} تحدث الكاتب الروسي ايغور تيموفييف حلقة السبت 4/11/2000 عن انتقال المقاومة الفلسطينية الى لبنان وتشكيل حكومة الشباب برئاسة صائب سلام ومواجهات أيار مايو 1973 وبدء الاستعدادات لاندلاع الحرب الأهلية. وهنا الحلقة السادسة. بعد توقيع بروتوكول ملكارت باتت مسألة تأليف الوزارة أمراً ملحاً للغاية. فرئيس الحكومة أمين الحافظ الذي قدم استقالته في 8 أيار مايو 1973 نزولاً عند طلب كمال جنبلاط ورشيد كرامي، عاد إلى تولي مهماته في 19 منه وناشدهما أن يؤيداه، فردّا طلبه بتأدب وصلابة في آن. فبالنسبة الى المؤسسة السياسية الإسلامية، لا ينتمي هذا الاخصائي الطرابلسي في الأربعين دكتوراه في الاقتصاد إلى "نادي رؤساء الحكومات" الذي لا يأمل في عضويته إلا أبناء بعض العائلات ذات النفوذ التقليدي في الاوساط الاسلامية، وان ترشيحه، باعتقاد جميع الزعماء السنّة، أضعف كثيراً مواقع السياسيين المسلمين في التركيبة السلطوية اللبنانية. أما كمال جنبلاط فكان ينطلق من اعتبارات مغايرة تماماً، لاعتقاده أن لبنان، في جو ما بعد أزمة أيار، يحتاج إلى حكومة وطنية قادرة على إقامة علاقات جديدة نوعياً مع الفلسطينيين وإعادة العلاقات المتزعزعة مع سورية وسائر الأقطار العربية إلى عهدها. بعد استقالة حكومة الحافظ أعلن جنبلاط أنه يمكن أن يؤيد ترشيح عبدالله اليافي أو رشيد الصلح أو تقي الدين الصلح. كما حبذ رشيد كرامي وبعض الزعماء السنّة ترشيح الأخير، فوقع اختيار الرئيس سليمان فرنجية عليه. واعتباراً من 20 حزيران يونيو بدأت عملية طويلة ومريرة لتأليف الحكومة الجديدة التي كان تقي الدين الصلح يريدها أن تمثل جميع الفئات السياسية في لبنان. ومنذ اليوم الأول غدت مسألة تعيين جنبلاط وزيراً للداخلية محور المشاورات الأساسي الذي دارت حوله أشد المناقشات في أروقة السلطة. وكان أول المعترضين صائب سلام الذي وضع "الفيتو". وأيده في ذلك بيار الجميل وكميل شمعون. وبهدف العثور على حل وسط عرض الصلح على جنبلاط وزارة المالية، ووعده بأن يستحدث له منصب رئيس لمجلس وزراء مصغر، على رغم علمه أن اقتراحات كهذه لن تحظى بالقبول. إلا ان جنبلاط المتيقن من أن منصب وزير الداخلية يوفر له إمكانات كبيرة للتأثير في الموقف السياسي في البلاد، حاول أن يجد سبيلاً للتفاهم مع خصومه. فقام في 26 حزيران بزيارة الشيخ بيار الجميل الذي كان يتلقى العلاج في عيادة في بكفيا وأهدى اليه علبة فيها أجود أنواع العسل في المختارة. ثم زار البطريرك الماروني في مقره في بكركي. ويبدو أن الحديث مع الشيخ بيار لم يسفر عن نتيجة، بل أدى إلى تدهور العلاقات الشخصية بين الرجلين بعدما كانت تميزت بحسن المعاملة طوال الوقت، على رغم الخلافات العقائدية بينهما. ولم تتحرك المسألة من نقطة التجمد بعد اللقاء مع البطريرك. وفي اليوم التالي ظهر جنبلاط في قصر الرئاسة. وبعد حديث طويل مع الرئيس سليمان فرنجية أعلن أنه يتخلى عن المشاركة في الحكومة تفاديا لزيادة تعقيد الموقف المعقد أصلاً. ومع أن حقيبة الداخلية في الحكومة الجديدة التي تألفت يوم 9 تموز يوليو اسندت الى بهيج تقي الدين صديق جنبلاط وحليفه، وعلى رغم أن منصب وزير الصناعة أسند إلى عضو جبهة النضال الوطني توفيق عسّاف، شعر جنبلاط بالمرارة وكان يداري انفعاله بصعوبة. حرب