تناولت الحلقة الأولى مقدمات الحروب اللبنانية والأزمات التي عصفت بالبلاد على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بدءاً من العام 1970 الذي تصادف مع معارك ايلول سبتمبر في الأردن وخروج المقاومة الفلسطينية الى لبنان. وهنا الحلقة الثانية للأكاديمي اللبناني فريد الخازن. بعد الانتخابات النيابية في العام 1972 شكّل صائب سلام في 27 أيار مايو حكومة جديدة من 16 وزيراً اختلفت عن سابقتها، وزارة الشباب، بأن ضمّت سياسيّين راسخي المواقع وعكست بتشكيلتها الأكثرية النيابية في المجلس الجديد، علماً أنها لم تضم كمال جنبلاط الذي ساد التوتر علاقته بصائب سلام قبل تشكيل الحكومة وبعده. عمّرت حكومة سلام الثانية في عهد فرنجية حوالى السنة إلى أن استقال رئيسها إثر الغارة الإسرائيلية على بيروت في نيسان ابريل 1973. الغارة الإسرائيلية على بيروت وآثارها وقعت غارة الكوماندوس الإسرائيلي على قلب بيروت في 10 نيسان وقعاً صاعقاً على كل المستويات، فأودت بحياة اثنين من كبار قادة فتح النافذين هما محمد يوسف النجار أبو يوسف وكمال عدوان، كما قتل فيها الناطق الرسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية الشاعر كمال ناصر. أبو يوسف النجار كان على علاقة بمنظمة أيلول الأسود وكان رئيس "اللجنة العليا للاّجئين الفلسطينيين في لبنان"، أما كمال عدوان فكان مسؤولاً عن عمليات فتح في الأراضي المحتلة. استغرقت الغارة الإسرائيلية نحو 40 دقيقة وكانت من أدق عمليات الكوماندوس التي نفذتها إسرائيل خارج أرضها. ثمة روايتان حول كيفية حصول العملية الإسرائيلية تلتقيان على أن وحدة الكوماندوس الإسرائيلية حملها زورق حربي ونزلت على شاطئ بيروت وأنّ أفرادها انطلقوا من منطقة الرملة البيضاء على شاطئ الأوزاعي. لكنّ الروايتين تختلفان حول موقع نزول وحدة الكوماندوس، ففي حين تورد إحداهما أن أفراد الوحدة نزلوا في الموقع الذي عادوا وأبحروا منه بالذات وهو الرملة البيضاء على شاطئ الأوزاعي، تقول الرواية الثانية إن مجموعة الكوماندوس نزلت في منطقة الدورة شمال بيروت ثم عادت وغادرت من الرملة البيضاء جنوب العاصمة. والحقيقة أن هناك أهدافاً ضربت في الدورة بما فيها مصنع ذخيرة يملكه أرمني كانت له صلات بحركة فتح، في هذه الأثناء قصفت القوات الإسرائيلية مناطق ساحلية قرب مدينة صيدا لصرف الانتباه عن العملية في بيروت. كان في انتظار وحدة الكوماندوس التي نزلت في بيروت أربعة عملاء أجانب وصلوا إلى بيروت قبل العملية بأسبوع للتخطيط لها، وأقاموا في فنادق مختلفة في العاصمة، وتبيّن من وثائق سفرهم أنهم من الرعايا الأوروبيين بريطانيا وسويسرا وبلجيكا. أحد هؤلاء الأربعة غادر إلى روما قبل العملية بيومين أو ثلاثة ثم عاد إلى بيروت في اليوم التالي. أما مهمة العملاء الأربعة فكانت إعداد خطة التحرك على الأرض ثم نقل أفراد الوحدة بالسيارات إلى المواقع المستهدفة. استخدم العملاء أربع سيارات استأجروها من وكالتين لتأجير السيارات في بيروت، وأوصلوا أفراد الكوماندوس إلى موقعين اثنين، واحد في مخيم صبرا والثاني في شارع فردان حيث نفذوا مهماتهم ثم عادوا بهم إلى الرملة البيضاء