الترجمة العربية لكتاب "الحرب الباردة الثقافية" التي أصدرها المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة هي من الأحداث الثقافية البارزة التي يشهدها المعترك الثقافي العربي. فالكتاب ما برح يثير الكثير من التساؤلات منذ صدوره عام 2000 في نيويورك تبعاً للفضائح السياسية والثقافية يحفل بها. هنا قراءة في قضية الكتاب. "الناسُ أنفسهم الذين قرأوا دانتي ودرسوا قيم الطهارة الأخلاقية، هم الذين كانوا يجندون النازيين، ويتلاعبون بنتائج الانتخابات الديموقراطية، ويعطون عقار الهلوسة لأشخاص من دون دراية منهم، ويفتحون بريد آلاف المواطنين الأميركيين، ويقلبون الحكومات، ويؤيدون الأنظمة الديكتاتورية، ويدبرون الاغتيالات، ويخططون لكارثة خليج الخنازير. باسم ماذا كان ذلك كله يتم؟ لم يكن باسم الاخلاق أو الفضائل المدنية، بل كان باسم السيطرة". كانت هذه السطور هي الكلمات الأخيرة في الكتاب المدوّي "الحرب الباردة الثقافية" أو "المخابرات المركزية الأميركية وعالم الفنون والآداب" الذي صدرت ترجمته العربية حديثاً عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، والذي ألفته فرانسيس ستونر سوندرز، وصدر في نيويورك العام 2000، ونقله الى العربية طلعت الشايب، وقدم له استاذ التاريخ الحديث في جامعة حلوان عاصم الدسوقي. وفرانسيس سوندرز بريطانية من مواليد العام 1966 وتعيش في لندن، باحثة وقاصّة ومخرجة افلام تسجيلية، درست الأدب الانكليزي في اكسفورد وتخرجت العام 1987. في العام 1993 قرأت فرانسيس مقالاً يزعم أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية كانت وراء نجاح "مدرسة نيويورك" في الفن الحديث. وقضت عاماً في تتبع القصة الكاملة والبحث عن معالمها. وأثمر البحث برنامجاً تلفزيونياً بعنوان "الأيدي الخفية: الفن والمخابرات المركزية"، عرضته القناة الرابعة، وكان مادة أولى لكتابها الأول. بعد ثلاث سنوات وبعد توافر مادة أرشيفية ثرية وبعد لقاءات عدة مع مسؤولين وعملاء سابقين في وكالة المخابرات تجمعت لديها مادة هذا الكتاب الفاضح. في هذا الكتاب الخطير تضيء الباحثة الشابة جانباً مظلماً في تاريخ أميركا الثقافي، معتمدة على كم هائل من المقابلات الشخصية وقراءة عدد ضخم من الوثائق الرسمية التي أفرج عنها حديثاً. وتظهر اسماء عدد كبير من ابرز مفكري أو فناني المرحلة: اشعيا برلين وكليمنت غرينبرغ وسيدني هوك وآرثر كويستلر وإيرفنج كريستول وروبرت لوييل وهنري لوس واندريه مالرو وماري مكارثي ورينولد نيبور وجورج ارويل وجاكسون بولوك وشارلي شابلن ومارلون براندو وبرتراند راسل وسارتر وستيفن سبندر ومارلين مونرو وتيد هيوز وسواهم. وبينما تم استخدام بعضهم من دون ان يدري كان البعض الآخر على علم واستعداد للتعاون. إنها، اذاً، القصة الكاملة للدور الذي قامت به المخابرات المركزية الاميركية C.I.A في الحرب الباردة الثقافية، الأمر الذي يجعل من هذا الكتاب "عملاً مهماً من أعمال البحث التاريخي" كما وصفه المفكر إدوار سعيد. تأديب الخارجين يرسم عاصم الدسوقي في مقدمته المركزة الخريطة التي نهض عليها تدخل المخابرات الاميركية في عالم الفنون والآداب، مشيراً إلى أنه في أعقاب ضرب الاسطول الاميركي في بيرل هاربور في اليابان 1941، بعد زهاء عامين من اندلاع الحرب العالمية الثانية شعرت الحكومة الاميركية بالخطر