أجمل أيامه درس الطب وكتب مئات القصص والقطع الأدبية وسط ضجة أهل البيت وزوارهم وصوت الموسيقى والأحاديث، كان في التاسعة عشرة عندما بدأ يعيل والديه وأشقاءه الأربعة، فدعوه "بابا أنتوشا" واتكلوا عليه الى درجة رفض معها رؤية زوجة شقيقه الكسندر عندما كانت تحتضر أو السماح لأولاد الأخير بالعيش معه. حسّن وضع الأسرة لكنه أحس أنها تبتزه كما يفعل كثيرون في وضعه، وقارن بمرارة خلفيته الفقيرة بخلفية كبار أدباء روسيا الذين انتموا الى طبقة النبلاء مثل تولستوي وبوشكين وغوغول وتورغينيف ودوستويفسكي. كان جده عبداً لإقطاعي، ووالده تاجراً فاشلاً مثقلاً بالديون ضرب أبناءه وأجبرهم على حضور الصلوات الأرثوذكسية الطويلة في الكنيسة الباردة. صدر أخيراً "تشيكوف المجهول" عن دار دكوورث لبيتر كونستانتين الذي ترجم بعض أعمال انطون تشيكوف الباكرة الى الإنكليزية للمرة الأولى. قال المسرحي الروسي: "لا أحب المال ما يكفي لأكون طبيباً، ولا أملك الشغف الكافي، أي الموهبة، للأدب". دعا قصصه "فضلات أدبية" كتبت بنصف وعيه، لكن الأديب الألماني توماس مان قال أن تواضع تشيكوف أدى الى بخسه قيمته الأدبية في أوروبا. فالصورة التي نكونها عن أنفسنا تؤثر في نظرة الآخرين إلينا، قال مان، وتشيكوف بقي حتى آخر حياته يشك في مستواه ويسلك كأنه ليس من رجال الأدب الكبار. "أكتبي قدر استطاعتك، اكتبي، اكتبي، اكتبي حتى تنكسر أصابعك" قال تشيكوف لقريبة. ونصح شقيقه الكسندر، الذي كان كاتباً أيضاً، بأن يراقب ويجتهد ويعيد كتابة كل شيء خمس مرات لكي يكثف النص: "تذكر دائماً أن كل بيترسبرغ تتابع اعمال الأخوة تشيكوف". أعماله الأولى كشفت تجديداً وحساً بالمرح ومهدت لظهور كتاب اللامعقول الروس في عشرينات القرن الماضي والكاتب الروحاني الفرنسي اوجين ايونيسكو. بدأ سباقه مع الموت قبل ان يعرف ان حياته قصيرة. بعد تخرجه طبيباً بعام واحد بصق الدم، وتوفي بالسل في 1904 عن أربعة وأربعين عاماً وهو يشرب الشمبانيا. مارس مهنته وكتب بغزارة انتحارية، وقطع آلاف الكيلومترات في روسيا وسيبيريا شاهداً على الفقر الرهيب الذي جعل الحقائق أساس أدبه. "أدين للأدب بأجمل أيام حياتي" قال بعيداً من المرارة والشفقة على الذات. أخفى بصقه الدم عمن حوله، وعرف فترات من العجز والنزف الأليم، لكنه غازل النساء وإن لم يستسلم لهن بسهولة. بدا الحب أقل أهمية من الجنس، وتزوج الممثلة أولغا كنيبر قبل وفاته بثلاثة أعوام. لكن مشاغل كليهما فرقتهما كثيراً وأكدت طبعه كعازب أساساً. صاحب "ايفانوف" و"الشقيقات الثلاث" و"بستان الكرز" سُحِر بليو تولستوي، وشاركه آراءه بأسباب بؤس الفلاح الروسي وتحرره بالتعليم والعناية الصحية، لكنه لم يوافق الأديب الكونت في رفضه المسيحية وحصرها ببضع حكم ونصائح أخلاقية. في بدايته، نسخ تشيكوف قصص تولستوي وأعاد كتابتها ونقحها عله يتعلم شيئاً من الكاتب الذي كبره باثنين وثلاثين عاماً. تولستوي لم يبادله الإعجاب وقلّل من شأنه، وربما كان صراع الأجيال قال كلمته في غيرته من نجاح مواطنه المسرحي. نقل الى مدفنه في عربة لنقل المحار الطازج، وأثار