وغادروا معهم تاركين سياراتهم على الشاطئ. عندما أحيطت السلطات العسكرية اللبنانية علماً بأن صدامات تقع في منطقة فردان افترضوا أن هناك اشتباكاً بين الفصائل الفلسطينية نفسها، ذلك أن صداماً كان وقع قبل ثلاثة أيام في مخيّم الضبية بين الصاعقة وفتح قتل فيه عنصر من فتح. وحين أرسلت قوى الأمن اللبنانية الفرقة 16 إلى موقع الحادث اصطدم أفرادها بالمسلحين الذين كانوا موجودين هناك فقتل شرطي لبناني وجرح ستة بينهم ضابط. بعد ثلاثة أيام احتشد في جنازة القادة آلاف المشيعين وتحولت إلى استعراض كبير لإظهار الدعم لمنظمة التحرير، وشارك فيها كبار القادة اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، بمن فيهم بيار الجميّل وريمون إدّه. ليس غريباً أن تطرح تساؤلات كثيرة حول هذه العملية وتبقى من دون أجوبة شافية. لماذا، مثلاً، استهدف هؤلاء القادة الثلاثة بالذات دون سواهم من القادة الفلسطينيين الأكثر بروزاً على المسرح السياسيّ، والذين لا يقلون تورطاً في مهاجمة الأهداف الإسرائيلية؟ هل لأن الوصول إليهم كان أسهل نسبياً من الوصول إلى سواهم؟ لماذا تتصدى إسرائيل لعملية كهذه في قلب بيروت، ما دام بإمكانها أن تطاول القادة الفلسطينيين في أي مكان آخر وهم كانوا في متناولها؟ من كان المستفيد الأكبر من هذه العملية المرسومة والمنفذة بمنتهى الدقة، وهل بالإمكان تفسير توقيتها؟ ما من أجوبة حاسمة عن هذه التساؤلات، لكن لعلّنا بتحليل تأثير هذه العملية في السياسة اللبنانية الداخلية وفي العلاقات اللبنانيةالفلسطينية، نخرج ببعض الاستنتاجات. إذا كان هدف إسرائيل من هذا الهجوم زعزعة الاستقرار في لبنان وتأجيج النزاع بين السلطة اللبنانيةوالفلسطينيين وخلق الشقاق بين الفلسطينيين أنفسهم، تكون إسرائيل أصابت هدفها بنجاح. فبالنسبة إلى الحكومة اللبنانية أقل ما يقال حول الغارة على قلب العاصمة إنها كانت مصدر حرج يكاد يكون معيباً. فحين علمت سلطات الأمن اللبنانية أن ما حدث كان هجوماً إسرائيلياً كانت القوة غادرت بسلام، إذ إن دقة تنفيذ العملية في 20 إلى 40 دقيقة لم تترك أية فسحة ممكنة لشن عملية مضادة، فكيف بمحاولة إنقاذ القادة الفلسطينيين الساكنين في أبنية متجاورة من دون أية إجراءات أمنية كافية. خلافاً للغارة الإسرائيلية على مطار بيروت في العام 1968 التي استهدفت المصالح اللبنانية، استهدفت هذه الغارة منظمة التحرير التي خضّها الهجوم بعنف، لكن مع ذلك فالذي عانى وطأة العملية الإسرائيلية هو لبنان، ذلك أن الهدف هذه المرة لم يكن المدنيين في القرى الجنوبية، وإنما عاصمة البلاد. النتيجة الأولى والفورية للعملية كانت الخلاف العلني بين الرئيسين فرنجية وسلام، فبالنسبة إلى الأخير كان لا بد من أن يتحمل شخص ما مسؤولية نقص الإجراءات الأمنية السليمة في هذه الحال، وسارع سلام إلى الدعوة إلى إقالة قائد الجيش العماد اسكندر غانم. لكن فرنجية رفض إقالة غانم قبل إجراء تحقيق يحدد المسؤوليات، خصوصاً أن الغارة لم تكن مواجهة عسكرية عادية وإنما عملية شديدة الدقة والتعقيد نفذت خلال دقائق. هنا أصبح المشهد هكذا: فرنجية يرى أن جعل شخص معين كبش محرقة أمر مسيء ولا يخدم غرضاً، أما