إذا كنت امضيت عدداً كبيراً من سنوات عمرك تدرس الموسيقى وتغني الأوبرا خارج وطنك، وتحديداً خارج لغتك، ثم عدت الى الوطن على أمل ان تبدأ فيه مرحلة تالية من حياتك وعملك الفني، ما الذي قد يخطر في بالك اول الأمر؟ ما الذي ستغنيه إذا كان وطنك غير معتاد، بجمهوره العريض على الأقل، ارتياد حفلات الأوبرا، وعلى التفاعل مع الغناء الأوبرالي الذي هو، اصلاً، ثقافة قائمة في ذاتها؟ هل تغني "الريبرتوار" العالمي، مجازفاً بأن تغني لأقلية الأقلية؟ هل تختار نصوصاً بلغتك تضفي عليها اثواباً موسيقية صعبة لتحاول ان تقارب بين لغتك - العصيّة أصلاً على الأوبرا بمفهومها الغربي الإيطالي/ الألماني خاصة - وبين الموسيقى الأوبرالية الغربية؟ فإذا لم تكن هناك استجابة ترضيك هل تجلس لاعناً الحظ والتخلف؟ كانت هذه، كما يبدو، بعض من اسئلة راودت اللبنانية غادة غانم، منذ عودتها الى لبنان، بعد اقامة ما يزيد على العقد في الولاياتالمتحدة الأميركية. وكان البحث عن اجابات امراً شاقاً، منذ قررت في العام 1999 ان تقيم في لبنان وتبحث لنفسها عن مكانة فنية في بلد تحبه، ولا تتصور ان تعيش الى الأبد خارجه "على رغم كل شيء" كما تقول. غير ان غادة غانم سرعان ما وجدت طريقها. ولم يكن طريقاً جديداً عليها كل الجدة، كما تقول، بل كان موجوداً هنا في اعماقها وفي ذاكرتها. والنتيجة بدت واضحة في حفلة اقامتها الأسبوع الفائت في صالة الأونيسكو في بيروت، حيث أدت بصوتها الأوبرالي القوي والبديع، عدداً من اجمل وأقوى اغاني التراث الموسيقي العربي، كما ازدهر خلال القرن العشرين. وأمام اكثر من ألف شخص جلسوا ليستمعوا مبهورين مصفقين - ولكن غير مشاركين بشكل حقيقي للأسف - غنت غادة غانم، اغنيات لمحمد عبدالوهاب وليلى مراد وأسمهان وفيروز، اضافة الى بعض الموشحات "لكنني لم أحقق امنية امي بأن أغني شيئاً من ام كلثوم" تقول غادة مبتسمة. لماذا؟ هل لأن أداء ام كلثوم اصعب؟ أو لأنك لا تحبين اغنياتها؟ بالعكس، تضيف: "ان اختيار اغان كلثومية وأداءها اسهل من اختيار اغان لليلى مراد أو أسمهان... أو أسهل طبعاً من غناء "النهر الخالد" لمحمد عبدالوهاب. وأنا، كذلك، من عشاق ام كلثوم، لكنني أعتقد انها حالة خاصة، حالة طربية خاصة، ولا يمكن لأغنياتها ان تنضوي ضمن برنامج، توخيت منه ان يبتعد قدر الإمكان عن الطرب". الطرب وما بعده واضح ان غادة غانم ليست ضد الطرب، فهناك لحظات خلال الحفلة، وبخاصة مع اسلوب أدائها ل"رجعت ليالي زمان" للأخوين رحباني، و"النهر الخالد" لمحمد عبدالوهاب، و"أهو ده اللي صار" لسيد درويش، وصلت خلالها الى ذروة تطريبية أرغمت الجمهور على الدخول فيها منتشياً. غير ان ما كان يهمها هنا هو البرهنة على ان في الغناء، كما في التلحين العربي، ما يتجاوب تماماً مع القواعد الأوبرالية. وهي لم تعبر عن هذا فقط، في الأجواء الأوبرالية الخالصة في اغنيات مثل "أنا قلبي دليلي" و"ليالي الأنس في فيينا" الملحنون انفسهم صاغوا جملاً أوبرالية تستفيد من