تشرين كانت الحرب العربية-الإسرائيلية الرابعة في 6-22 تشرين الأول اكتوبر 1973 أهم حدث في عهد حكومة الصلح التي عاشت 14 شهراً. وجاءت البداية الواعدة التي شهدت عبور القوات المصرية الرائع قناة السويس واجتياز "خط بارليف" المنيع لتثير موجة من الحماسة في العالم العربي. وحتى المرحلة النهائية التي كادت ان تتحول كارثة على الجيشين المصري والسوري، لم تعكّر فرحة العرب فتشبثوا بالتوضيح المسكِّن القائل إنهم خسروا معركة لكنهم كسبوا الحرب. لم تمس "حرب أكتوبر" لبنان، ما عدا غارة الطيران الإسرائيلي على محطة الرادار في الباروك يوم 18 تشرين الأول. إلا أن الأكثر إيلاماً بالنسبة اليه هو أحداث الفترة التي أعقبت الحرب وارتبطت بانقسام العالم العربي على الخطة الأميركية لتسوية مشكلة الشرق الأوسط على مراحل. ففي تشرين الثاني 1973 اعترفت قمة الجزائر لمنظمة التحرير الفلسطينية بصفة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وأكدت أن السلام مع إسرائيل لا يمكن توقيعه من دون مشاركة مباشرة من المنظمة في المفاوضات. إلا أن ذلك لم يبدد المخاوف التي ظهرت قبل حرب أكتوبر لدى الزعماء الفلسطينيين، وخصوصاً زعماء المنظمات الفلسطينية المتطرفة، من أن التسوية الشرق أوسطية، وفقاً للسيناريو الأميركي، ستجري على حساب الفلسطينيين. واشتدت هذه المخاوف بعد النتائج الأولى لديبلوماسية هنري كيسنجر المكوكية التي أفلحت في توقيع اتفاقات فصل القوات في النصف الأول من عام 1974، وأيضاً، وبمقدار لا يقل عن ذلك، بعد التأييد الصريح لفكرة التسوية من جانب الأوساط المسيحية. وعندما صاغ جنبلاط وجهة نظره في شأن التسوية السلمية، أخذ في الاعتبار طبعاً الموقف الناشئ في حركة المقاومة الفلسطينية حين كانت الكلمة، عشية مؤتمر جنيف وخلال الاشهر الأولى من عام 1974، لأنصار المواقف المتشددة الرافضين التفاوض مع إسرائيل والمصرين على مواصلة الكفاح المسلح. في نهاية عام 1973 ظهرت داخل المقاومة الفلسطينية، وبدعم نشيط من ليبيا والعراق، حركة خصوم التسوية السلمية الذين توحدوا في تشرين الاول 1974 في ما سمي جبهة الرفض التي ضمت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية القيادة العامة، والجبهة العربية لتحرير فلسطين، وجبهة الكفاح الشعبي الفلسطيني. وبعد العودة من دمشق، عقب لقاء مع الرئيس حافظ الأسد مطلع تشرين الثاني، أدلى جنبلاط بتصريح صحافي يستنتج منه أنه متشائم جداً في شأن إمكان الحل السلمي، ويميل إلى ضرورة الكفاح المسلح الطويل الأمد. وفي نهاية الشهر المذكور توجه جنبلاط إلى بغداد على رأس وفد من الحزب التقدمي الاشتراكي لإجراء محادثات مع القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي. وسجل البيان المشترك الذي نشر عقب الزيارة موقفاً أكثر تشدداً. وبهذه اللهجة الحازمة ايضا جاء التصريح الذي أدلى به جنبلاط بعد لقائه زعيم الثورة الليبية العقيد معمر القذافي في الأيام الأخيرة من عام 1973. إلا أن تبدلات ملحوظة طرأت على موقف جنبلاط بمر الزمن، فصار يميل إلى المزيد من الواقعية الموزونة. واعتباراً من نيسان ابريل 1974 فقدت كتاباته وتصريحاته حدتها السابقة وصارت تدور على جدوى البحث عن سبل التسوية السلمية للنزاع العربي - الإسرائيلي. وفي أيار صاغ الحزب التقدمي الاشتراكي للمرة الاولى موقفاً جديداً من حيث المبدأ، فأعلن رسمياً التأييد "لحل سياسي لقضية الاحتلال الإسرائيلي وتحرير فلسطين مشروط بتحقيق الانسحاب الكامل وضمان الحقوق الوطنية لشعب فلسطين واشراك منظمة التحرير الفلسطينية وقيام سلطة وطنية فلسطينية على الجزء المحرر من فلسطين". وقدّرت قيادة منظمة التحرير تأييد كمال جنبلاط المبدئي للموقف الفلسطيني الذي أخذت تتفوق فيه اعتباراً من صيف 1974 الاتجاهات الواقعية الواعية. وعندما تعرض جنبلاط في أيار من العام ذاته لانتقادات شديدة من جانب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي اتهمته بالنزعة الاستسلامية، أصدرت قيادة فتح بياناً رسمياً أكدت فيه أن أي تهجم على جنبلاط إنما يلحق ضرراً جسيماً بقضية الشعب الفلسطيني. كان لتنظيم التعاون مع المقاومة الفلسطينية وتعميقه أهمية بالغة بالنسبة إلى جنبلاط. فخيبة أمله في الشهابية أقنعته نهائياً بعدم جدوى الأمل في "الثورة من فوق"، وبتعذر تحقيق أي إصلاح من دون إعادة بناء النظام السياسي اللبناني جذرياً... بديهي أن مستقبلاً كهذا ما كان ليرضي الزعماء التقليديين السنّة الذين ترتبط مصالحهم الجذرية ارتباطاً مباشراً ببقاء النظام السياسي القائم الذي خصص لهم مكانة ثابتة في قمة هرم السلطة. ودفعهم خطر فقدان السلطة وتضييع النفوذ بين المسلمين إلى تأليف ما سمي "الجبهة السنيّة". ففي عام 1974 عمد أبرز السياسيين السنّة، مدعومين من المفتي الشيخ حسن خالد، إلى إحياء شعار "المشاركة" القديم الذي يفترض توسيع صلاحيات رئيس الوزراء وزيادة تمثيل المسلمين في جميع هيئات سلطة الدولة والإدارة، وطالبوا بجعل يوم الجمعة عطلة رسمية لتأمين التكافؤ في حقوق المسلمين والمسيحيين. ومع أن المسألة تدور في الحقيقة على إعادة توزيع السلطة فقط في إطار الميثاق الوطني الذي لم يكن أحد يشكك في صدقيته، استقبل السياسيون المسيحيون المحافظون هذه المطالب على أسنة الحراب معتبرينها محاولة للانتقاص من الامتيازات التقليدية للطائفة المارونية. وأيد جنبلاط تلك المبادرة الرامية إلى المزيد من العدل والإنصاف في مشاركة المسلمين في الحكم، لكنه لم يخفِ هدفه الاستراتيجي الرامي إلى إلغاء الميثاق الوطني وبناء نظام سياسي في لبنان يقوم على مبادئ التمثيل الديموقراطي. آنذاك كان يرى أن المجتمع اللبناني مؤهل للتبدلات الجذرية، وأن توازن القوى الملائم في البلاد أنعش الأمل في إمكان تحقيق التغيير الديموقراطي بالطرق السلمية. إلا أن الحوادث اللاحقة أثبتت استحالة بلوغ هذه الأهداف. فمع أن عهد الصلح لم يشهد أحداثاً جساماً مثل انفجارات العنف في عام 1969 أو 1973، فقد كان من نصيب حكومته تدهور الأوضاع وتردي الموقف السياسي عموماً. فالارتفاع الفاحش في الأسعار نتيجة تدفق الرساميل النفطية على لبنان بعد حرب أكتوبر زاد التناقضات الاجتماعية إلى أقصى حد، واجتاحت البلاد موجة من التظاهرات والإضرابات. ففي آذار مارس 1974 تظاهر في شوارع بيروت 15 ألف شخص طالبوا الحكومة بخفض أسعار الخبز، وهدد الاتحاد العمالي بإعلان الإضراب العام في حال رفض هذا الطلب. وطوال السنة المذكورة لم تتوقف في الواقع احتجاجات الطلبة الذين استنكروا زيادة الاقساط المدرسية وطالبوا بإجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية فوراً. وكان من الظواهر الجديدة مشاركة "حركة المحرومين" الشيعية التي أسسها الإمام موسى الصدر في النضالات الشعبية. ففي 17 آذار 1974 أعلن الصدر عن الاستعداد لتسليح أتباعه لحماية الجنوباللبناني والكفاح من أجل الحقوق الاجتماعية للشيعة. وتأزم الموقف الداخلي المتوتر أصلاً نتيجة الهجمات الإسرائيلية المتواصلة في جنوبلبنان، ونزوح السكان إلى بيروت وتضخم "حزام البؤس" الذي يطوق العاصمة اللبنانية من جميع الجهات. كانت الصدامات المسلحة اليومية على الحدود تثير غضب المسيحيين على الفلسطينيين. وتزيد أوار هذا الغضب النزاعات بين بعض الجماعات والتنظيمات الفلسطينية. وأخذت تتعالى في أوساط السياسيين المحافظين أصوات تطالب بالغاء اتفاق القاهرة وإنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان. وكان تسليح الميليشيات المسيحية الذي بدأ أواسط 1973، أخذ يتسع، وغدت أمراً مألوفاً الكتابات على الجدران في بيروتالشرقية التي تدعو كل لبناني لأن يقتل فلسطينياً واحداً على الأقل! استقالت حكومة الصلح في 9 تشرين الأول 1974 بعدما عجزت عن تذليل الصعوبات المتزايدة في البلاد ونشب صراع حاد حول رئيس الوزراء المكلف. فقد اعترض جنبلاط بشدة على القرار الذي اتخذه الرئيس سليمان فرنجية، تحت ضغط من التحالف الثلاثي المعارض صائب سلام ورشيد كرامي وريمون اده وبتأييد من بيار الجميل وكميل شمعون، باسناد رئاسة الحكومة إلى صائب سلام. والتقى جنبلاط رئيس الجمهورية وأعرب له عن اعتراضه الشديد على ترشيح سلام، وأكدَّ أن "جبهة النضال الوطني" لن تشارك والحال هذه في الاستشارات في شأن تأليف الحكومة .... وبهدف تقييد طموحات سلام الذي أعلن أنه سيؤلف حكومة على هواه، طرح الرئيس فرنجية شروطاً عدة في شأنها. ورفض رئيس الحكومة المكلف شرط إدراج إسم نجل الرئيس طوني فرنجية ضمن قائمة الوزراء. وإلى ذلك، غيّر زعيما الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار رأيهما بعد تأييدهما سلام في بادئ الأمر، وأصرا هذه المرة على تأليف الحكومة وفقاً لمبدأ "لا غالب ولا مغلوب"، بمعنى توزيع الحقائب الوزارية على السياسيين التقليديين الأرفع منزلة. وفي النتيجة دخلت الاستشارات في شأن الحكومة طريقاً مسدوداً. وسرعان ما سحب سلام ترشيحه. في نهاية تشرين الأول عرض جنبلاط على رئيس الجمهورية ثلاثة مرشحين هم: عبدالله اليافي وشفيق الوزّان ورشيد الصلح. وكان الأخير، على رغم انتمائه إلى عائلة الصلح الشهيرة، يشغل خانة متواضعة في الشعبية بين السياسيين اللبنانيين. وإلى ذلك فهو محسوب على جنبلاط الذي ساعده في الانتخابات النيابية عام 1972، ومع ذلك فضّله رئيس الجمهورية على المرشحين الآخرين. وبعد أسبوع قدم رشيد الصلح إلى مجلس النواب قائمة ب 18 وزيراً حازت الثقة بالأكثرية الساحقة. ولم يدخلها جنبلاط، لكنه كان راضياً تماماً عنها لأن المناصب الحساسة فيها باتت من نصيب أقرب مريديه امثال عباس خلف وزيراً للاقتصاد الوطني وخالد جنبلاط للمالية ومجيد حمادة للزراعة. تسلمت حكومة الصلح الائتلافية السلطة في البلاد وهي في حال قريبة من الفوضى. ففي الاشهر الأخيرة من 1974 اجتاحت لبنان موجة من العنف لم يسبقها مثيل. وكانت نشرات الأخبار تحوي يومياً