سلام فرأى في استقالة قائد الجيش ضرورة حتمية. هذا التناقض في الموقفين، الذي تناولته الصحف بالتعليق، زاد العلاقة بينهما توتراً عما كانت عليه من قبل وأدى بالنتيجة إلى الطلاق السياسي بين الرجلين. قدّم صائب سلام استقالته مسجّلاً فيها موقفه المعلّل، أما فرنجية فدعا أمين الحافظ بعد بضعة أيام لتشكيل حكومة جديدة. حكومة أمين الحافظ لم يكن أمين الحافظ من نادي رؤساء الحكومات، وواجه معارضة شديدة من جانب القيادات الإسلامية السنيّة طوال الأسابيع التسعة التي قضاها رئيساً للحكومة. ومع أن الحافظ كان على علاقة جيدة مع قادة حركة فتح ويتمتع بدعم كمال جنبلاط، وقد شكل الحكومة وحاول تحسين العلاقة مع القيادة الفلسطينية، غير أنه فشل في تأمين الدعم السني لحكومته. وكان رئيس الحكومة السابق رشيد كرامي أشد معارضي الحافظ، علماً أن الأخير خاض الانتخابات النيابية على لائحة كرامي في طرابلس. أمام هذه المعارضة السنيّة التي تحولت إلى مقاطعة اضطر أمين الحافظ، الذي لم يكن زعيماً صاحب قاعدة شعبية خاصة به، إلى الاستقالة. كما في أزمة العام 1969، كان لأزمة 1973 تأثيرها المتمادي في السياسة اللبنانية، وفتحت على البلاد مصادر زعزعة الاستقرار من جهات متعددة حاولت كل منها، داخلية وخارجية، استغلال غارة الكوماندوس الإسرائيلي لمصلحتها. وإضافة إلى النزاعات السياسية المألوفة بين الفلسطينيينواللبنانيين برز في أزمة 1973 بعدان جديدان: خلافات وتنافس فلسطيني داخلي وضع حركة فتح في مواجهة المنظمات الراديكالية، والتدخل السوري العسكري والسياسي المتزايد في السياسة اللبنانية. سبق العملية الإسرائيلية اشتداد المواجهات بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية خصوصاً بعد تشرين الأول أكتوبر 1972، وفيما خف التوتر في مطلع 1973 عاد إلى التصعيد بعد تعرّض مواقع الجيش في الجنوب في 31 آذار مارس لهجوم قُتل فيه جنديان وجرح ثالث. وفي 14 نيسان، بعد يوم واحد من جنازة القادة الفلسطينيين الثلاثة، فجّرت عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خزانات النفط في مصفاة الزهراني قرب صيدا، ولم تمض بضعة أيام حتى اعتقل في 27 نيسان ثلاثة عناصر من حركة فتح يحملون متفجرات في مطار بيروت، تبع ذلك في اليوم التالي إلقاء متفجرة على مقر إقامة السفير الأردني تسببت بأضرار مادية. وفي 29 نيسان اكتشفت قوى الأمن متفجرة في المطار بعد أن اتصل بها مجهول وطالب بإطلاق سراح الفلسطينيين اللذين اعتقلا قبل يومين. وفي اليوم التالي أوقف أربعة عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة كانوا يحملون متفجرات قرب السفارة الأميركية، كما أوقف عنصران من الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين التابعة لنايف حواتمه يحملان متفجرات في منطقة المزرعة في بيروت. أما الحادث النوعيّ الذي صبّ زيتاً على نار التوتر فكان اختطاف ثلاثة جنود لبنانيين على أيدي عناصر من الجبهة الديموقراطية، وهو الاستفزاز الذي لم يكن الجيش ليتحمّل وطأته. اتخذت وحدات من الجيش مواقعها حول المخيّمات الفلسطينية الرئيسة في ضواحي بيروت وأوقفت عدداً من العناصر الفلسطينية، خصوصاً