سلمان    "الحج المركزية" تناقش موسم العمرة وخطط الحج    رحب بتوقيع" وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين".. مجلس الوزراء: القمة العربية والإسلامية تعزز العمل المشترك لوقف الحرب على غزة    فوبيا السيارات الكهربائية    «نأتي إليك» تقدم خدماتها ب20 موقعًا    مجلس الوزراء يجدد التأكيد على وقوف المملكة إلى جانب الأشقاء في فلسطين ولبنان    ولادة أول جراء من نمس مستنسخ    الأخضر يحتاج إلى وقفة الجميع    المنتخب السوداني يسعى لحسم تأهله إلى أمم أفريقيا 2025    «طريق البخور».. رحلة التجارة القديمة في العُلا    السِير الذاتية وتابوهات المجتمع    أحمد محمود الذي عركته الصحافة    وفاء الأهلي المصري    للإعلام واحة    إضطهاد المرأة في اليمن    يسمونه وسخًا ويأكلونه    يأخذكم في رحلة من الملاعب إلى الكواليس.. نتفليكس تعلن عن المسلسل الوثائقي «الدوري السعودي»    «سامسونغ» تعتزم إطلاق خاتمها الذكي    «الغذاء»: الكركم يخفف أعراض التهاب المفاصل    التحذير من تسرب الأدوية من الأوعية الدموية    الرهان السعودي.. خيار الأمتين العربية والإسلامية    أسبوع معارض الطيران    جمعية يبصرون للعيون بمكة المكرمة تطلق فعاليات اليوم العالمي للسكري    إطلاق 80 كائنا فطريا مهددا بالانقراض    نائب الرئيس الإيراني: العلاقات مع السعودية ضرورية ومهمة    التوقيع على وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين بين منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية ومفوضية الاتحاد الإفريقي    الرئيس السوري: تحويل المبادئ حول الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان إلى واقع    الأمر بالمعروف بجازان تفعِّل المحتوي التوعوي "جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة التطرف والإرهاب" بمحافظة بيش    البرهان: السودان قادر على الخروج إلى بر الأمان    اطلع على مشاريع المياه.. الأمير سعود بن نايف يستقبل أعضاء الشورى المعينين حديثاً    أمير الرياض يطلع على جهود الأمر بالمعروف    مراسل الأخبار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألفريد فرج في مسرحيته السابعة والعشرين . "الطيب والشرير" وتحولات ألف ليلة وليلة
نشر في الحياة يوم 24 - 07 - 1998

ألفريد فرج عميد كتاب المسرح العربي. يكرر تجاربه الناجزة في تجذير هذا الفن المهجَّن في اعماق الناس وعلى خشبات المسارح. يقدم مسرحيته الجديدة المعروضة في القاهرة بطولة يحيى الفخراني وهي بعنوان "الطيب والشرير"، مع حذف كلمة "والجميلة" من العنوان المنشور. وهي المسرحية السابعة والعشرون من كتابته، والخامسة المستلهمة من حكايات "ألف ليلة وليلة" - قدّم فرج للمسرحيّة بمقدمة طريفة، عند نشرها في سلسة "روايات الهلال" القاهرية، فالمسرح لم تعد له سلاسل منتظمة النشر في مصر، بإهدائها الى بطل مسرحيته الفذة "حلاق بغداد" - الممثل الكوميدي الراحل عبدالمنعم ابراهيم الذي جسدها على المسرح القومي عام 1964 وسجلت نجاحا جماهيريا له مغزاه واثره البعيد كمسرحية كوميدية مكتوبة باللغة الفصحى. ويبدو ان هذا كان لب المشكلة التي واجهت هذا الجيل من رجال المسرح المؤصلين لدوره في الحياة العربية. يصور المؤلف هذه القضية الحيوية بطريقته الحوارية الشائقة، عندما تقدم الفنان المرح عبدالمنعم ابراهيم فجأة الى مقدمة المسرح خلال التدريبات وسأل المؤلف الجالس في الصف الاول: - "انت ما بتضحكش ليه؟".
