هو يكتب ج م كوتزي ولا يكتب سيرته في "شباب" الصادرة عن دار سيكير اند ووربرغ. الكاتب الجنوب افريقي الذي نال جائزة بوكر البريطانية مرتين ورشح لجائزة نوبل ينفر من البوح ويكتب عن نفسه بعد "فتوة" بصيغة الغائب والمضارع. الانفصال عن ذاته سمح له ان يكون صريحاً وقاسياً: "انه كاذب وبارد القلب أيضاً، كاذب بعين العالم في شكل عام وبارد القلب تجاه أمه... عذره الوحيد انه بلا رحمة تجاه نفسه أيضاً". في "فتوة" تتكرر مشاعر الذنب والخزي والحرج والذل بين أب مدمن الكحول احتقره الكاتب وأم نفر من عبادتها وهو يخجل من نفسه. في "شباب" يهرب من الاثنين لأنه "يبرهن شيئاً، ان كل فرد جزيرة وانك لا تحتاج الى والدين". يهجس بالامتحانات والاجتهاد والخوف من الفشل وهو يعي ان ذلك سخيف وانه بارع في الامتحانات وحدها لا الحياة. كان حب الأم "قفصاً يهرب منه ويهرع اليه، منه واليه مثل قرد ضائع مسكين"، وفي شبابه بات سجين هواجس الحياة في لندن من فن وجنس وفشل أيضاً. شارك السرير نساء كثيرات لم يشعر نحوهن بحب أو حتى برغبة قوية اذعاناً لمتطلبات "المطهر الفني". وعندما حملت احداهن منه وأجهضت الطفل بدا ذلك عادياً يومذاك لكنه في "شباب" يستعيده وهو يحس بالعار من فشله الأخلاقي. في "العار" يتناول كوتزي جنوب أفريقيا الجديدة التي دفعته الى التفكير بالرحيل. البطل أستاذ جامعي متوسط العمر مثل الكاتب يطرد بعد رفضه الاعتذار عن علاقة مع طالبة في العشرين. يلجأ الى الريف الذي لا يقدم له العزاء والنقاء بل يضعه بقسوة في مواجهة التغيير في بلاده. تغتصب ابنته وتقرر الاحتفاظ بالطفل بدلاً من ان تجهضه وتدعي على مغتصبيها السود، كأنها تدفع ثمن اغتصاب البيض حقوق السود في الماضي، وتجد بطفلها الأبيض - الأسود مكاناً لها في مجتمع انتقلت السلطة الى السود. نال كوتزي جائزة بوكر عن "العار" التي يتخبط بطلها في صراعات أخلاقية وسياسية ويصر على المقاومة. لم يخطئ بعلاقته مع الطالبة، فلا شيء يدعو الى الخجل من رغباتنا الطبيعية وان كنا مسؤولين عنها. ولكن هل يفسّر بالطريقة نفسها سلوك مغتصبي ابنته السود، الآخرين الذين يهددون بطرده الا اذا رضخ ل"رغباتهم الطبيعية"؟ صراع الأضداد لا يقتصر على البشر المتقاتلين والرغبة والالتزام الأخلاقي بل يتعداه الى البشر والحيوانات. في "العار" يعمل الأستاذ الجامعي في عيادة للرفق بالحيوان تعجز عن الاهتمام بالكلاب الهرمة فتحقنهم بالمسكّنات قبل ان تحرقهم. يفكر انه ربما كان من الأفضل خصي الرجال أمثاله ويرى نفسه كلباً عجوزاً ينتظر القتل الرحيم. يكتب كوتزي عن قتام الحياة والداخل بغنائية بسيطة، ويتمنى اعادة النظر في تصدر العقل على الشعر في النقاش الفكري. يرفض الرقابة وكثيراً ما يستعمل نفيين لكي يشير الى سلطة المنع عند قول "لا". الرقيب ليس السلطة وحدها، فالذين يتحدثون عن اضرار الأعمال "الخلاعية" مثلاً يريدون اسكات الآخرين ويتحولون الى سلطة تقمع من دون ان يدروا انهم يمارسون دور الرقيب الذي يكرهونه. الشاطئ الآخر لم يبقَ الكثير من ألدوس هكسلي بعد موته في خريف 1963، لكن نيكولاس مري يرى في "ألدوس هسكلي: مفكر انكليزي" الصادر عن دار ليتل براون انه