من منظمات حواتمه وجبريل وحبش. وفيما كانت المفاوضات جارية لتأمين إطلاق الجنود الثلاثة، كانت عناصر الجبهة الديموقراطية تطلق النار على وحدات الجيش المتمركزة في مواقع متعددة من المدينة بما فيها المطار، ولكنّ الجيش بقي يمارس ضبط النفس طوال أربعة أيام بعد عملية الاختطاف ومن بعدها تحرك. اندلع قتال واسع النطاق بين الجيش والقوات الفلسطينية وسادت حال حرب حقيقية في البلد عمت فيها المواجهات معظم المناطق في بيروت وضواحيها، وكانت أسوأ ما شهد لبنان من اصطدامات منذ 1969 واستخدمت فيها الأسلحة الثقيلة حتى بلغت المواجهة ذروتها عندما استخدم الجيش سلاح الطيران ضد المواقع العسكرية في صبرا وشاتيلا. لكنّ الهجمات الجوية سرعان ما أوقفت نتيجة الضغوط التي مورست على الرئيس فرنجية من جانب سورية والدول العربية الأخرى. وعلى رغم تصرّف فرنجية الحاسم، ورفضه "السماح بوجود جيش احتلال في لبنان"، اضطرّ إلى وقف العملية العسكرية عند ذلك الحدّ. بعد يومين من القتال كان عدد الضحايا مرتفعاً لدى الجهتين، فقد خسر الجيش 12 عنصراً وأصيب 40 بجروح مختلفة بينهم ثلاثة ضباط، أما الفلسطينيون فسقط لهم 19 قتيلاً وجرح 98. كان موقف الرئيس فرنجية واضحاً لا لبس فيه: لبنان مستعد للتعامل مع الفلسطينيين تماماً كما تعاملت معهم الحكومات العربية الأخرى، وهذا يعني أن لبنان لم يكن مستعداً لتحمّل تجاوزات المنظمات الفلسطينية في حين كانت الأنظمة العربية ترفض السماح لها، ليس فقط بإقامة تنظيمات عسكرية، بل حتى بأن يكون لها وجود سياسيّ فاعل ومستقل. بيار الجميّل وكميل شمعون دعما موقف فرنجية، أما القادة الفلسطينيون فندّدوا بالسلطة اللبنانية واتّهموا الرئيس فرنجية. ففي حين أن الجيش اتخذ موقف الهجوم وكان متفوقاً عسكرياً على القوات الفلسطينية، لم يتمكن من إكمال مهمته على رغم أنه كان قادراً عسكرياً على دخول مخيّمي صبرا وشاتيلا، فقد كان دخول المخيّمين شيئاً والسيطرة على العناصر المسلّحة في كل أنحاء البلد شيئاً آخر. وعلى جاري العادة، لم يكن ممكناً القيام بأي عمل عسكري إذا لم يكن مدعوماً في شكل واضح ومعلن من القيادات الإسلامية وخصوصاً من رئيس الحكومة، وبغياب هذا الدعم كان فرنجية والجيش على حد سواء غير قادرين على الإتيان بأيّ عمل. وبالفعل أيدت القيادات السنيّة الموقف الفلسطيني ودان معظمها الحكومة اللبنانية واتّهم الجيش بالاعتداء على الفلسطينيين. وحين طلب فرنجية وساطة المفتي الشيخ حسن خالد من طريق تقي الدين الصلح للإفراج عن الجنود الثلاثة، كان ردّ فعل المفتي أن المقاومة الفلسطينية هي جيش المسلمين. أما اليسار بقيادة كمال جنبلاط فكان دعمه للمنظمات الفلسطينية دعماً غير مشروط، وتمّ توقيف ثلاث سيارات عائدة إلى نواب كتلته، زاهر الخطيب وفريد جبران وفؤاد طحيني، كانت تقوم بتهريب الأسلحة إلى الفدائيين وحلفائهم اللبنانيين، وكان النائب زاهر الخطيب في سيارته عندما تم توقيفها وبرفقته رئيس فرع حزب البعث السوري في منطقة الشوف. اتفاق ملكارت وسط تصاعد القتال وصل إلى بيروت أمين عام جامعة الدول العربية محمود رياض محاولاً التوسط بين الأفرقاء. وفيما هو يبذل الجهود لتعديل