فقلت له: لأني رأيت هذه المفارقات الكوميدية في المسرحية عشرات المرات. فصاح: لا، انت ما بتضحكش لأن المسرحية لاتضحك يا أستاذ، ويستحيل الضحك من كوميديا الفصحى. فأقلقني قوله، وقلت له: أنا أقرأ الجاحظ وأضحك، فمن الذي قال لك إن الفصحى لا تضحك؟"، كانت هذه هي القضية الكبرى عند صناع اللغة المسرحية وخالقي المواقف والحوارات. هل يقدر هذا المستوى الفصيح من اللغة على دغدغة الشعور الإنساني في تبذله واستخفافه واستغراقه في روح الفكاهة الشفيفة مثلما كان بالغا أثره في عرض دراما الحياة ومآسيها؟ هل تهدد الفصاحة النكتة "بالبواخة" وتبخر تأثيرها، أم تستطيع الحفاظ على قدرتها المثيرة المرحة ما دامت لا تعتمد على المماحكات اللفظية الدارجة، بقدر ما توظف مفارقات المواقف ومضحكات الحياة؟ هل يتوازى دور المستوى اللغوي في تخليق الفكاهة مع كفاءته في توليد الطاقة الشعرية؟ لم يلجأ ألفريد فرج الى الفلسفة أو النقد ليحل هذه الاشكالية نظرياً، بل عمد الى حيلة ماهرة ذات طابع تداولي مباشر: قدّم إحصاء بعدد ليالي عرض المسرحية المذكورة على خشبات المسرح المصري في حينها، فكانت النتيجة بليغة: في خمس سنوات عرضت حلاق بغداد 102 ليلة وشاهدها قرابة ثلاثين الف مشاهد من دافعي التذاكر، وهذه الارقام كانت قياسية في زمانها ولا شك ان هذه الارقام تظل متواضعة بالقياس الى نجاح الكوميديا العامية على مسارح اليوم حيث تستمر بعض المسرحيات لأعوام متتالية. ولكن عاملاً آخر يدخل في القضية هو المستوى الفني والفكري للعمل المسرحي. فاللغة لا تمثل إطاراً خارجياً للعمل، بل هي مادته وحاملة عناصره الفكرية والثقافية، والنطق بالفصحى يعني احتواء العصور والامصار العربية في جوفه، كما يعني ابتلاع الأجناس الادبية الشعرية والتخييلية في نسيجه بالدرجة نفسها التي يتمكن فيها النص الفصيح من تشغيل النصوص السابقة عليه في الذاكرة الإبداعية للشعب، اي انه يضمن تحقيق مستوى رفيع من ادبية النص وفنيّته معا.
ولقد كان لرجال هذا الرعيل المسرحي بزعامة توفيق الحكيم وتحديات نعمان عاشور ويوسف ادريس وكوكبة المخرجين والممثلين رؤيتهم في توظيف آليات التراث الشعبي والواقعي ودمجها في النسيج اللغوي للنصوص المسرحية. لكن يظل ألفريد فرج بدأبه ومثابرته، وقدرته على حفر تجاربه على خشبات المسارح المصرية والعربية باصرار واستبسال نادرين نموذجاً للمؤلف المخلص لفنه القادر على تنميته وتطويره دون انزلاق على التجريب المدمر للبنى المسرحية الاصلية. إذ مازالت هذه الابنية بحاجة الى مزيد من التجذير في تربة الفنون العربية، حتى تستقر انماطها في قاع الحياة الاجتماعية.
نص ألف ليلة وتحولاته
يوظف ألفريد فرج في مسرحية "الطيب والشرير" حكاية ابي قير الصباغ وابي صير المزين التي تستغرق عشر ليالٍ من حكايات الف ليلة وليلة، من الليلة الحادية والثلاثين بعد التسعمئة الى الحادية والاربعين التي تقع في الجزء الأخير. وهي هناك تخضع لنظام السرد التقليدي في تنميط الشخوص ودمغهم بطابع اخلاقي وجسدي واضح. فهما من مدينة الاسكندرية "وكانا جارين لبعضها في السوق. وكان دكان المزين في جانب دكان الصباغ".
"وكان الصباغ نصاباً كذاباً صاحب شر قوي كأنما صدغه منحوت من الجلمود او مشتق من عتبة كنيسة اليهود، لا يستحي من عيبة يفعلها بين الناس. وكان من عادته انه اذا اعطاه احد قماشاً ليصبغه يطلب منه الكري اولا، ويوهمه انه يشتري به اجزاء ليصبغ بها، فيعطيه الكرى مقدمه فإذا اخذه منه يصرفه على اكل وشرب ثم يبيع القماش بعد ذهاب صاحبه. ولا يأكل إلا طيباً من افخر المأكول، ولا يشرب الا من اجود ما يذهب العقول" وعندما تسود سمعته وتطارده الشرطة يغري صاحبه الحلاق بالسفر، ففي وسعهما ان يرتزقا من صناعتيهما بوفرة، وينشد له قول الشاعر القديم: "تغرب من الأوطان في طلب العلا / وسافر ففي الأسفار خمس فوائد / تفرّج همِّ واكتساب معيشة / وعلم وآداب وصحبة ماجد".