أنباء تفجير القنابل والنهب والسلب والقتل. وكان الوضع مثاراً للقلق في شمال البلاد وبخاصة في عكار ومنطقة زغرتا، إذ نشبت حرب حقيقية بين العائلات الإقطاعية المتنافسة. وفي طرابلس فرضت عصابة من القبضايات بزعامة أحمد القدور سيطرتها على الجزء القديم من المدينة، وزادت الجو انقباضاً شائعات في شأن احتمال قيام نزاع مسلح جديد مع إسرائيل إضافة إلى توقعات من المحللين السياسيين في شأن حرب اهلية داهمة. وشهدت بداية عام 1975 تأزماً جديداً في الوضع في الجنوباللبناني. وعلى رغم أن منظمة التحرير الفلسطينية أعلنت مراراً طوال عام 1974 عن تجميد عملياتها الفدائية المنطلقة من الأراضي اللبنانية، إلا أن تلك الاعلانات ظلت وعوداً ونيات، فقد استمرت الهجمات الفدائية عبر الحدود من دون توقف. ودأبت قيادة منظمة التحرير على الاعتذار للسلطات اللبنانية عن هذه الهجمات ملقية تبعتها على من سمتهم "عناصر غير منضبطة" تعمل خلافاً للتوجهات العامة داخل المقاومة الفلسطينية. وكان المقصود بتلك العناصر تنظيمات جبهة الرفض غير الخاضعة لقيادة منظمة التحرير التي أخذت، بعد اعتراف الأممالمتحدة بها رسمياً في تشرين الثاني 1974، تصر على المشاركة في التسوية السلمية. وكانت الرغبة في تشويه سمعة المنظمة، في أنظار الرأي العام العالمي لتبرير صدقية الاعتراض على مشاركة الفلسطينيين في العملية التفاوضية، دفعت إسرائيل إلى تصعيد عملياتها الحربية في الجنوباللبناني، ما أدى إلى تزايد الاحتكاكات بين فصائل الفدائيين ووحدات الجيش اللبناني المرابطة هناك. وفي 12 كانون الثاني يناير 1975 شن الإسرائيليون هجوماً على قرية كفرشوبا في منطقة العرقوب. ونتيجة القصف المكثف على مدار أسبوع كامل دمّرت جميع الدور السكنية في القرية. وفر من كفرشوبا إلى مرجعيون نحو أربعة آلاف شخص حرموا المأوى وأسباب العيش. وهناك قاموا بتظاهرة طالبوا فيها الحكومة باتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية مناطق الجنوب ودفع تعويضات للمتضررين. وفي 18 كانون الثاني حدث في منطقة الحدود اشتباك مسلح بين الجيش اللبناني ومقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجيش التحرير الفلسطيني، وفي 20 منه أطلقت من المواقع الفلسطينية ستة صواريخ على ثكنة الجيش في صور. وفي الحال أدلى الشيخ بيار الجميل بتصريح شديد اللهجة عبّر فيه عن سخطه واستيائه من الوجود الفلسطيني في الجنوب، وطالب بوضع حد للفوضى بين الجماعات الرافضة في حركة المقاومة الفلسطينية.... ولكي يخفف من ردود فعل الأوساط المحافظة، سارع ياسر عرفات إلى الإدلاء بتصريح استنكر فيه بشدة أعمال الجبهة الشعبية ووعد بقمع أي نوع من هذه الأعمال في المستقبل بقبضة من حديد. إلا أن تصريح عرفات هذا، وكذلك زيارته لرئيس الوزراء رشيد الصلح لم يؤثرا في نفوس الزعماء المسيحيين الذين كانوا، على ما يبدو، يبحثون عن ذريعة لشن حملة مكثفة على الفلسطينيين. ففي 20 شباط فبراير وجه بيار الجميل مذكرة إلى الرئيس فرنجية طالب فيها بإجراء استفتاء عام حول الوجود الفلسطيني في لبنان، وهدد باتخاذ التدابير اللازمة إذا عجزت الدولة عن أداء وظائفها أو أبدت ضعفاً وتردداً. وقال إن المعترضين على الوجود الفلسطيني سيواجهون التظاهرات بتظاهرات أخرى أكثر عنفاً، والإضرابات