الموقف السوري كانت دول عربية أخرى مثل العراق وليبيا تحاول الافادة من ظروف الأزمة، ولم يتردد الزعيم الليبيّ، مثلاً، في دعوة القوات الفلسطينية إلى احتلال مطار بيروت. كانت مهمة محمود رياض عام 1973 تنطوي على أهمية خاصة، ذلك أنه هو بالذات، يوم كان وزيراً للخارجية في مصر، شارك في المحادثات التي أدت إلى توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969. في الثلاثين من أيار 1973 اجتمع رياض في السفارة المصرية في بيروت إلى ثلاثة من القادة الفلسطينيين هم توفيق الصفدي وصلاح صلاح وياسر عبد ربه وضابطان لبنانيان هما أحمد الحاج وديب كمال. افتتح رياض الاجتماع بعرض عام للوضع العربي المتردّي في مواجهة إسرائيل في شكل لم يشهده العرب منذ العام 1948، ثم قال "إذا كان العرب لم يتمكنوا يوماً من ردع إسرائيل عن احتلال الأرض العربية، فعلينا على الأقل ألاّ نعطي إسرائيل الذريعة لاحتلال المزيد من الأرض والموارد العربية، كمياه لبنان وضفة نهر الأردنالشرقية". إن ما نحتاج اليه الآن، تابع رياض، هو "تعبئة طاقاتنا ورصّ صفوفنا لنتمكّن من مواجهة العدو". ثم أضاف قائلاً "القضية الفلسطينية لا يمكن أن تحل في بيروت، وما من حلّ إلاّ ويحتاج الى سنين عدة من الجهد والعمل الدؤوب، وعليه فإنّ النزاعات العربية... ستذهب بجهودنا هدراً وستعطي إسرائيل الدليل على عدم قدرتنا على التعايش مع اليهود". بهذه الكلمات أراد محمود رياض أن يمهّد لاستعادة مقاطع من اتفاق القاهرة من زاوية فهمه هو للاتفاق في ضوء تطبيقه منذ العام 1969. ألقى محمود رياض اللوم على الفلسطينيين بسبب انتهاكهم اتفاق القاهرة وعدم التزامهم القرار العربيّ بتجميد العمليات العسكرية. كذلك قدّم تفسيراً لاتفاق القاهرة يقول إن على الفلسطينيين الانضمام إلى المعركة ضد إسرائيل ولكن إلى جانب الدول العربية الأخرى عندما تخوض هذه الدول الحرب ضدها، كما كانت الحال في نهاية الستينات. وبما أنّ الجبهات العربية كانت هادئة في العام 1973 فقد وجب على كل الأفرقاء أن يمارسوا ضبط النفس. كذلك أشار رياض إلى أن المنظمات الفلسطينية أعطيت التسهيلات في لبنان في العام 1969 لتقوم بعمليات عسكرية ضد إسرائيل وليس في داخل لبنان الذي يجب احترام سيادته وسلامة شعبه وأراضيه. هذا العرض الواضح للأمين العام لجامعة الدول العربية عكس أيضاً الموقف المصريّ من الأحداث الجارية في لبنان. فمصر طالبت الجميع بالاعتدال والواقعية في مرحلة كان الرئيس أنور السادات يعدّ لحرب 1973 التي اندلعت بعد كلام محمود رياض بأربعة أشهر. كانت القاهرة يومها بحاجة إلى رص الصف العربيّ لا إلى المواقف المتطرفة واللامسؤولة. فكل ما تستطيعه مصر في الظروف التي كانت سائدة في 1973، كما قال رياض، هو الحفاظ على صمودها. كان لموقف محمود رياض وتفسيره للتطوّرات منذ 1969 أثر إيجابي ساعد في تليين الموقف الفلسطيني، وجاء هذا الموقف على غير ما كان يشتهي القادة الفلسطينيون الذين كانوا يتمنّون الحصول على الدعم الذي نالوه نهاية الستينات. هدأت المواجهات وشكلت لجنة عسكرية لفرض وقف إطلاق النار، ثم عقدت سلسلة اجتماعات في فندق ملكارت في بيروت في 15 و16 و17 