ويتعهدان بأن يرعى احدهما الآخر مما يربح، وعندما يستقلان "غليونا" في البحر المالح تفلح صناعة الحلاق على ظهره في توفير الرزق والطعام لهما. لكن الصباغ يعمد الى الكسل والنوم حتى يصلا الى ميناء لاتسميه الحكاية فينزل الراكبان ويستأجران حجرة في خان، يواصل الحلاق سعيه في الرزق ويستمر الآخر في كسله وجشعه حتى يصاب المجتهد بمرض ينتهي به الى غيبوبة متواصلة. يسرق ابو قير الصباغ متاع صاحبه وماله، يحتال لممارسة مهنة الصباغة في المدينة فلا يسمح له، لأن تقاليد المهنة صارمة ومداها محدود، فهم لا يعرفون من الالوان سوى الازرق والابيض، يلجأ الى السلطان يغريه بالالوان فيساعده على افتتاح مصبغة فاخرة ينعم بكسبها الوفير. فاذا ما شفي الحلاق ذهب لصاحبه، لكنه يتنكر له ويوسعه ضرباً واتهاماً باللصوصية. يرجع يائساً من رفيقه الشرير، ثم يهتدي الى فكرة مهمة هي حاجة المدينة الى حمام عمومي، فيذهب بدوره للسلطان ويقنعه بضرورة انشائه. وهنا تتجلى دلالة الحكاية التراثية. فالمدن العامرة بالمهن والصناعات والمنشآت العامة - مثل الاسكندرية - تفيض من مظاهر حضاراتها على المدن المحرومة منها. والسلطان الناجح هو الذي يتبنى المشروعات الجيدة ويشجعها لخير مواطنيه. وعندما يسمع الصباغ بنجاح الحمام ويفاجأ بأن صاحبه هو رفيقه ابو صير يحاول خداعه مرة اخرى فيقترح عليه ان يدخل في وظائف الحمام خدمة إزالة الشعر بمعجون يعرفه اهل المهنة ثم يحذر السلطان من مؤامرة يدبرها له الحلاق لتسميم جسده بهذا المعجون حتى يقتله باتفاق مع سلطان النصارى لاسترداد اهله وجواريه من السبي عنده. وتفلح المكيدة فيأمر السلطان قبطانه باغراق الحلاق في البحر، ولكنه ينجو مرة اخرى بفضل معروفه واكرامه السابق للقبطان. بل ويحصل على الخاتم السحري الذي كانت السمكة قد ابتلعته عندما سقط من اصبع السلطان. وهذا الخاتم يضمن قتل الاعداء فور الاشارة "فيخرج من الخاتم بارقة فتصيب الذي يشير اليه فتقع رأسه من بين كتفيه" كأنه سلاح يعمل بأشعة الليزر - وينجو الحلاق ويحضر الخاتم للسلطان وينتقم من عدوه بالقائه في البحر ايضا. ولكن مروءته تأبى عليه الا ان ينتشل جثته عند الشاطئ فيخرجه ويدفنه بالقرب من الاسكندرية بل ويعمل له مزاراً باسمه "ابو قير" ويوقف عليه اوقافاً، ويكتب على باب ضريحه ابياتاً من الشعر تتضمن حكمة الحكاية وموعظتها الأخيرة، ومن اجل ذلك سمي المكان باسم ابي قير وابي صير.
يحول ألفريد فرج هذه الحكاية عبر عدد من الآليات الابداعية المتقنة تتمثل في ضبط الايقاع المسرحي من خلال اقتصاد الأحداث، وتوازن الأصوات، وتفعيل الحوار. كما تتمثل في زيادة الجرعة الغنائية بما يفضي الى تعريب فن المسرح واشباع حاجة الجمهور الى الفرجة البصرية فيه وإضفاء صبغة شعرية جذابة على العرض. ثم لا تلبث ان تؤدي كل هذه الاجراءات التقنية الى تعديل البؤرة الدلالية للنص وتغيير معناه، بما يجعله ينتقل من المواعظة المباشرة الى التأمل الفلسفي الجدلي، ويفقد طابعه الاخلاقي المستقطب الحاد لثنائية الخير والشر، كما يفضي الى تقليص دور السلطة في تحول المجتمع ويلغي جانب الاسطورة في بناء الأحداث التاريخية للناس.
