كان على رئاسة جورج بوش أن تدخل مرحلة الحسم بعدما خرجت أزمة الشرق الأوسط عن حدود السيطرة: كان العالم كله ينتظر من رئيس أكبر قوة عظمى في العالم أن يتحمل كامل مسؤولياته ازاء السلام والأمن والاستقرار. كان يقال عن الديكتاتور الايطالي الفاشي بينيتو موسوليني ان له "شهية هائلة لكن تنقصه الاسنان"، ويمكن أن يقال الشيء ذاته عن الرئيس الأميركي: إن قدراته العقلية والاخلاقية والسياسية ليست في مستوى طموحاته الامبريالية. لدى الولاياتالمتحدة أحلام بالسيطرة على العالم، فقوتها العسكرية الساحقة ليس لها منافس، ولكن الرئيس بوش متردد وضعيف وتنقصه الدراية والكفاءة بشؤون السياسة الخارجية، بشكل فاضح. وحتى في أفغانستان التي يزعم أن بوش قد حقق فيها نصراً خاطفاً قبل الأوان، بدا واضحاً، وبشكل ملفت للنظر أن الحرب لم تنته بعد: فحكومة حميد كارزاي الموقتة، المفروضة على الشعب الأفغاني، متهلهلة، وفي غاية الهشاشة. وقد فشلت الولاياتالمتحدة، على رغم كل محاولاتها الدؤوبة في تحقيق استقرار طويل المدى، وإعمار واعد في هذه البلاد التي دمرتها الحرب، ولم يعد خافياً على أحد أنها تخلت عن مسؤولياتها مرة أخرى. لقد سمح الرئيس بوش وبافتضاح أفدح، في ما يتعلق بالشرق الأوسط، بأن يترك الحبل على الغارب لآرييل شارون كي يمضي قدماً في تحدي الولاياتالمتحدة، وتوسيع هجومه الاجرامي على المدن والمخيمات الفلسطينية، على رغم دعوات الرئيس بوش المتكررة، الضعيفة، غير الملزمة. إن المقاومة البطولية التي أظهرها الفلسطينيون في جنين والهجوم الانتحاري الأخير على حافلة بالقرب من حيفا، يشهدان بأن الفلسطينيين لن يرغموا على الهزيمة، وان نضالهم من أجل الحرية لا يمكن أن يتوقف، مهما اشتدت شراسة الحملة العسكرية عليهم. وقد أعطى بوش الضوء الأخضر لشارون كي يستمر في أعماله الانتقامية الوحشية، بدلاً من أن يضع كل ثقله لإقامة الدولة الفلسطينية التي وعد بها. ثم برهن على أنه عاجز على السيطرة عليه بعدما تمادى وخرج عن الحدود. إن الفضيحة السياسية والإنسانية التي صدمت العالم كله بعد تفاقم هذه الأعمال الانتقامية الاجرامية قد ألحقت ضربة موجعة بسمعة الولاياتالمتحدة الدولية وبهيبتها الديبلوماسية. لكن شارون لم يفاجئ أحداً بسلوكه: فخلفيته الاجرامية وايديولوجيته التوسعية، وأساليبه المتوحشة معروفة منذ زمن طويل، وكان من السهل التنبؤ بما سيفعله حتى قبل أن يقدم عليه. ولو كان الرئيس بوش متزناً ومعقولاً لسعى إلى اخراج شارون من السلطة قبل ارتكابه لكل هذه الجرائم وقبل إلحاقه كل هذا الأذى بالمصالح الأميركية، وبالفلسطينيين وبإسرائيل ذاتها. كان لجورج بوش الأب اليد الطولى في اخراج اسحق شامير من السلطة، في حين ساعد الرئيس بيل كلينتون على التخلص من بنيامين نتانياهو. إن شارون، وهو من المنادين ب"إسرائيل الكبرى" مثل من سبقه من الزعماء اليمينيين الإسرائيليين، أكثر خطراً وأكثر تعطشاً للدماء، ولكنه أقل ذكاء، انه لا يفهم إلا القوة العسكرية. ولكن الرئيس بوش، الذي يخضع لضغوط شديدة من الصقور الموالين لإسرائيل في وزارة الدفاع الأميركية، لم يفعل شيئاً هذا الأسبوع لايقاف جنون شارون، مظهراً أنه لا