عاد يبرز بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانه سيكون بطل القرن الحادي والعشرين لا جورج اورويل. أشهر أعماله حمل عنواناً ساخراً: "عالم جديد شجاع" سيتناول سكانه حبوباً تمنحهم السعادة بدلاً من ان يتوصلوا الى المتعة الفكرية بقراءة شكسبير. اورويل كتب "1984" في بداية الحرب الباردة وأرسل نسخة الى هكسلي فكتب هذا لزميله انه استمتع بكتابه لكنه يعتقد ان الرؤية أصح في "عالم جديد شجاع". لن يكون المستقبل لمجتمع تسود فيه رقابة "الأخ الأكبر" وقمع الحريات بل لآخر يسيطر فيه الاعلان وغسل الدماغ الى درجة يحب الناس معها عبوديتهم. بطل الهيبيين اختبر المخدرات ليبلغ معرفة أخرى، وكتب عن تأثيرها في "أبواب الادراك" فاختارت فرقة "الأبواب" اسمها تأثراً به. كان يحتضر بعد اغتيال جون كينيدي بساعات ومنعه وصول السرطان الى عنقه من الكلام فكتب الى لورا، زوجته الثانية: "جربي ال.اس.دي مئة ميلليغرام في العضل". كانت كمية كبيرة لكنها تناولتها مرتين وهمست له: "انطلق خفيفاً وحراً يا حبيبي، انك تتجه نحو النور". كان شبه أعمى وحاول الابتسام ثم ساد الصمت بسرعة "فعرفت انه حطّ على الشاطئ الآخر". بحث هكسلي عن النرفانا في المخدرات وقصد الهيبيون منزله في لوس انجليس تحت لافتة "هوليوود" يطلبونها من زوجته، تنبأ بحبوب السعادة ومنع الحمل وأطفال الأنابيب وصناعة السياحة والاستهلاك الكبير في "عالم جديد شجاع" ولم يشعر انه روائي: "يبدو ذلك تزييفاً ضئيلاً". كان مثقفاً شاملاً على الطريقة الأوروبية القديمة، كان روائياً وصحافياً وكاتباً علمياً ومعلقاً اجتماعياً وفنياً. تشاءم ومال الى الوعظ وجمع المتناقضات: العقلانية والتمني، الليبرالية والانبهار بتحسين النسل ورفض التعليم المجاني. ولئن هاجم تأثير السينما "البربري" لم يترك المال الوافر من كتابة السيناريو طعماً مراً في فمه. اتفق مع زمنه في اللاسامية الصريحة والتذمر من عدد السكان: "99.5 من السكان أغبياء". قال ان معدل ذكاء الأميركيين انخفض في أوائل القرن العشرين، وشكا في تونس من "هؤلاء الشياطين في ارديتهم الوسخة المحلية... بعد خمسين سنة، يبدو لي ان هؤلاء الوحوش سيمسحون أوروبا عن وجه الأرض". أثار حنق الكتاب عندما أنقذ بذلاته ومخطوطة "جزيرة" وحدها من حريق بيته قبل موته عن تسعة وستين عاماً. أسفوا على ضياع أوراقه الشخصية ومراسلاته في حين حزنت لورا الايطالية على احتراق مسودة رسالة الى الملكة اليزابيث يعتذر فيها عن عدم قبول لقب "فارس". زوجته الأولى البلجيكية ماريا توفيت بالسرطان أيضاً. وتكشف السيرة الجديدة عن علاقة ثلاثية بين الكاتب وماريا وامرأة من جماعة بلومزبري الأدبية المتحررة التي انضم هكسلي اليها. كان خفراً غير عملي، يقول نيكولاس مري، وما كان ليستطيع الخيانة الا بمساعدة زوجته التي تحمست لفكرة مشاركته مع أخرى. في البدء "أحببت دائماً أن أحرق حياتي، ان اشرب واصاب بالذهول" قالت بطلة "أزرق الروح" لفرنسواز ساغان. الكاتبة الفرنسية التي مدحها فرنسوا مورياك بالقول انها "وحش صغير جذاب" عاشت فنها وتفوقت عليه وهي مهددة اليوم بالدمار. مصلحة الضرائب تطالبها بدفع ما يعادل نصف مليون