الذي يحدق بمصالحها الأساسية، فبادرت الى إنشاء "مكتب الخدمات الاستراتيجية" الذي يضم عناصر ذات مهارات تدريبية عالية تم اختيارها من ابناء الطبقة الارستقراطية التي تمثل الصفوة الحاكمة، ومهمتها اكتشاف الخطر قبل وقوعه والتخلص من مصدره بأية وسيلة، في اطار براغماتي: الغاية تبرر الوسيلة. وكان كل عضو من اعضاء هذا المكتب يحمل حقيبة صغيرة فيها بندقية قصيرة وعدد من القنابل اليدوية وبعض العملات الذهبية وحبة دواء قاتلة لتنفيذ عمليات قذرة. لكن الرئيس ترومان ألغى هذا المكتب بعد انتهاء الحرب، قائلاً: إنه لا يريد في وقت السلم شيئاً يشبه الغستابو الألماني. وفي العام 1947 تم إعلان مبدأ ترومان ومشروع مارشال، الذي يتلخص في تقديم مساعدات اقتصادية الى أوروبا الغربية، وخصوصاً الدول المهددة بأزمة اقتصادية لئلا تسقط في يد الأحزاب الشيوعية، وهو ما سماه الاتحاد السوفياتي "استعمار الدولار" وتلا ذلك إعلان "برنامج النقطة الرابعة" 1949 وفق محاور أربعة هي: التأييد المطلق للأمم المتحدة وكسب الشعوب بالعمل على الاصلاح الاقتصادي، وتقوية الأمم التي تعادي الكتلة الشيوعية، وتقديم المعونات لتحسين أحوال مختلف بلاد العالم، وكل هذا في حماية حلف الاطلسي. والسؤال المطروح هنا هو: أليست "النقطة الرابعة" هي ما يحكمنا في السنوات الراهنة الأخيرة؟ يجيب الدسوقي بأن صوغ هذه المبادئ الأربعة جاء ليضمن للحكومة الاميركية تنفيذ خططها تحت مبادىء عامة يصعب الاختلاف في شأنها، وتبدو كأنها انسانية لمصلحة البشرية جمعاء، فضلاً عن ان هذه المبادئ لا تزال تحكم التوجهات الاميركية ازاء كل الأزمات العالمية. فهي تعمل على تحويل اقتصاديات مختلف الدول الى الاقتصاد الحر تحت شعار الاصلاح الاقتصادي، وتستخدم الأممالمتحدة لتدوير الزوايا الحادة التي تبرز في السياسات الدولية، وتعمل على تأديب الذين يخرجون عن سيطرتها. لكن الحكومة الأميركية أدركت أن مشروع مارشال والنقطة الرابعة لا يكفيان لإزالة الشيوعية من طريق الرأسمالية، فأنشأت عام 1947 جهاز المخابرات المعروف بال C.I.A ليتولى الجانب الثقافي في الحرب الباردة. وكان أول أعمال هذا الجهاز تكوين واجهة ثقافية يعمل من خلالها لتحصين العالم ضد وباء الشيوعية وتمهيد الطريق أمام مصالح السياسة الاميركية في الخارج، فكان "الكونسورتيوم" الذي يضم مجموعة من الراديكاليين ممن تحطم ايمانهم بالشيوعية وأصابهم الاحباط بسبب سياسات ستالين القهرية، إذ كان يقوم هؤلاء أنفسهم بنقد الشيوعية من خلال مختلف الوسائل: كتابة مقال، إلقاء محاضرة عامة، كتابة رواية أدبية أو عمل مسرحي، على أن يدور خطابهم على ما الذي جعلهم يعتنقون الشيوعية، وما الذي جعلهم يتوبون عنها؟ وفي 1949 شكلت المخابرات "اللجنة القومية من أجل اوروبا الحرة" لاستخدام المهارات المتنوعة لليهود الشرقيين في المنفى من أجل تطوير برامج تتصدى بنشاط للسيطرة السوفياتية كان من اعضائها: الممثل رونالد ريغان والعسكري ايزنهاور: الرئيسان في ما بعد. وقامت المخابرات الأميركية في 1950 بتأسيس "كونغرس الحرية الثقافية" التي تحولت في 1967 الى "الاتحاد الدولي للحرية الثقافية" وقامت هذه المنظمة بإنشاء فروع لها في خمس وثلاثين دولة تم اختيارها بعناية، وأصدرت أكثر من عشرين مجلة ذات تأثير كبير، ونظمت المعارض الفنية والحفلات الموسيقية. ومن خلال "منظمة