منظر الحشد شجن المغني تشاليابين الذي قال دامعاً: "ومات من أجل هؤلاء السفاحين، عمل، علّم، ودافع عنهم"، تدافع كثيرون، ضاحكين، ليروا العربة جيداً، وتسلقوا الأشجار ودلوا بعضهم بعضاً على المشاهير بين المشيعين كأنهم في مشهد تشيكوفي خالص. الحفر بالقلم ولد في العام نفسه الذي شهد رحيل وليم بتلر ييتس كما لو كان الشعر الإيرلندي يستعد فوراً لملء الفراغ. عرف هذا صحوة مع تد هيوز ثم "صوت ايرلندا" بعد الجمود الثقافي الذي كبّل البلاد في الفترة الطويلة التي حكم ايمون دي فاليرا رئيساً ورئيساً للحكومة. في "ضوء كهربائي" الذي صدر أخيراً عن دار فابر يقدّم شيمص هيني أكثر مجموعاته أدباً بعدما كانت الحياة، ولا سيما منها تلك الريفية، بطلة شعره. يعود الى طفولته ويستحضر رفاق المدرسة والنساء والرجال الذين بقوا في الذاكرة، ويتذكر والده الفلاح الذي توفي بالسرطان وماري - آن التي غازلها أيام الجامعة ثم تزوجها. ظن أن الشعر الحديث "أبعد من منال أمثالي، كان هناك ت.س. اليوت وغيره" الى أن قرأ "لوبركال" وكانت لحظة انكشاف حرّر فيها المؤلف تد هيوز شيئاً في نفس قارئه. ثم يلتفت وراءه بعدها وبات ضمير ايرلندا الشمالية الممزقة بين الموالين لإنكلترا والمناضلين للاستقلال. عندما عرضت عليه الجنسية البريطانية شدد على ايرلنديته: "جواز سفري أخضر" لكنه علم في اكسفورد، الجامعة الإنكليزية العريقة، كأنه فصل بين ضرورات العيش والانتماء. نال جائزة ويتبريد البريطانية ثلاث مرات، وعندما منح جائزة نوبل في 1995 كان في جزيرة يونانية بعيداً من أسرته والإعلام. كان رشح مراراً لها وشاء الابتعاد في فترة إعلان الفائز بها لكي يخفي خيبته. أدرك منذ طفولته انه لن يكون فلاحاً يحفر بالمعول مثل جده ووالده. احترم براعة أبيه لكنه اختار اللغة وإن بقي يحس ان ما يفعله "ليس عملاً حقيقياً". على أن تفضيله القلم كان رفضاً للعنف في وطنه المضطرب الذي منحه مادة لشعره على الدوام: "بين اصبعي وإبهامي/ يرتاح القلم القصير الثخين/ وسأحفر به". ولئن دوّن حياة الريف الماضية بدا كأنه يثبّت طفولته مثل تشارلز ديكنز، إلا أن الحاضر الساخن قدّم السؤال المزمن: كيف يستطيع ان ينقل الحدث من دون ان يستهلك معه، وكيف يعالجه شعرياً حيث يبقى الشعر بعد ذهاب الحدث؟ حقق ذلك منذ مجموعته الثالثة "قضاء الشتاء خارجاً" ثم ديوانه الخامس "شمال" الذي يعتبر أساسياً في تاريخ الشعر الحديث. عندما ترجم "بيوولف" ونال جائزة ويتبريد العام الماضي أكد وضع الشاعر الملتبس الذي قد يحفر بجهد كبير من دون ان يعمل حقاً: "مثل تكسير حجارة من اجل المتعة". لكنه لا ينسى دور الشعر في مخاطبة الحساسيات الصعبة. يقول إن شعر ييتس "يفعل ما يفعله الشعر الضروري دائماً، إذ يلمس طبيعتنا المتعاطفة في الوقت الذي يتناول واقع العالم غير المتعاطف الذي تتعرض له طبيعتنا باستمرار". ويجد تعبيراً أسهل وأكثر جاذبية عن الشعر: "قرأت زوجتي أنه إذا كانت حياتك الجنسية جيدة فهذا يعني انها تحتل ثلاثة في المئة من وقتك، وإذا لم تكن جيدة تحتل سبعة وتسعين في المئة من الوقت. هناك تشابه