أيار بين وفد فلسطيني وممثلين للجيش اللبناني. ضمّ الوفد الفلسطيني ممثلي ثلاث منظمات: أبو الزعيم ممثلاً فتح، أبو عدنان ممثلاً الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، وصلاح صلاح ممثلاً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أما الوفد العسكري اللبناني فضم العميد أحمد الحاج والعقيد نزيه راشد والمقدم ديب كمال حضر العقيد سليم مغبغب مكان العقيد راشد في الاجتماع الأول. اتفاق 17 أيار 1973 في فندق ملكارت أعاد تأكيد اتفاق القاهرة وأضاف إليه بعض البنود العسكرية. وقد عُهد بمراقبة الاتفاق الجديد وتنفيذه إلى "لجنة تنسيق عليا" شكلت من ممثلين عن الجيش والمنظمات. بنود الاتفاق خلافاً لاتفاق القاهرة الذي كانت نصوصه عامة طاولت الوجود الفلسطيني العسكري والمدني في لبنان، جاء اتفاق ملكارت شاملاً ومفصلاً، وتطرق إلى مختلف نواحي الوجود الفلسطيني المسلّح داخل المخيّمات وخارجها. أما مضمونه فانعكس في عناوينه العشرة: 1- الوجود العسكري في المخيّمات وفي المناطق الحدودية. 2- تنقل القيادات المدنية والعسكرية في كل أنحاء البلد. 3- التدريب العسكري. 4- العمليات العسكرية. 5- قواعد القيادات. 6- المعلومات. 7- مراقبة المخالفات والإساءات. 8- الغرباء. 9- التنسيق. 10- تمنيات الجانب الفلسطيني. كان أهم ما جاء في اتفاق ملكارت من البنود ما يأتي: أولاً، لا يسمح لقوات الكوماندوس الفلسطيني بدخول المخيّمات، ويعهد بأمن المخيّمات إلى عناصر من الميليشيا تقيم في المخيّم ولا تكون من عناصر قوات المقاومة، كما يكون لقوى الأمن الداخلي مركز بالقرب من كل مخيّم ولا يسمح بغير الأسلحة الخفيفة داخل المخيّمات. ثانياً، لا يسمح بأيّ وجود عسكريّ خارج المخيّمات في المناطق الحدودية الجنوبية، ولا تنشأ المراكز العسكرية إلا في مناطق محدّدة، وكل المراكز الأخرى يجب أن تفكّك وتزال. كذلك تم تحديد عدد العناصر العسكرية في كل مركز ولا يسمح بأيّ وجود عسكري داخل القرى. ثالثاً، يتم التنسيق مع السلطات العسكرية اللبنانية حول تنقل العناصر العسكرية، ويتم التنقّل من دون سلاح وفي اللباس المدني، ويسمح بحمل السلاح الفردي للضباط من رتبة ملازم وما فوق. رابعاً، لا يسمح بالتدريب العسكري في المخيّمات وإنما يتم التدريب في موقع واحد فقط قرب بعلبك في البقاع. خامساً، تجمّد كل العمليات العسكرية من الأراضي اللبنانية التزاماً بقرار مجلس الدفاع العربي المشترك، وعليه فإن عمليات الكوماندوس من الأراضي اللبنانية ممنوعة. سادساً، أما البنود الأخرى المتعلقة بالمسائل غير العسكرية كالاستخبارات وتحديد هوية القيادات والمخالفات والتنسيق فقد شدّدت على سيادة القانون اللبناني واحترام سيادة لبنان وسلامته. جاءت هذه البنود المفصّلة رداً على قائمة طويلة من الانتهاكات الفلسطينية لاتفاق القاهرة، أضف أن اتفاق ملكارت جاء فيه بند تجاوز الاتفاق السابق، وهو تجميد العمليات الفدائية من لبنان ضد إسرائيل. ولا تقلّ أهمية عن هذا البند القيود التي وضعت على تنقل الفدائيين والإجراءات التنظيمية المفصّلة التي أوردها اتفاق ملكارت مقارنة بما جاء في اتفاق القاهرة. وكان يفترض، نظرياً على