يملك الخبرة السياسية ولا الإرادة السياسية للتحرك الفاعل في الوقت المناسب، لاحتواء شارون والحيلولة دون اشاعة عدم الاستقرار في المنطقة بكاملها. مهمة كولن باول الصعبة يعرف كولن باول، وزير الخارجية الأميركية، جيداً ما الذي يتوجب عمله، ولكنه الصوت الوحيد في الإدارة الأميركية. إنه محبوب شخصياً، ويحظى بالاحترام والتقدير في كل مكان، ولكنه لا يملك وزناً سياسياً كبيراً في واشنطن، ولهذا السبب كان عليه أن يتحرك ببطء وحذر شديدين، بانتظار أن ينقلب الرأي العام الأميركي ضد شارون. وهذا ما حصل، في الفترة الأخيرة، على ما يبدو. اتهمت "نيويورك تايمز" شارون بأنه "يهين الرئيس بوش والولاياتالمتحدة"، في حين بادرت "واشنطن بوست" إلى القول بأن بوش "يفتقر إلى التصميم والعزم اللازمين لاتقان لعب دور الوسيط في الشرق الأوسط...". لقد توقف كولن باول - وهو في طريقه إلى إسرائيل - في مدريد، حيث سعى إلى الحصول على مساعدة الاتحاد الأوروبي، وروسياوالأممالمتحدة، لإعادة شارون إلى جادة الصواب، ولكن حتى هذه الدعوات المشتركة لن يكتب لها النجاح، إذ يعتقد شارون بأن أصدقاءه في الإدارة الأميركية في واشنطن قادرون على مؤازرته في تحديه للعالم كله. لقد انحرف أكثر نحو اليمين المتطرف فأدخل في وزارته ليفي ايتام، زعيم الحزب القومي الديني العنصري المعادي للعرب وللتعايش معهم. وتبدو الولاياتالمتحدة، وهي تواجه هذه التطورات المشؤومة، وكأنها "نمر من ورق"، عاجزة عن فرض ارادتها على دولة صغيرة تابعة، لن يكتب لها أن تعيش طويلاً، من دون حمايتها ورعايتها. وفي ما يتعلق بصدام حسين، فقد فشل الرئيس بوش في أن يحصل على الدعم الدولي لإطاحة الزعيم العراقي. لقد واجه توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا - وهو دوماً على استعداد لمساندة سياسات الرئيس بوش العدوانية - ثورة عارمة من أعضاء حزب العمل الذين يجلسون في المقاعد الخلفية في مجلس العموم، ويبدو الآن أنه لم يعد وارداً أن يحصل بوش على دعم بريطاني فاعل في هجومه على العراق. وقد أوضح اعضاء آخرون في الاتحاد الأوروبي أنهم يعارضون المخططات الأميركية، كما يبدو أن تركيا بدورها ليست على استعداد للمشاركة في حملة بوش ضد صدام. لقد رحب الزعماء العرب، في القمة التي عقدت في بيروت الشهر الفائت، بعودة العراق إلى الصف العربي، وأعلنت البحرين أنها ستعين سفيراً لها في العراق، وأوضحت الدول العربية بكل صراحة للولايات المتحدة أنها لن تسمح لها بالقيام بهجوم على العراق انطلاقاً من قواعد عربية، وكانت قطر الصغيرة هي الدولة الوحيدة - على ما يبدو - التي خرجت على الاجماع العربي، إذ أبدت استعدادها لتقديم القاعدة الجوية في "العديد"، لتكون بديلاً من قاعدة الأمير سلطان في المملكة العربية السعودية. يحلو للرئيس بوش أن يقيم حكومة غير متشنجة موالية للولايات المتحدة في بغداد، كي يضمن سيطرته على احتياطات النفط الواسعة في العراق، بالإضافة إلى ظفره بعقود إعادة الإعمار، ولكن الولاياتالمتحدة عاجزة عن القيام بهذا العمل الصعب وحدها، في وجه رفض كل جيران العراق، ومعارضة حلفائها الأوروبيين. إن المشاعر المعادية للولايات