مع الشعر". كاثوليكي جمهوري الميول، شجاع ونزيه مع انه كان مرناً ما يكفي ليتحمل جو الأبهة في اكسفورد. في خطاب القبول لجائزة نوبل تحدث عن صديق له حلو المعشر اعتقل للاشتباه في قتله ايرلندياً بروتستانتياً. "صدمت عندما فكرت انه حتى إذا كان مذنباً فإنه ربما كان يساهم في ولادة المستقبل بكسره أشكال القمع وإطلاقه طاقة جديدة بالطريقة الفاعلة الوحيدة، اي العنف، التي أصبحت بالنتيجة الطريقة الصحيحة". لكن تلك الفكرة عبرت سريعاً لتحل محلها اخرى أقوى منها بأن "المستقبل الذي نرغب" يكمن في لحظة حنان بين كاثوليكي وبروتستانتي يواجهان معاً خطر الموت. افريقية بيضاء السلطة التربوية في مقاطعة جنوب افريقية تشمل بريتوريا وجوهانسبرغ منعت كتاب "أناس جولي" لنادين غورديمر الذي صدر في 1981 بحجة أنه "عنصري بعمق وفوقي ومتعالٍ"... لكنها عادت وتراجعت عن قرارها بعد ايام من حملة استنكار واسعة. الكاتبة البيضاء عضو في حزب "الكونغرس الوطني الافريقي" الحاكم، ورفضت مغادرة بلادها في أسوأ الأوقات علماً أن زوجها ألماني وولداها يعيشان في اوروبا وأميركا. "أنا وطنية بشراسة ومخلصة لجنوب افريقيا، لكن الحق في النقد جزء من الولاء"، الحائزة نوبل في 1991 قالت إن منع كتابها "سخيف ومناف للمنطق". لكنها شددت على منعه في مقاطعة واحدة وليس على مستوى البلاد علماً أنه سبق للسلطات البيضاء منع ثلاثة كتب أخرى لها بحجة أنها "ليبرالية كثيراً". "أناس جولي" أحد أفضل أعمال غورديمر البالغة السابعة والسبعون، وهو يتناول عائلة بيضاء تلجأ الى خادمها الأسود السابق في جو مستقبلي تتطور فيه العلاقات المشحونة بين السود والبيض الى حرب أهلية شاملة. غورديمر عملت ضد العنصرية ونظام التمييز العنصري السابق ورأت أن ما يحدث اليوم يشبه تماماً ما حدث في الماضي عندما راقب "أفراد مجهولون لا وجوه لهم" الكتب وقرروا منعها أو السماح بتداولها. وصفها بالعنصرية إهانة لها، قالت، هي التي كافحت لترى السود في السلطة، لكنها ذكّرت بمعاناة السود الكبيرة ايام الاستعمار ونظام التمييز العنصري، وبما أبدوه من قدرة هائلة على التحمل ورغبة في التفاوض مع البيض. عاشت في بيئة بيضاء ووجدت ذلك طبيعياً أول الأمر. مدرسة الراهبات، صف الرقص، المكتبة العامة كانت كلها للبيض، وإذ تفكر بتأثير المكتبة في حياتها تقول إنها ما كانت لتصبح كاتبة لو ولدت سوداء. بعد منحها جائزة نوبل عادت الى بلدتها مع فريق تلفزيوني وزارت المكتبة لتجد ان السود ما زالوا ممنوعين من الدخول "وذلك بعد خمسة وخمسين عاماً". كانت والدتها تتشاجر مع والدها، صاحب الحانوت، على طريقة معاملته العامل الأسود، لكنها اعتقدت أنه يمكن إصلاح الأمر باللطف. "لم يخطر لها أبداً التساؤل عن صحة النظام الاجتماعي، أو الإدراك ان الأمر أكثر تعقيداً من إبداء اللطف". كتّاب وفنانون كثر هجروا جوهانسبرغ هرباً من العنف، وثمة من ينوي مغادرة البلاد مثل ج.م. كوتزي الحائز جائزة بوكر البريطانية مرتين. بقيت غورديمر تقول: "إذا لم أكن أفريقية بيضاء أنا لا شيء" لكن معنى الوطن والحياة يتغير وإن لم تقل هي ذلك.