الأقل، أن تشكّل هذه الإجراءات قاعدة لعلاقات منتظمة بين السلطات والمنظمات. كان اتفاق ملكارت أكثر استجابة للمصلحة الوطنية اللبنانية من اتفاق القاهرة، فقد وضع المنظمات الفلسطينية تحت مراقبة صارمة وحدّ من حركتها أكثر من ذي قبل بأن أعطى الحكومة اللبنانية مزيداً من السلطة القانونية لفرض النظام. لكن ذلك لم يكن كافياً في غياب القرار السياسي، ففي حين كانت الحكومة اللبنانية تمتلك سلطة القانون وتفسيره، كانت المنظمات الفلسطينية تسيطر على الأرض. كان الفلسطينيون في تلك المرحلة من العام 1973 قادرين على إبداء المرونة وتقديم التنازلات إدراكاً منهم أن تلك التنازلات ما هي في حقيقة الأمر سوى كلمات على الورق. فبعكس العام 1969، بات الفلسطينيون في العام 1973 يتمتعون بدعم سياسيّ لبناني وعربي قويّ، وبوجود راسخ على الأرض، ما كان يؤهلهم للقيام بتراجع تكتيكيّ على الورق. أما في العام 1969 فكان أيّ اتفاق يمكنهم الوصول إليه مع الحكومة اللبنانية يعتبر إنجازاً بالنسبة إليهم. اتفاق ملكارت كان أفضل من اتفاق القاهرة، لكن في التنفيذ كان حظ الاتفاقين سواء. وإذا كانت المنظمات الفلسطينية انتهكت اتفاق القاهرة يوم كانت أضعف منها في 1973، وأقل رسوخاً وثباتاً، فكيف ستحترم هذه المنظمات اتفاق ملكارت بعد أن اشتد ساعدها وكثر سلاحها وتعمق وجودها. وبالفعل اتضحت نظرة المنظمات الفلسطينية إلى الاتفاق عند الامتحان الأول. انتهك الفلسطينيون الاتفاق 418 مرة في الأشهر الثلاثة الأولى بعد توقيعه، وشملت هذه الانتهاكات خطف العسكريين والمدنيين وإطلاق النار على أهداف عسكرية وحمل الأسلحة والمتفجرات والتنقل بها وممارسات أخرى تشكل تحدّياً للسلطات اللبنانية. في تقويم مفصّل لكيفية تنفيذ اتفاق ملكارت خلال الأشهر الثلاثة الأولى أصدره الجيش اللبناني تبيّن أنّ ما تغيّر على الأرض، أكان في المخيّمات أو في المناطق الحدودية، يكاد لا يذكر. تمّت إزالة مركز عسكريّ واحد في منطقة مرج الزهور في الجنوب، وفي حين كان العسكريون الفلسطينيون يظهرون استعداداً للتعاون مع السلطة اللبنانية كانت القيادات المدنية تتصرف كأن أيّ اتفاق جديد لم يوقّع ولا شيء تغيّر. جمّدت العمليات العسكرية ضد إسرائيل بعض الوقت ثم استؤنفت على نطاق واسع في مطلع العام 1974 في أعقاب الحرب العربيّة - الإسرائيلية عام 1973. انتهى اتفاق ملكارت من دون تأثير يذكر في العلاقات اللبنانية - الفلسطينية. فإذا كان في أفضل حالاته اتفاقاً قصير الأجل لوقف إطلاق النار، فهو في أسوأ الحالات تسوية موقتة ما إن وقّعت حتى أهملت كأنها لم تكن. كما في اتفاق القاهرة كانت آلية فرض التنفيذ غير موجودة، ولم يكن ثمة فريق ثالث يراقب على مدى الساعات حتى يعيد إلى الاتفاق فاعليته كلما أصابه انتهاك. أما وساطة محمود رياض فقد جرفتها الانتهاكات بسرعتها وتكرارها، ولا أحد يتوقع طبعاً أن تتكرر وساطات جهات عليا بمعدّل أسبوعيّ أو شهريّ. وهكذا امتدت الأبعاد العربيّة للقضية الفلسطينية لتشمل السياسة اللبنانية في بيروت، ليس فقط سياسياً وإنما عسكريّاً أيضاً. * مقاطع من الفصل الخامس من كتاب "تفكيك أوصال الدولة في لبنان" دار النهار، بيروت.