والواقع ان معالجة المؤلف الخبير بشروط الكتابة المسرحية تحقق هذه العناصر بتلقائية شديدة، نتيجة لطول ممارساته في التعامل مع نصوص الف ليلة وليلة من قبل. فهو يستل منها الخيط الرئيسي للأحداث ويقوم بتحريره وتوحيد مساره دون تشتت. لأن الاقتصاد عنصر جوهري في نمو المشاهد الدرامية وضمان استيعاب المتلقي لها. ويخلص النص من الثرثرة والفضول لتركيز الانتباه الى المحور الرئيسي. والمؤلف حريص على موقعة المشاهد في قلب النص منذ البداية، باعتباره حقاً له. فالمشهد الاول كشف اللعبة دون مواربة، اذ يقول المغني في مطلعه:
"كل جيل كتب حكايات الف ليلة وليلة على هواه .. الف ليلة ليست هي هذه ولا تلك من الحكايات .. الف ليلة هي صيغة تروى بها الحكايات .. وكل جيل روى بهذه الصيغة حكايات جيله على مقتضى احتياجاته الاخلاقية والروحية واستخلص منها الحكمة التي يريدها ويطلبها. الف ليلة سفينة احلام ركبها الناس من كل الاجيال، وكل من ركب فيها حملته الى ما يريد من البلدان. قد ذهبت بالراكبين الى كل زمان ومكان وعلى كل المقامات الموسيقية وبكل الألحان موسيقى مصاحبة ولو كان الأجداد يكتبون النوتة الموسيقية ويدونون الموسيقى كما نفعل اليوم لكانوا قد كتبوا حكايات الف ليلة وليلة على اوراق الموسيقى كما تكتب الاوبريتات والمسرحيات الغنائية. فحكايات الف ليلة مزينة دائما بالصور والأشعار والأغاني والرقصات التي غناها الرواي دائما لمستمعيه ليجذبهم للدخول من ابواب الخيال والتصور انه العالم الجميل الساحر".
ولما كانت الف ليلة منبعاً لإلهام الموسيقيين العالميين والشعراء والكتاب بهذا الطابع الفني الشامل فإنها تصبح منطلق ألفريد فرج لاشباع الحاجة الموسيقية والغنائية العربية. فالمشاهد العربي العادي - فيما يبدو - اكثر ميلاً للفانتازيا والفكاهة والغناء منه للدراما الجادة المحتدمة. وقد حاول رجال المسرح الكبار تدريبه على تحمل نكد المآسي وتطهيرها على طريقة نجيب الريحاني ويوسف وهبي والاعمال الكلاسيكية فاستجاب حيناً ونفر او فتر حيناً آخر. لكن الذي يجعله يقبل على الفن بشهية مفتوحة، بريئة من رغبة التثقيف التي تقلقه، إنما هي الجرعة الغنائية. من هنا يمكن ان نعتبرها بمثابة تعريب للمسرح وصبغ له بالصبغة الموسيقية الجذابة لجمهورنا. كما انها تشبع في الآن ذاته نهمه التشكيلي للفرجة البصرية بما تقدمه من مهرجانات الألوان والأشكال والرقصات. بالإضافة إلى اضفاء الصبغة الشعرية الرائقة التي تغمر المشاهد بتجربة جمالية شاملة وميسورة. لكن العامل الحاسم في ضبط الايقاع المسرحي عند ألفريد فرج هو ما يحدثه من توازن في الاصوات. فالمسافة الدرامية بين الطيب والشرير على فداحتها تختزل في احيان كثيرة بالتواطؤ وتحتاج الى عنصر جوهري ثالث يبرز التوتر الناجم بينهما ويصبح موضوع الصراع المنظور، كما يعادل الصبغة الذكورية لكل منهما. عندئذ يبتدع المؤلف شخصية عبير - زوجة بصير الحلاق الطيب التي لا وجود لها في حكايات الف ليلة - لأنها هي التي ستكشف عن مدى فداحة جرم الشرير، وهي التي تجعل الصراع بين الرجلين مسنوناً يبرز بشكل جلي تناقض الالوان الاخلاقية لهما. وهي تتوجس خيفة منذ البداية من الرحلة