المتحدة في المنطقة تزداد حدة واتساعاً وإقدامها على شن حرب ضد العراق من دون استفزاز ولا سبب سيشعل المنطقة بأكملها. سقوط "العقوبات الذكية" سيقدم إلى مجلس الأمن الشهر المقبل مشروع لاستبدال برنامج "النفط مقابل الغذاء" المعمول به حالياً، بنظام آخر يطلق عليه اسم "العقوبات الذكية"، والهدف من هذا المشروع هو تشديد العقوبات على واردات العراق من البضائع العسكرية أو التي لها علاقة بالتسلح عموماً، واسقاط العقوبات على الواردات العادية، بهدف الاستجابة لمطالب السكان المدنيين، غير أن المشروع حافل بالتناقضات الحادة، ولم تتوصل روسيا ولا الأعضاء الآخرون في مجلس الأمن إلى اتفاق جديد على قائمة البضائع الممنوعة ذات "الاستفادة المزدوجة" التي اقترحتها الولاياتالمتحدة، ولا يبدو، في الوقت الحاضر، ان الولاياتالمتحدة ستخفف من معارضتها لإبرام عقود عراقية مع شركات ودول متنوعة تقدر بملايين الدولارات، بالإضافة إلى أن جيران العراق لم يوافقوا على تشديد نظام العقوبات الذكية ولا على فرض مراقبة صارمة على الحدود المشتركة مع العراق. وإذا سمحت الحكومة العراقية بعودة المفتشين الدوليين عن التسلح، فإنها ستصر على تحديد زمن عملهم، وعلى حصولها على ضمانات أكيدة بأن العقوبات سترفع حال انتهائهم من عملهم. إن العراق مصمم، فوق كل شيء، على اغلاق حسابات العقود التي تحتكر الأممالمتحدة حق الاشراف عليها، كيما يستعيد حقه في الحصول على كامل ايراداته. ومعروف أنه لا يمكن انهاء الخلافات الحادة حول هذه المواضيع بسرعة، ولهذا فالمرجح أن يصار إلى تمديد العمل ببرنامج "النفط في مقابل الغذاء" وإلى استمرار التآكل التدريجي لنظام العقوبات كله. أصبحت الولاياتالمتحدة، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر مسكونة بهاجس "منع حصول الدول الشريرة المارقة على أسلحة التدمير الشامل" خشية أن تقع هذه الأسلحة بأيدي الارهابيين، ولكن هذا الهاجس يفتقر إلى الصدقية، لأن الولاياتالمتحدة قد ساعدت، وعلى مدى عشرات السنين، إسرائيل على تطوير أسلحتها النووية، كما تسامحت مع الهند وباكستان حينما لم تتوقفا عن تطوير أسلحتهما النووية. ثم ان الولاياتالمتحدة نفسها، تطور "جيلاً جديداً" من الأسلحة النووية، كما أنها مستمرة في تطوير صواريخها الدفاعية بهدف اضعاف مفعول الأسلحة النووية لدول أخرى قد تصبح دولاً "عدوة". في نية حكومة بوش صرف مبالغ خيالية تقدر ب2000 بليون دولار على شؤون الدفاع، في السنوات الخمس المقبلة، ويبدو أنها عازمة على أن تعمل بمفردها في ميدان السياسة الخارجية، دونما حاجة إلى حلفاء، وأن يكون من حقها اسقاط أنظمة معادية بالقوة. يدّعي الرئيس بوش بأن من حقه - طالما أنه يلاحق الإرهابيين - أن يتدخل في الشؤون الداخلية لدول ذات سيادة، بموافقة العالم أو من دون موافقته. هذه طموحات امبريالية صارخة، فيها الكثير من الشطط والمبالغة، ولا تشابهها مطامح أية دول أخرى في عالمنا حالياً. إنها طموحات تفوق طموحات الامبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر. غير أن هذه المطامح هي مطامح "نمر من ورق". * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.