جنيه استرليني بتهمة التهرب من دفعها، وكل ما تربحه من حقوق النشر يذهب مباشرة الى دائرة الضرائب. لكنها ليست وحدها في المعركة. أدباء وفنانون كثر تتزعمهم الممثلة ايزابيل ادجاني يريدون انقاذها من الذل ويطالبون بعفو رئاسي وقيام صندوق وطني يسمح للكاتبة البالغة سبعة وستين عاماً بمتابعة العمل بسلام. كان فيليب سولرز والكسندر جاردان وريجين ديفورج من الكتّاب الذين وقعوا عريضة ذكرت ان فرنسا أيضاً مدينة للكاتبة التي جلبت الامتياز لبلدها بفضل موهبتها. الحكومة تحركت بعد فضيحة "إلف أكيتان" وقول الشركة انها حوّلت مبلغاً ضخماً الى حساب سويسري للكاتبة في مقابل اقناعها صديقها الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران بمنح الشركة عقوداً نفطية في أوزبكستان. نفي ساغان لم يمنع وضع اليد على منزلها في النورماندي وبيعه في المزاد. ولم ينفع لجوؤها الى المغمغة عندما سألها مذيع تلفزيوني عن التفاصيل أو قولها انها لا تحب بتاتاً التعبير الجنسي الصريح في أدب نسائي فرنسي تتزعمه كاترين مييه. كانت في التاسعة عشرة عندما نشرت "مرحباً أيها الحزن" في 1954 وصدمت قراء الفرنسية بمبدأ اللذة والحياة الحلوة السهلة التي عاشتها مراهقة مع والدها المطلق. نالت جائزة النقاد ومديح الجميع وبدا ان العالم يدور تحت قدميها. لكن فتاة الأدب الأوروبي الذهبية لم تستطع الاضافة الى الروح الخفيفة والأسلوب الاقتصادي وعالم الأغنياء الذين يعيشون لحواسهم، فتراجعت مؤلفاتها الى المجلات النسائية واتهمت بتقليد نفسها كتاباً تلو الآخر. على ان الاهتمام انتقل الى حياتها الحافلة بالسهر والشرب والسيارات السريعة ثم الكوكايين بعد حادث سير جعلها تدمن المورفين. أدركت تشابه رواياتها فكتبت عن امرأة فقيرة في منطقة المناجم الشمالية، لكن ذلك لم ينقذها من النقد. لماذا ورّطت نفسها في ما لا تفهمه هي الثرية اللاهية التي ذهبت للمشاركة في تظاهرة طالبية في 1968 وهي تقود سيارة مازيراتي؟ افتقرت الى العمق والالتزام والمسؤولية ثم منحت فرصة لتعويم نفسها مع انتشار الرواية الجديدة وشوق القراء الى العقدة والشخصيات. حاول نقاد جادون انعاشها فقارنوها بالكاتب الأميركي سكوت فيتزجيرالد وتحدثوا عن "زوال الأوهام وحزن معين وسط خلفية من الشقاوة" في أدبها. لكنها لم تتغير أو تطمح الى التجديد وقالت انها لا تهتم به كأنها تغطي عجزها عن تحقيقه. بقيت تزود الاعلام حياة شخصية صاخبة أثارت الفضول دائماً وإن لم تكن مفاجئة. في أوائل عشريناتها تزوجت سنتين ناشراً يكبرها عشرين عاماً وأنجبت من زوج آخر كان نحاتاً أميركياً لكن الزواج الثاني لم يلائمها أيضاً. أقلعت عن الشرب بعد اصابتها بسرطان البنكرياس، وبقيت مخلصة للسيكارة والمقامرة والمخدرات. على انها تعبت من عجزها عن مقاومة الادمان وطلبت من وزارة الداخلية ان تمنعها من دخول الكازينوهات. بذّرت الثروات الصغيرة التي حققتها من رواياتها الأربعين، ومثل كثيرين من الذين يتجهون بأنفسهم نحو الهلاك قالت انه يحق لها ان تدمّر نفسها ما دامت لا تضر أحداً آخر. ربما كنا رأيناها أقل خفة لو استفادت من ثنائية العدمية والاقبال المغامر على الحياة في أدبها.