والسفر، مثل امرأة، لكن ظنونها لا تلبث ان تتحول الى وقائع عندما يعمد الشرير الى غواية زوجها الساذج حتى يلقي بنفسه في سفينة القراصنة بحجة انقاذهم من الجوع. وعندما يضيع الزوج لايتورع غريمه الشرير من ان يدعي امام الناس ان عبير كانت زوجته هو، لكنها تعشق زميل الذي ذهب الى مصيره. فيقلب الحقائق ويحرض القبطان على جلدها كفاجرة ويرغمها على الخنوغ لسطوته. وينتهي به الأمر في الجزيرة الرومية التي يهبطون اليها بأن يبيعها في سوق الرقيق إمعانا في اذلالها وتخلصاً من وفائها للزوج الغائب ومتاجرة في جسدها. ان جرم بكير لم يكن ليتجسد بهذا الشكل لولا صوت عبير الانثوي المعادل لذكورته العدوانية اللااخلاقية على ان الملمح البارز في سبيل تكوين الايقاع المسرحي المخالف لطبيعة السرد الحكائي يتمثل في تفعيل الحوار بين الاصوات المختلفة وتحميله لذبذبات المشاعر وتحولات المواقف وعرض الأحداث. فالحوار هو الفعل المسرحي الحقيقي الذي يجعل الحدث يقع امامنا، وتخليقه هو لب المسرح ، وألفريد فرج يتقن صناعته بشكل معجب. يكفي مثلا ان نتأمل هذا المشهد الحواري البسيط والكثيف معا، المفعم بالدلالة والدراما، عندما يلتقي الطيب بصير - بثيابه الرثة وهيئته المهلهلة - في الجزيرة بعد نجاته من سفينة القراصنة، يلتقي برفيقه بكير الذي تركه مع زوجته فيناديه: "بصير: بكير / بكير: تعرفني؟ / بصير: عز المعرفة / بكير: كيف تقول ذلك ومن انت؟ / بصير: انا بصير / بكير: بصير؟ / بصير: اين عبير يا بكير؟ انا بصير؟ الحلاق صاحبك الذي سافر معك على السفينة، واتفقنا على ان ينفق العامل على الباطل، وكانت معي زوجتي عبير. / بكير: نعم، نعم، كان معي صديق اسمه بصير على ظهر السفينة، ولكنه مات. جانبا ماذا اقول؟...".
في هذا المشهد الحواري ينتقل الطرفان من التعارف الى التجاهل، ومن الحيلة، المراوغة للتهرب التي يصطنعها الشرير الى الفجيعة الموجعة للطيب، ومن اختراع قصة موت الزوجة الى مواجهة الاكاذيب في سياق بسيط ودال على طبيعة كل منهما. فالطيب ساذج يصدق ما يقال له ويحسن الظن بصاحبه حتى وهو يتلقى اذاه، والشرير لا يكف عن ممارسة عدوانيته الصريحة في تحطيم صاحبه وادعاء الموت له ولزوجته، ثم ضربه وطرده في النهاية. عندئذ يقوم الحوار بدوره في تخليق الموقف وتفعيل الحدث ومسرحة القصة بما يشكل الايقاع الدرامي الضابط لحركة المشاعر والموجه لمعنى الأحداث.
واذا كان ألفريد فرج يغيّر في بنية الحكاية ويعدّل في وقائعها وشخوصها فلأنه يريد ان يصيب في مسرحيته عدداً من الدلالات الجديدة التي تنبثق من تراتب الاحداث ونوعية الحوار. وبوسعنا ان نشير الى طرف منها بشكل سريع: مثلا عندما يساق بصير الحلاق الى آمر الجزيرة بتهمة سرقة دكان صاحبه الصباغ - وهناك يلتقي بزوجته التي باعها صاحبه، نجد الآمر يتهم الشرطة بتهاونها في الحصول على اعتراف المتهم بأي ثمن، فيلجأ لحيلة ماكرة يزعم فيها أنه سوف يخضع المتهم لتجربة، وذلك بربطه في شوال واغراقه في البحر، فإن كان بريئاً قرضت الاسماك الحبل ونجا المتهم، وان كان مذنباً اكلته الاسماك، ولا يجد المتهم بداً من الاعتراف الكاذب بجريمة لم يرتكبها ايثاراً لعقوبة السجن على هذه التجربة.
