لا ينفضل المسرح عن حياته لحظة: فالحياة هي المسرح الكبير الذي فيه تنضج الاسئلة والهموم. والمسرح هو الحياة نفسها ولكن ضمن لعبة ساحرة وملتبسة بين الواقع والوهم. الطيّب الصديقي لا يحتاج الى أي تقديم ولا الى أيّ تعريف وخصوصاً حين يكون الكلام له. وقد لا نفيه حقه إن قلنا عنه انه من كبار المخرجين المسرحيين العرب وانه ممثل قدير جداً وصاحب لغة خاصة وانه ايضاً يكتب من حين الى آخر نصوصاً مسرحية هي غاية في الطرافة والسحر. تاريخ الطيب الصديق يشهد له أجمل الشهادات وأعماله التي لا تحصى باتت تشكّل تراثاً مسرحياً قائماً بذاته. في هذا الحوار يتحدث الصديقي كعادته باسهاب وطرافة عن المسرح عموماً ومسرحه وهمومه وتجربته الطويلة: أعتقد أنه لا بد أن أسألك عن واقع المسرح المغربي بداية! - يا أخي، أنا لا أتحدث عن المسرح المغربي ولا عن المسرح العربي، ذلك أني لا أتحدث إلا عما أريد انجازه، عما يشغلني، ثم ان رجل المسرح ليس هو المؤهل لتقييم أعمال الآخرين، فهناك النقاد والجمهور... وأنا كرجل هاوٍ للمسرح لا أذهب اليه أبداً لأنه فضاء يولِّد الضجر. وعندما أذهب الى المسرح لتقديم عرض، وألاحظ أن القاعة غاصة بالجمهور أسأل نفسي لماذا جاء كل هؤلاء... ولأن المسرح مكان مُضْجِر أكثر من أيِّ مكان آخر فإني أفضل أن أقرأ مسرحيات. منذ سنوات لم أشاهد أي عرض مسرحي أما الآن فإني أضطر الى مشاهدة بعض العروض لأنها تقدَّم في مسرحي لأنني أملك مسرحاً الآن. المسرح الجوال الذي هو عبارة عن خيمة شاسعة. - نعم. ودعني أقول لك إني متفائل بمستقبل المسرح في المغرب بل قد أقول ان المغرب هو البلد الوحيد الذي يعرف حركة بناء مسارح إذ هناك عشرون مسرحاً في طور التشييد. وهذا لا يحدث في أي بلد. بطبيعة الحال هذه بنايات وليست هناك فرق قارة لتحقيق تشغيل مستمر لتلك المسارح عن طريق برمجة تغطي أيام السنة. هذه هي المرحلة الثانية أما الأولى فهي التي توجد الآن في طريق الانجاز. ففي مدينة الدار البيضاء تم بناء عشرة مسارح خلال عشرة أعوام. وهذا أمر مدهش للغاية. ثم إن هناك مسارح أخرى في طور التشييد في المحمدية وفاس ومكناس ووجدة... هذا أمر يبشر بالخير. ولكن أود أن أضيف أن ما ينقصنا هو الإبداع. يقول بعض الناس أننا نفتقد الإمكانيات، وأنا أعارض هذه الفكرة ذلك أنه إذا انعدمت الموهبة فأننا ننتج "أعمالاً" تنضح بؤساً وادقاعاً فنياً. وإذا ما حصلنا على دعم مالي فإننا ننتج "أعمالاً" أكثر بؤساً فالمال لا يمكن من شراء الخيال أو التخييل أو الإبداع وان كان يمكن من شراء الآليات والمواد الأولية. لو تسترجع في هذه اللحظة بعض تفاصيل لقائك بالمسرح؟ - كان لقاء حكمته المصادفةُ. كنت أرغب في دراسة الهندسة المعمارية، وكان الأساتذة الفرنسيون يومها قد وجهونا توجيهاً مِهَنياً إذا لاحظوا أنّ لي استعدادات في مجال الاتصال وكان يسمى يومها بالبريد. أخبَرت أبي بالأمر فقال لي: نحن على أبواب الاستقلال وأنا أمنحك سنة تفرغ للتأمل الذاتي، وهكذا التقيت بالمسرح وقد كنت يومها، قرأت في الصحافة عند تدريب في الفن الدرامي فقلت لنفسي: المسرح يشمل أيضاً الهندسة فلأبدأ من هنا ويفتح الله من بعد، وكنت واحداً من بين عدد ضئيل من مزدوجي اللغة الذين قبلوا. بدأت بالترجمة ثم انتقلت الى إدارة المسرح فالديكور وبعد ذلك أصبحت مخرجاً بالمصادفة ومدير فرقة مسرحية فمدير مسرح دائماً بالمصادفة. في الحقيقة، لم أخطط لأي شيء في حياتي كل شيء حدث بشكل طبيعي. بعض نصوصك تعكس علاقة متميزة مع موليير. - أحب موليير كثيراً. إنه عبقري حقاً، ولكنه ليس الوحيد. يمكن أن أقول أني أفضل عليه شكسبير. ثم انني أحب حباً شديداً الترجيديا الإغريقية وهما أمران لم أتعامل معهما بعد. لم أقم بإخراج أية مسرحية لشكسبير وذلك لأنني لا أشعر أنني أقدر على اخراج مسرح شكسبير ثم أن مسرحنا المغربي لا يتوفر على ممثلين شكسبيريين لأن للتراجيديا بعداً آخر ذلك أن شخوصها يعانون من ظلم القدر وبالرغم من أنهم يعلمون أن الموت ينتظرهم في نهاية الطريق فهم يمشون فيه ويمكن تلخيص الأمر في جملتين: الى أين أنت ذاهب أيها الإنسان؟ لا أدري ولكنني ذاهب الى هناك. ولقد انتظر الفرنسيون القرن 17 ليفهموا التراجيديا ويكتبوها. أما في العالم العربي فلم تُكتب بعدُ على رغم أن اللغة العربية لغة تراجيدية. لست أدري هل سيولد عندنا يوماً مسرح تراجيدي وان كنت أعتقد أن لدينا في العالم العربي شكلاً من أشكال المسرح التراجيدي ويتعلق الأمر بالتعازي، كتعازي مقتل الحسين عند الشيعة. أما عند السنّة فلا يوجد هذا الشكل المسرحي... وهناك عدة قضايا لم تتم مقاربتها في المسرح العربي منها البعد التراجيدي وكذا الشعر الذي لم يحتل مكانه اللائق به في المسرح العربي خاصة وأن للشعر مكانة رئيسية إذ اعتبر علم قوم لا علم لهم. وقبل أيام فقط صادفت أربع محطات عربية تقدم برامج حول الشعر في وقت واحد! وهذا أمر دالٌ في حد ذاته. عندما أشرت الى موليير قلت أنك تفضل عليه شكسبير مَن مِن الكتّاب رافقته مدة معينة حتى أحسست بعلاقة الصداقة والألفة! - ككل الناس أغلب أصدقائي من الأموات لا الأحياء. وقد أذكر من بين أصدقائي الجاحظ، ومجموعة من المسرحيين الإغريق وقلة من الأحياء أذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر: كونديرا، غارسيا ماركيز... وأخيراً شرعت أتابع عن قرب كتابات امبيرتو إيكو حيث يفلح الرجل في خلق معارضات مدهشة حقاً. في أحد كتبه الأخيرة يتحدث عن ناشر استقبل مؤلف كتب الكتاب المقدس كما تحدث عن تقييم أعمال كافكا وكيف يراها ناشر شاب. انه عالم مثير للدهشة. ورغم ذلك فأنا أحب أن أقرأ الشعر لأن ذلك يجعلني أشعر بالنشوة والابتهاج. تذكرت الآن اسم فيلار؟ - طبعاً لم أشر الى كل الأسماء وذلك لأن الأسماء ليست هي الكتب. لو أشرت الى كتبي المفضلة لذكرت مذكرات دوغول وكتابات مالرو وخصوصاً كتاباته حول الفن والتي أعتبرها مدهشة. كما يمكن أن أشير الى كتابات أبولينير. ولن أنسى بالطبع "ألف ليلة وليلة" فهي من الروائع بالرغم من أن كثيراً من العرب يحتقرونها. قد يكون بعض هذا الحب وراء مرحلة يمكن تسميتها بالتراثية تعاملت فيها مع نصوص تراثية أذكر منها "بديع الزمان الهمذاني"، "الحراز"... - سأحكي لك هذ الحكاية أو هذا الحدث، ذهبت مرة لتقديم مسرحية "المقامات" في مهرجان صغير في تونس. وقد استضاف أصحاب المهرجان ثلاث فرق أجنبية واحدة فرنسية قدمت مسرحية "فيدر" وقدمت مسرحية "المقامات" بعد اعادة صياغتها وكان عُمُرُ الأصل سنتين وبعد العرض كتب شخص ما مقالة قال فيها: "للأسف قدم الصديقي مسرحية تعود الى سنتين"... أما مسرحية "فيدر" وعمرها ثلاثة قرون فلم يقل عنها شيئاً ولم تبد له قديمة، هذا انسان يجهل الميدان. لا يوجد مسرح ينتمي الى الماضي. ففي كلمة تمثيل أو تشخيص الفرنسية Reprژsentation نعثر على كلمة حاضر Prژsent. وعندما نقدم أوديب الآن، وقصته تعود الى ألفي سنة، فإننا نتحدث عنه في زمن الحاضر. وهذا الأمر يعكسه جواب هاملت على بولونيوس الذي سأله: ما الذي تقرأه، يا مولاي. هاملت: كلمات، كلمات، كلمات. ماذا يقرأ الناس الآن؟ فيلار، أوجان جينيه... وربما كانوا يقرأون في زمن بن جونسون بن جونسون، وكذلك فعلوا في زمن شكسبير: قرأوا بن جونسون. فالحداثة تكمن في ما نراه... ثم كيف يمكن أن نفسر أن أبطال الأفلام القديمة كلهم شباب. هذا أمر مدهش. فهم يبدون شباباً أكثر مما هم عليه الآن. ان مفهوم الزمن غير وارد هنا. ما معنى الماضي؟ انه اللحظة الجميلة التي تستمر في الحاضر. ثم اننا عندما نقرأ القرآن لا نقول هذا عمره خمسة عشر قرناً والأمر ذاته يمكن أن يقال عن نصوص المتنبي تأبط شراً... لو اعتمدنا بعض الحقب للتأريخ لمسيرتك المسرحية تحدثنا عن المسرح العمالي... - مقاطعاً دون الحديث عن "هموم العمال"... وقد قدمنا آنذاك مسرحية "المفتش" لغوغول ومسرحية "الوارث" لرينيار كما قدمنا مسرحية "الجنس اللطيف" لأرستطو فان وهي المسرحية الوحيدة التي قدمناها من المسرح اليوناني وقد اشتملت على مسرحية "الجنس اللطيف" وعلى مسرحيتين "اجتماع النساء" أو و"ليز يستراتا" وهي كوميديا إغريقية. لكنني لم أعتمد أبداً مسرح المطالب السياسية فقد كنت أرفض أن أساير الفترة والسائد، وأعتبر رأيي يومها متيناً. أما الآن فقد اقتنع الناس بذلك وفهموه نظراً للتغييرات التي عرفها العالم. كان رأيي وما يزال هو التالي: أن المناضل الحقيقي، إذا كان رجل مسرح، فالمطلوب منه هو أن يكتب مسرحاً جيداً، والمطلوب من الشاعر أن يكتب شعراً جيداً وهو ما يبقى في نهاية المطاف. انظر الى فولكنر انه سياسي كبير ثم انه بالنسبة لي كان رجل قانون. فقد كان الرجل نجماً. كان سياسياً كبيراً ولكنه كان كاتباً كبيراً قبل كل شيء انه أكبر روائي أميركي ولا أريد أن أقول أكبر روائيي العالم، ولا يهم أنه كاتب من "اليمين". في فترة معينة دعوت الى مسرح عربي مغربي؟ - هذه أيضاً قضية خاطئة لأن المهم هو فعل المسرح ذاته أي أن نقدِّم المسرح. وأنا فرِح لأن هذا المسرح كان عربياً، أما مسرح مغربي فتلك قضية أخرى. لو ولدت جهة الجنوب لقدمت مسرحاً سنغالياً فما حدث هو مجرد حادث جغرافي. ولو ولدت في الشمال لقدمت مسرحاً اسبانياً، انني فرح لأنني ولدت هنا وأغبط نفسي على أنني هنا أقدم مسرحاً ذا لون عربي. لكني أُلح على أنني أقدم، أو أمارس المسرح أولاً والعربي ثانياً. المهم هو المسرح أي منتوجاً قابلاً للتعرف عليه. انني لا أمارس مسرحاً شبيهاً بالأطباق الطائرة يصعب التعرف عليه أو تحديد هويته. إن مسرحي محدد الهوية وقابل للتعرف عليه وتمييزه عن غيره وأنا في الغالب أطعّمه بالسخرية لأنني لا آخذ المسرح مأخذ الجد بينما هناك من يعتقد أن بإمكان المسرح أن يغيّر العالم ويوجه رسائل الى الإنسانية. أعود الى قضية مسرح عربي/مغربي لأقول قد يعود الأمر الى رغبة الصديقي كمخرج في اثارة طابع مسرحه وخصوصيّته. - لقد حلم العرب، على الدوام، في أن يكون لهم عالم عربي شبيه بثكنة كبيرة يلبسون بدلة موحدة، لماذا؟ هناك خصوصيات يصعب الغاؤها: فالمسرح العراقي يقدم لنا خصوصية بابلية زيادة على العربية والمسرح المصري يغتني بخصوصيته الفرعونية ونحن في المغرب عندنا خصوصيتنا الأمازيغية. فلماذا يحرص البعض على افقارنا وافقار مسرحنا؟ أوافق على مسرح عربي باللغة العربية، لكن: يمكن أن يكون باللهجات/ اللغات الأخرى، ففي ذلك اغناء المسرح وليس افقاراً له. ولا بأس أن يكون هذا المسرح تونسياً، مغربياً... فلا فائدة ترجى من وراء أن نتشابه! فالوحدة لا تلغي الاختلاف. ثم ان للجغرافيا أحكامها: قد أبدو غريباً ولكنني أشعر أن الإسباني الذي يبعد عني 14 كليومتراً أقرب اليَّ من اليمني لأني أفهم ما يقول لأن أفقنا أقرب الى أفق الغربي. لو انطلقنا من مسرحية "الأكباش يتمردون" لنطرح قضية توظيف الفصحى والعامية لأنهما تكمل واحدتهما الأخرى وتغنيها! - أنا لا أؤمن أنهما لغتان. الدارجة انحدرت من الفصحى فهما قريبتان من بعضيهما مع اختلاف في قواعد النحو. فلكل منهما قواعدها. ثم إن الدارجة تطفح بالكلمات الدخيلة. من القضايا التي تشغلني في هذا الباب كيف يمكن أن تصبح الدارجة لغة مكتوبة لكي تدخل الى الذخيرة المسرحية ولا تبقى مهمشة. وكيف يمكن تخليص هذه اللغة من بعض الاحتقار في التعامل؟... ويمكن أن نلاحظ أن الدارجة لا شيء بالنسبة الى العربية الفصحى والدليل هو ما نراه ونسمعه في وسائل الإعلام، فالعربية أصبحت مفهومة ومتداولة بين الشباب وما ينقصنا هو ما السبيل الى جعل تلك اللغة لغة اليومي - لاحظ أنه من الصعب أن تتخاصم مع أحد وتسبه بالفصحى! في التلفزيون يتحدث الناس بالعربية الفصحى لكن الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ لا يتحدث بها أبداً لكنه يتحدث العربية المصرية وهي متداولة