بإضرابات أوسع نطاقاً، وسيردون على القساوة بالمثل وعلى القوة بالقوة. وعندما كثرت التقولات في شأن الحرب الأهلية التي لا مرد لها، لم يكن أحد يصدق أنها باتت على الأبواب، وأن البداية ستأتي مع التظاهرة التي قام بها صيادو السمك في صيدا احتجاجاً على الترخيص الممنوح رسمياً لشركة "بروتيين" الكويتية - اللبنانية لصيد السمك بواسطة البواخر والاتجار به وكانوا يخشون أن تحرمهم لقمة العيش. قامت تظاهرة صيدا التي تقدمها النائب نبيه البزري ورئيس البلدية معروف سعد في 26 شباط 1975، وما إن تحرك الموكب حتى اعترضت طريقه وحدات من الجيش وقوى الأمن الداخلي. وزعمت قيادة الجيش في ما بعد أن رصاصات أطلقها مجهولون من الجمهور صرعت رقيباً من أفراد الجيش، فرد هؤلاء على النار بالمثل ووقع قتيلان أحدهما معروف سعد وأصيب سبعة أشخاص بجروح. وفي 28 شباط قامت في بيروت تظاهرة احتجاج نظمها "تجمع الأحزاب الوطنية والتقدمية". وفي اليوم التالي خرج أهالي صيدا إلى الشارع وقطعوا الطريق الرئيسية التي تربط المدينة بصور. واطلقت الميليشيات المحلية والفدائيون من مخيم عين الحلوة الرصاص على وحدات الجيش التي تحركت في اتجاه المدينة لاعادة فتح الطريق، ما جعل الجيش يقتحم صيدا في هجوم أسفر عن مقتل خمسة من أفراده و11 مدنياً. ولم يتوقف القتال إلا في 1 آذار بعدما تلقى أهالي صيدا تعهدات رسمية بسحب القوات من المدينة. وأسفرت أحداث صيدا عن تأزم الوضع الداخلي في لبنان على نحو درامي. وكان محور المناقشات في الأوساط السياسية مسألة عزل قائد الجيش العماد اسكندر غانم واستقالة حكومة الصلح. وأصر على ذلك اليسار المتطرف والتحالف الثلاثي سلام وكرامي واده ومعظم السياسيين السنّة التقليديين. وإلى ذلك طالب الزعماء السياسيون السنّة بإجراء تعديلات على قانون الجيش، واقترحوا تأليف مجلس قيادة للجيش يكون فيه للمسيحيين والمسلمين تمثيل متكافئ. وعلى النقيض من ذلك كان موقف السياسيين المسيحيين المحافظين. فقد ألقوا تبعة الأحداث في صيدا على المنظمات اليسارية المتطرفة والفلسطينيين، وتضامنوا مع الحكومة وقيادة الجيش بالكامل. وبمبادرة من الكتائبيين والوطنيين الأحرار قامت تظاهرة في فرن الشباك تأييداً للجيش شارك فيها 35 ألف شخص. ومنذ بداية الأزمة التزم جنبلاط جانب حكومة الصلح. وفي تصريح صحافي ألقى تبعة الأحداث الفاجعة على قسم من اليسار المتطرف الذي "سبب في بعض الأحيان مشكلات كثيرة" على حد تعبيره. وقوبل هذا التصريح باللوم والتقريع من زعماء عدد من الأحزاب اليسارية وغدا مدار مناقشات حادة في الاجتماع الذي عقد في منزل جنبلاط مساء 26 شباط. وأصدرت "الأحزاب الوطنية والتقدمية" يومها بياناً لم يصر جنبلاط على إدراج وجهة نظره في نصه، إلا أنه أبدى تصلباً في مسألة الحكومة التي كان يرى أن استقالتها في هذه الظروف تغدو كارثة على البلاد. وبفضل جهود جنبلاط أمكن الحفاظ على وزارة رشيد الصلح، إلا أن أحداً ما كان بوسعه أن يبعد البلاد عن شفير الهاوية. فأحداث صيدا أنهت حرب النيات التي استمرت سنوات طوالاً وكانت حرب من نوع آخر على الأبواب! يصدر قريباً عن "دار النهار" وتنشر "الحياة" فصولاً منه بالتزامن مع صحيفة "النهار". * الاربعاء: اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.