ثم يهتف لنفسه: "يا رب.. عبرت البحر الف فرسخ.. ومن سفينة الى سفينة، ونزلت بلاد الروم فكأني في الاسكندرية لم ابرح مكاني.. الآمر هو الآمر الشركس او الرومي، والعدل عندهم هو العدل.. فسبحان الخلاق"، ولايخفي ما في حكمة العدل هنا من سخرية مريرة. وبالرغم من الطابع القروسطي للتجربة، لأن السلطة هي السلطة في كل مكان وزمان.
- هناك تنويعات على الدلالة القديمة للحكاية. فالمكيدة التي يُتهم بها بصير لقتل الآمر بالسم تأتي في الف ليلة نتيجة لتحريض ملك النصارى، بينما يجعلها ألفريد فرج نتيجة لتنافس الممالك وحقد امر مقدونيا عليه. يتم استبعاد العامل الديني من الصراع مما يلائم القراءة الحديثة للوقائع. والضابط الذي ينقذ بصير من الغرق يفعل ذلك في الحكاية القديمة امتنانا له ومعرفة بجميله في عنايته بحمامه وتدليكه مجانا من قبل. لكنه عند المؤلف المسرحي يفعل ذلك طمعا في زلعة الذهب التي ادخرها الحلاق، ولايعصي الامر صراحة حتى لا يتعرض للعقوبة، بل يفعل شيئا ماكرا: يترك مع الحلاق ادواته- وبينها الموسى- ويضعه في الشوال قريبا من سفينة تذهب للاسكندرية وكأن الحوادث عارضة غير مقصودة. ليست الاخلاق هي التي تحرك الشخوص بل المصالح والمنافع المادية المباشرة التي يتم التساوم حولها بشكل صريح. الامر الذي يخفف من حدة الاستقطاب الواضح في الحكاية القديمة بين الابيض والاسود، بين الاخيار والاشرار، ويضع سلماً واقعيا للدرجات المتفاوتة. هنا تصبح المسرحية اكثر عمقا في نقدها للمجتمع والناس والكشف عن العوامل الكامنة وراء سلوكهم.
- على ان اهم الدلالات الجديدة الناجمة عن بنية المسرحية الفنية هي التي تحتل الموقع الختامي وتحدد الأثر الأخير للعمل. وتتمثل في تلك الاستغاثة التي انطلقت بهاعبير من سذاجة زوجها الطيب في تسامحه وغفلته، عندما اوهمه الشرير بأنه اوقع به مضطرا ونهب ماله مع سفينة القراصنة مجبرا بقوة السلاح، فجأرت المرأة التي تمثل الضمير التاريخي الحي قائلة:
- "خاصمت هذا الشرير مشيرة الى بكير وخاصمت هذا الطيب مشيرة الى زوجها بصير فما كان يمكن ان تكون للشرير قدرة ليفجعني في مالي وحريتي وحياتي لولا هذا الطيب. وان الله قد هيأ الجحيم والعذاب المقيم للاشرار. واحتجز ركنا في الجحيم للطيبين الذين مهدوا للاشرار وفتحوا ابواب ما عليه شيء معلهش والمسامح كريم لاعصارهم المدمر".
هنا يتضح ان دور المرأة الذي ابتدعه ألفريد فرج لم يكن مجرد وسيلة لتوازن الاصوات المسرحية وضبط الايقاع الدرامي وتحلية المنصة بالجانب البهيج الممتع من المشاهد فحسب، وانما كان ايضا لبث الفكر الجدلي في عملية الاستقطاب الثنائي بين الخير والشر.فليس هناك طيب خالص او شرير كامل، فالطيب هو الذي يترك المجال للشرير ويغريه بشره فيشارك في صناعته. والجدل بينهما هو قانون الفهم المحدث للصراع البشري، والمرأة هي الصوت الذي يعلن طبيعة هذا الصراع ويحتكم فيه الى التاريخ والجمهور.
ولا يفوتنا ان نشير في نهاية هذا التحليل الى الجهد الفائق الذي قام به المخرج المبدع الاستاذ احمد عبدالحليم والى الدور الخلاق الذي تألق فيه يحيى الفخراني وساعدته بمهارة واضحة سوسن بدر وناظره محمد متولي. بالاضافة الى تلك الاغنيات الرائعة التي كتبها الشاعر الغنائي جمال بخيت، مما شكل في نهاية المطاف اوركسترا مسرحية جعلت متعة الفكر مقرونة بجمال الاداء ولذة العين والاذن في التلقي الجمالي للنص البديع.
* ناقد مصري وأستاذ جامع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.