امكانات اسمهان وليلى مراد كسوبرانو بالنسبة الى الأولى وميتزو-سوبرانو بالنسبة الى الثانية، بل حتى من خلال أدائها المتميز لأغنيات ليست ذات أصول أوبرالية مثل "البوسطجية اشتكوا" و"حيرانه ليه". وبالنسبة الى اغنيات من هذا النوع يمكن ملاحظة ان ما اكتسبته غادة غانم، من خلال اضافاتها، خسرته من خلال عدم قدرتها الجسدية على التجاوب مع الدلال الكامن في اداء مثل هذه الأغاني. في لحظات مثل هذه بدت غادة آتية من عالم الأوراتوريو، ما يتناقض تماماً مع مضمون الأغاني. وفي يقيننا انها لو اشتغلت كوريغرافياً، بما يكفي لمزج الحركة الجسدية بالحركة الصوتية، لكانت اقتربت اكثر من المستوى الذي كانت، أصلاً، تتوخاه. غير ان هذه الملاحظة الشكلية؟! لا تقلل من قيمة اختيارات غادة غانم، التي تتذكر الآن، انها حين بدأت دراستها الأوبرا جدياً في تكساس في الولاياتالمتحدة، بعد ان غادرت لبنان مراهقة، كانت بالكاد تعرف شيئاً عن الموسيقى العربية وتراثها. "كنت بالطبع، منذ الصغر، أعرف اغاني فيروز وأم كلثوم وغيرهما... لكن معلوماتي كانت قاصرة عن ان تدرك مقدار الثراء في تراث عربي - شرقي من المؤسف اننا بالكاد نعرف عنه شيئاً، لا سيما خلال العقود الأخيرة حيث طغت السهولة على اغنياتنا وتحول الغناء الى مجرد رقص تلفزيوني". وإذ تقول هذا تروي غادة كيف انها، بعد انتهائها من دراسة الأوبرا في جامعة هيوستن، وبعدما شاركت في الكثير من الحفلات، حدث لها، لأسباب شخصية، ان انتقلت الى نيويورك، التي وصلت إليها وحيدة لا تعرف فيها احداً "في يدي حقيبة ملابس متواضعة وفي جيبي 500 دولار هي ثمن سيارتي العتيقة التي بعتها". ولم تكن تعرف ما الذي تريد ان تفعله هناك. أو هي لا تتذكر هذا على الأقل اليوم. في نيويورك حدث لها، كما تقول، ما اعتاد ان يحدث لها دائماً في حياتها، التقت بما يشبه الصدفة بأناس احدثوا تغييراً في تلك الحياة. "التغيير في نيويورك اتى على يد موسيقي فلسطيني يعيش ويعمل هناك منذ 17 سنة، هو سيمون شاهين الذي لتبحّره في تراث الغناء العربي، ما كان ليصدق انني عربية ولا أعرف شيئاً عن سيد درويش وليلى مراد والموشحات وما الى ذلك". وهكذا راحت الفتاة الآتية من الحرب ومن ضاحية فرن الشباك البيروتية، تغوص في التراث اكثر وأكثر. وبالتوازي مع عمل اعلامي عثرت عليه "صدفة ايضاً" كما تؤكد، في منظمة الأممالمتحدة راحت تسير حياتها الموسيقية على خطين: تابعت الغناء الأوبرالي، بعد تعلمها الروسية والألمانية، اضافة الى الفرنسية والإنكليزية ومعرفتها بالإيطالية، من ناحية، ومن الناحية الثانية راحت تشارك في حفلات موسيقى وغناء شرقي يقيمها سيمون شاهين ورفاقه للجاليات العربية وللأميركيين من محبي التراث العربي. فهل احدث هذا انفصاماً في مسارك؟ - "ابداً، تجيب غادة غانم، احسست فجأة ان كلاً من التراثين يغني الآخر. وكذلك احسست ان الدراسة العلمية للموسيقى وللغناء العربيين ستكون قادرة على إخراج بعض هذا التراث من المتاحف الى الحياة". الكشف عن التراث غير انها مع هذا، لم تقرر إحداث تبديل جذري في حياتها، أول الأمر، بل كانت تعتبر ان أداءها للغناء العربي، موقت، ومن هنا نادراً ما حدث لها ان لجأت الى الأساليب الأوبرالية. "هذا جاء لاحقاً... وتحديداً في بيروت، حين سألت نفسي: لماذا لا أمزج اخيراً بين العالمين". وبسرعة اكتشفت ان العدد الأكبر من الألحان العربية لا سيما منها الذي وضع خلال العصر النهضوي، منذ سيد درويش ومحمد القصبجي حتى بليغ حمدي، لا يبتعد كثيراً عن ارقى الألحان الأوبرالية. وهكذا لم نكتف بألحان مدحت عاصم والقصبجي وداود حسني التي تقترب اصلاً من عالم الأوبرا، لانتمائها الى مسرح غنائي كان رائجاً في مصر في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، بل تجاوزت هذا الى اختيارات، تبدو ظاهرياً، أقل صعوبة: منير مراد ومحمد عبدالوهاب، والأخوين رحباني. فهل تعتبر غادة انها نجحت وأن حفلة الأونيسكو الأخيرة ستطبع حياتها؟ "الى حد ما نعم. لكن ما يسوؤني هو انني ما زلت حتى الآن اغني للآخرين"، وتقول غادة هذا ثم تستدرك مشيرة الى ان تجربتها الخاصة بها الوحيدة التي قامت بها حتى الآن، لم ترضها، بل أرجعتها بعض الشيء الى الوراء، وهذه التجربة تتعلق بأوبرا لبنانية شاركت فيها ومولتها حال وصولها الى لبنان وعنوانها "أورنينا". صحيح ان هذا العمل التاريخي "والذي بذلنا فيه جهوداً واضحة انا والموسيقي الشاب وجدي شيا وبقية العاملين" حقق نجاحاً ما، وعرض في مهرجانات بابل العراقية ومهرجانات معرض دمشق السورية "غير انني لم احس ابداً بأنه ينتمي إلي". وعلى العكس من هذا تشعر غادة غانم، التي شاركت في مسابقة تشايكوفسكي في موسكو وغنت في اليابان وكندا ونيويورك سيتي وهيوستون، ونالت الكثير من الجوائز، انها مرتبطة اكثر بأسطوانة اخرى مدمجة أصدرتها في الولاياتالمتحدة، اضافة الى تلك التي تضمن "اورنينا" بعنوان "تعال مستعداً وانظر إلي". ففي هذه الاسطوانة جربت غادة كل انواع الغناء الأوبرالي الذي تتقنه، على ألحان تتراوح بين داود حسني وتشايكوفسكي، ورمسكي كورساكوف ورخمانينوف والتوشيح الأندلسي القديم، وأدركت ان هذا هو طريقها: ان تنهل من تراث الإنسانية الغنائي، من دون تعصب. وهي لئن كانت اختارت لاحقاً أن تقصر ما قدمته في الحلقة الأخيرة على الغناء العربي، فإنما توخت من هذا، من ناحية ان تقيم علاقة معاصرة بينها وبين جمهور عريض اعتادت اذنه ووجدانه اغنيات تراثه، ومن ناحية ثانية ان تسهم في الكشف عما يختزنه تراثنا من روائع. صحيح في هذا السياق، ان غادة غانم لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة. غير ان الذين استمعوا إليها تغني بأسلوبها العصري وصوتها القوي لا سيما في الطبقات العليا وأحياناً في جواب الجواب أدركوا ان ثمة بين غادة غانم والآخرين فارقاً اساسياً: هؤلاء، حين يغنون هذا التراث، ينقلون جمهورهم الى العصر الذهبي، اما غادة غانم فإنها فعلت ما هو افضل: جاءت بعصر الذهب نفسه الى هذا الجمهور.