ومفهومة. ويبدو لي أننا نعيش مركب نقص تجاه اللغة العامية التي لا تعتبر لغة كلاسيكية... اعتبرت مسرحية "الأكباش يتمرنون" نقطة انطلاق لامتزاج الواقعي بالخيالي والابتعاد عن مفهوم الانعكاس كما تجسد في المسرح. - لقد أوّل بعض النقاد تلك المسرحية تأويلاً مبالغاً فيه لم يطرأ على بالي أبداً. وأقول لك بصراحة أن بعضهم أراد أن يدخلها ضمن مسرح التحريض. وأذكر أن أحد الفرنسيين، سامحه الله، واسمه جيل سانديي هو الذي أعطى للمسرحية هذا البعد بينما يتعلق الأمر، في الواقع، بقصة بسيطة تتخذ شكلاً مجازياً. من يقرأ تلك المسرحية زمن كتابتها المرحلة "الأوفقيرية" أوفقير جنرال مغربي كان وزيراً للداخلية نهاية الستينات وبداية السبعينات ومن يقرأها الآن قد يلاحظ بعض الفرق: ذلك أن بعض المسرحيين كانوا يعتقدون أنهم يكتبون "مسرحاً سياسياً" فينثرون جملة هنا وتلميحاً هناك ويقولون أنهم مناضلون: يُلبسون بنتاً لباساً أبيض فتصبح "رمزاً" لحورية! ويقدمون شخصية بشارب ويقولون انه "يرمز" الى الدكتاتور! وهذا، لعمري، مسرح ساذج ومسرح جاهز بل هو غبي أيضاً. نفهم من كل هذا أن ما سمي بالإلتزام لا يشكل صلب الإبداع، المهم هو الفن! - الإلتزام يعني أن تنجز عملك وتقوم به هذا هو الإلتزام. هل وجد من يسأل هل كان فيلاسكيز من اليمين أو من اليسار؟ هل سأل أحد عمّا إذا كان هوميروس يساعد المساكين أم لا؟ سيبقى هوميروس كاتب "الالياذة" و"الأوديسة" وكفى. الإلتزام هو أن تلتزم بعملك وتخلص في انجازه. فالمجتمع يتكون من عدد من الأفراد وعلى كل واحد منهم أن يعمل على أن يتقدم المجتمع خطوة نحو الحرية، نحو ما يحرره، ما يحسن أوضاعه وينشر العدل... وما هو العدل؟ هو كل هذه الأشياء مجتمعة... وهي قد تتشكل من كلمات قد لا يكون لها بعدٌ أو نكهة ايديولوجية عندما يقوم الإنسان بواجبه. فالمطلوب من شرطي مسؤول أن يكون جدياً أي أن يقوم بواجبه ويحمي المواطنين ويحافظ على أمنهم ويسهم في تنظيم المجتمع. وما الذي نطلبه من شاعر هو أن يتقن مهنته فنقتدي به ونقتفي أثره نحن وأولادنا ونقرأه جميعاً ونفتخر به ونتداول الحديث عنه وعن نصوصه. لن يمارس كل الناس السياسة. أتعرف ما معنى المسرح؟ أعْرِف تعريفاً واحداً بسيطاً له وهو ان على الكتّاب أن يكتبوا وعلى المخرجين أن يخرجوا الأعمال المسرحية وعلى أصحاب الديكور أن يقوموا بمهمتهم وعلى الممثلين أن يمثلوا أدوارهم وعلى منظمي العروض أن ينظموها. هذا هو تعريف المسرح ولا أعرف له تعريفاً آخر. وتبقى الأسئلة التي يطرحها الجمهور على رجل المسرح المخرج: ماذا ستقدم لنا؟ ما هو منتوجك الفني أو الثقافي؟ ثم ما الحجم الذي ستعطيه له ليثير نقاشات داخل المجتمع وكيف يمكن أن يستمر هذا العمل ويخلد في "الريبيرتوار". ألا تلاحظ أننا عندما نتأمل تاريخ المغرب، نتحدث عن المختار السوسي أو عبدالله كنون... هذان وسواهم سجلوا حضورهم وأبدعوا وحفظ لهم التاريخ انتاجات مهمة فهم ليسوا أشباحاًً. فمن هم معاصروهم؟ الذين كانوا ينتقدونهم؟ لم يحتفظ التاريخ بإسم أي أحد منهم. وهذا هو الفرق بين من يعمل ومن يهتم بالشعارات. الشعارات مرحلية والإبداع انساني وقد يكون من نصيبه بعض الخلود. وأنا أرفض الصنف الأول وانخرط بحمية في الصنف الثاني وأتمنى أن يكون عندنا فنانون عالميون... خلال مرحلة معينة عُنيت بالحلقة كشكل للفرجة، بل استضافتك الجامعة الإسبانية لتقديم عروض وتكوين طلبة في هذا الاتجاه. - هذا النوع المسرحي لا أرغب في أن يصبح الشكل الوحيد المعتمد في المسرح المغربي. هذا نوع فقط، وأعتقد أن على المسرح المغربي أن يكون غنياً وتتعدّد تجاربه وتتناقض أيضاً حتى لا نقع في مفهوم أو قصة الثكنة. وعندما أتحدث عن الحلقة لا أضع الشكل كنقيض للمضمون وليس الشكل هو الصيغة، وأحيل هنا على أبي حيان التوحيدي الذي يتحدث عن الصنعة وعن الصيغة. مثلاً نحن نريد أن يكون لنا مسرح جيد، أن يساير العصر فما الصيغة التي يجب أن يتخذها؟ هذا هو المشكل. عندما يشرع البعض في تقديم مسرح بائس أو يعمد الى وضع علم فلسطين فوق الخشبة حتى لا يقول ناقد أو متفرج هذا عمل بائس أو هزيل، أقول نعم، انه هزيل بالرغم من علم فلسطين على الخشبة ولا علاقة له بالموضوع... لعلنا نخلص من كل هذا الى أن المسرح المغربي والعربي يعانيان من زلة الجهل. الفنانون، عندنا جلهم أمي والأمي لا يميز ولا يمكن أن يكون مسؤولاً. الإنسان المسؤول هو الذي يعرف حدود حقل عمله وهو المتمكن من فكره واختياراته... المسرح ثقافة ومهن شتى. فلا يمكن أن يكون المخرج مخرجاً إذا كان يجهل الأدب لأن المسرح أدب مكتوب. ولا يمكن أن يكون المخرج مخرجاً إذا لم يكن مهندساً معمارياً أو على الأقل يعرف كل القضايا التي تطرحها هندسة المكان/ المسرح، ولا يمكن أن يكون مخرجاً إذا كان يجهل الموسيقى وتاريخها وأن لا يوظف موسيقى فاغنر في نصوص موليير. والمخرج بمثابة رئيس جوقة فهو يعرف الموسيقى ولا يعزفها... صعبة جداً هي مهمة المخرج! - الإخراج يتطلب تكويناً مزدوجاً: أدبياً وعلمياً. فلا يمكن أن توظِّف الإضاءة توظيفاً متقناً إذا لم تكن على معرفة بالفيزياء. وإذا كنت من المتفرجين عليك أن تنظر دائماً الى أرض المسرح فإذا رأيت عدداً من الأشباح هناك فاعلم أن مخرجنا لا معرفة له بالإنارة فكيف يولد المعنى عن طريق خدع الإنارة؟ ان على من يتهم نفسه بالإخراج أن يلم بكل هذه المجالات المتنوعة ويبدع فيها. تمثل مرحلة مسرح الهواة أحد أغنى مراحل مسيرتك المسرحية! أليس كذلك؟ - مسرح الهواة يمثل دائماً تجربة مهمة وغنية لأنه يمثل خزاناً بالنسبة للمسرح الاحترافي كالمسرح المدرسي. من بين خصائص الكتابة الدرامية عندك هناك مستوى اللعب بالكلام! - طبعاً لأن اللغة لغة حية، ويمكن اعتماد الحشو في التعبير، ودينامية معيّنة لشدّ انتباه المتلقي. فالوقوف على المسرح لا يسمح باعتماد أو استعمال لغة جامدة، بل يتطلب ابتداع لغة تنضَح حيوية. وكما قلت أنا في المقامة القردية: يقول له "يا قرد أنت على وزن فعل، والقردة فعلة... والقرود فعول". فعليك أن تعتمد اللسانيات وعلم الدلالة وفقه اللغة وهذه عناصر طريفة جداً وهي ساحرة أيضاً. وهذا اللعب بالكلمات موجود في المسرح ويحول دون استعمال لغة جامدة لأن اللغة كائن حي وهناك طرق للنطق بعبارة ما. فقد رأيت اخيراً يقصد عرض مسرحيته "قفطان الحب المرصّع بالهوى" العبارة التي يرددها السارد "وقع ما وقع" وكان الصديقي كلما كرر العبارة تنفجر القاعة ضحكاً ان هذا الضرب من اللازمة لا يقال بنفس النبرة فمرة تفيد الاستفزاز، وثانية السخرية، وثالثة الغضب ورابعة الحنين الخ. وهكذا فجملة واحدة تمكنك من تجسيد أوضاع ومواقف مختلفة عن طريق النبر. وهذا شبيه بعبارة يرددها المغاربة في حديثهم اليومي "تبارك الله عليك" ويعطونها عدداً من المعاني مدح، ذم... كل هذا يؤكد أن اللغة محرك أساسي يجب أن تعطى الأهمية ذاتها التي تُعطى للحركة وذلك على رغم أننا نقول سأذهب الى المسرح لأشاهد مسرحية ولا نقول لأسمع مسرحية إذ ان العين تسبق الأذن. إن الجانب البصري مهم جداً. والمسرح هو أيضاً رسم ونحت. ولعل الكوميدي عندما يكون مرتدياً لباسه فتسلط عليه الأضواء لعل ذلك يمثل عملية نحت حقيقية. ولعلك لاحظت أن الألبسة/ الأزياء وقد سلطت عليها الأضواء أصبحت تمثل لغة خاصة. فهناك اللغة التي نتحدث بها واللغة التي نشاهدها. في مسرحية "قفطان..." شكلت الملابس والموسيقى شكلا عنصري فرجة متميزة وكانت الموسيقى تعين للمتلقي بلد الحدث. - "حَنْبلوس" هو البلد الذي تخيّلته أو اكتشفته ليحتضن أحداث المسرحية والألبسة أيضاً اخترعتها اختراعاً. إن التخييل أو الاكتشاف خصيصة رئيسية في المسرح. وقد رأيت الآلة الخاصة بإصدار الدخان. لم أرد تشغيلها على الخشبة كان الفنان الصديقي يقول لأحد الممثلين، وكان يحمل تلك الآلة، أصدر اللون الأحمر، الأزرق... لأترك للمتفرج فرصة تشغيل مخيّلته وقد سُرِقت مني آلة ثانية لإصدار الدخان. الانتقال من المسرح أو الخيال أو النص الى الواقع يخلق فرصاً للهزل؟ - بالطبع، فذلك الانتقال يخلق أو يحدث أثراً هزلياً ويحقق متعة، فالجمهور المغربي مدهش وذكي ويمتلك الثقافة اللازمة لمتابعة وإدراك عناصر السخرية. فالمسرح القائم على السخرية مسرح مهم جداً وكذلك تجربة المؤلف المسرحي الذي يحرص على خصوصيته وعلى كينونته ولا يسعى أن يكون مالرو أوْ روب غرييه... فلا أحد يمكن أن يشبه أو يكون آخر. التقليد في المسرح، كما في غيره من الأجناس الأخرى، ممارسة قاتلة. فلكل عمل ظاهره وباطنهُ بالمعنى الصوفي للكلمتين. ولعل باطن العمل، وحياته، وروحه أهم ما فيه. ظل تعاملك مع السينما كمخرج خجولاً؟ - اثبتت لي تجربة السينما أن عليك أن تصرف ثلاث سنوات من حياتك لتنجز فيلماً لتقديمه لمهرجان واغا دوغو أو أي مهرجان في فرنسا مونبلييه أو غيرها... جهد كبير من أجل لا شيء تقريباً.