الحرية الثقافية"، التي ترأسها شرفياً كل من برتراند راسل، بنديتو كروتشي، جان ديوي، ياسبرز، اشعيا برلين تعددت انشطة المخابرات ونجحت في اقامة مختلف الواجهات الفكرية والاعلامية والفنية والتجارية لخدمة اغراض مواجهة الشيوعية والعمل على اجتثاث جذورها وفرض النموذج الأميركي للحياة. في هذا الاطار صدرت مجلات: كومنتري، نيوليدر، بارتيزان ردفيو، العلم والحرية، انكاونتر... وفي الأخيرة كتب ارنولد توينبي وراسل وهربرت سبنسر. وكانت "منظمة الحرية الثقافية" وراء صدور عدد من المجلات في دول العالم الثالث، ومنها مجلة "حوار" في لبنان عام 1962، التي شن عليها الكثيرون من المثقفين العرب هجوماً شديداً باعتبارها "حصان طروادة" على رغم أنّ ادارة تحريرها لم تكن على علاقة بالمؤسسة كما ثبت في ما بعد. الكابوس المكيف للهواء "أفضل طريقة لعمل دعاية ناجحة، هي ألا يظهر عليك أبداً أنك تعمل شيئاً"، بهذه الجملة من ريتشارد كروسمان استهلت الباحثة كتابها موضحة أن الكونسورتيوم المنظمة المبكرة التي انشأتها المخابرات المركزية كان من أهدافها الترويج لفكرة ان العالم في حاجة الى "سلام اميركي" وإلى عصر تنوير جديد، وأن ذلك سوف يسمى "القرن الاميركي". وتحت عنوان "ذلك المهرجان الاميركي" رصدت الكاتبة ان مهرجان الناتو الذي عقد في باريس، بهدف "التعاون الوثيق بين المؤسسات الأميركية الفنية الرفيعة في أوروبا والمؤسسات الاوروبية"، حضرته اسماء لامعة مثل وليم فوكنر ومالرو وأودن وسبندر، بينما رفض سارتر الحضور معلقاً بأنه "ليس معادياً للشيوعية الى هذا الحد". واتخذت المخابرات بعض المؤسسات الخيرية غطاءً لها، مثل مؤسسة فورد ومؤسسة كارنيجي ومؤسسة ركفلر. وأسست مؤسسة فورد "برامج النشر المتبادل"، في إشراف جيمس لوفلن ناشر سلسلة "توجهات جديدة" التي اصدرت اعمال جورج أورويل، صاحب "مزرعة الحيوانات" التي عملت المخابرات على تحويلها الى فيلم ذي نهايتين: واحدة داخل اميركا وواحدة للخارج. ومعروف ان أورويل سلم ادارة البحث الاعلامي في المخابرات قائمة بخمسة وثلاثين اسماً متهمين بالتعاطف مع الشيوعية. وبفضل منحة ضخمة من "فورد" استطاع معهد الفن المعاصر الذي انشئ في واشنطن عام 1947 أن يوسع برنامج نشاطه الدولي. ووصل الامر في الخمسينات الى ان يصبح الحزب الشيوعي الاميركي مدعوماً من مكتب التحقيقات الفيدرالي، حتى أن الكاتب هوارد فاست قال: "كان الحزب الشيوعي الأميركي في تلك الفترة - من الناحية العملية - فرعاً من وزارة العدل". ولذلك كان طبيعياً أن يصف توماس مان الهارب من جحيم النازية الى جحيم المكارثية اميركا بأنها "ذلك الكابوس المكّيف للهواء" وأن ينتقد جون شتاينبك صاحب "عناقيد الغضب" نفسه قائلاً: "لو أننا قاومنا منذ البداية بدلاً من الهرب، لما كانت مثل هذه الأمور تحدث الآن". وتقرر الباحثة أن ظاهرة "الكاتب الجاسوس" أو "الجاسوس الكاتب" لم تكن ظاهرة جديدة: سومرست موم استخدم مكانته الادبية غطاء لمهمات المخابرات البريطانية في الحرب العالمية الأولى، وكانت بعض مجموعاته من قصص السيرة الذاتية بمثابة انجيل لضباط المخابرات. وكذلك كومتون ماكنزي وغراهام غرين. أما "متحف الفن الحديث" في نيويورك الذي انشأته والدة نلسون روكفلر تحت مبدأ "ان الحمر سوف يكفون عن أن يكونوا حمراً اذا نحن منحناهم بعض الاعتراف الفني" فاحتضن الاتجاهات الطليعية في الفن التشكيلي، ولا سيما التجريدية التعبيرية. والسؤال الذي تطرحه الباحثة هنا هو: "هل كان فنانو التجريدية التعبيرية يرسمون في أثناء الحرب الباردة أم من أجل الحرب الباردة؟". يقول غوته على لسان ميفيستو فيليس في فاوست "تظن انك تشق طريقك، والحقيقة هي انك أنت الذي يتم دفعه"، ومن هنا يأتي السؤال: هل كان كل المتورطين في "حرب القاذورات" - كما سماها احدهم - يعلمون بذلك التورّط؟ بعد هذه الجولة الموجزة في هذا الكتاب، لا بد من أن تدور في عقل قارئه الخواطر الآتية: 1 - اتجهت الولاياتالمتحدة الأميركية، بعد الحرب العالمية الثانية، الى حرب الثقافة واستعمار العقول و"الغسل الايديولوجي"، إيماناً منها بأن تغيير العقل والروح والوجدان والتذوق هو السبيل الانجع لتغيير المجتمعات. 2 - لعل الصورة الصادمة التي يقدمها هذا الكتاب المذهل تؤكد أن معظم الادباء والمثقفين والفنانين العالميين المعروفين، في تلك الفترة، كانوا على "تماس" مع المخابرات المركزية الاميركية ومؤسساتها الثقافية السافرة أو المغطاة، سواء كان هذا التماس مباشراً أو ضمنياً، عن علم أو عن جهل، من قريب أو من بعيد. وكذلك الحال مع كثير من الاتجاهات الحداثية في الادب والفنون. ولا ريب ان بعض هؤلاء المتماسين كان يعلم بضلوع في المخطط حق العلم. وبعضهم كان يعلم ويحب أن يبدو كمن لا يعلم أو لا يصدق. وبعضهم لم يكن يعلم على الاطلاق. 3 - لماذا نجحت المخابرات المركزية الاميركية في ذلك المخطط الاسود الشامل طوال النصف الثاني من القرن العشرين؟ المؤكد أنها نجحت لأسباب عدة: منها، أولاً، ان احتلال المجتمعات بالضرب على وتر العقل والثقافة والفنون هو اخفى غرضاً وأعمق تأثيراً من الضرب على وتر الحرب المسلحة المكشوفة. ومنها، ثانياً، أن هذه الحملة الخبيثة تعززت بالمال والمسدس، بما يجعل "الترغيب والترهيب"، يتجادلان تجادلاً اجرامياً مثمراً. ومنها، ثالثاً، فرار أعداد غفيرة من المثقفين الديموقراطيين لا سيما اليساريين، سواء كان هذا الفرار جغرافياً أو روحياً أو فكرياً، من جحيم الدوغما الستالينية السوفياتية الخانقة التي شاعت في أرض "الثورة الاشتراكية العظمى" وفي الأحزاب الشيوعية الخارجية. الأمر الذي جعل هؤلاء المثقفين متعطشين لأي شعار يلبي توقهم الى الحرية، سواء كان هذا الشعار قناعة او قناعاً. ومنها، اخيراً، أن نزوع المبدعين الحداثيين الى التجديد الفني والجمالي، القائم على حرية التجريب والمخيلة. 4 - ان هذا النزوع الداخلي الى التجريب وكسر الانماط قد يتقاطع مع أغراض جهات متنافسة او خصمة أو معادية. وحينئذ، ليس من الحكمة ان نطالب أولئك المبدعين بكبح هذا النزوع الداخلي لمجرد أنه يتقاطع مع اهداف آخرين. لسنا ندافع عن المتورطين. فالتجسس مُدان، والخيانة مدانة، والتعامل مع المخابرات المركزية الاميركية عن علم مُدان أيضاً. لكن "اللبس" الذي ينطبق على حالات كثيرة مما ورد في هذا الكتاب المفزع، تنبغي معالجته بدقة وموضوعية متخلصتين من هستيريا الإدانة والتخوين. 5 - بعد معرفة ذلك الكم الهائل من الجرائم، الذي ينضح به هذا الكتاب - القنبلة، يتساءل المرء: هل كانت تلك الحرب "باردة"، أم كانت ساخنة الى درجة الحرائق؟ وبعد تأمل مرحلتنا الحاضرة يتساءل المرء: هل انتهت "حرب القاذورات" الاميركية ضد العالم، أم أنها تطورت وتنوعت أساليبها الخبيثة: تينيت مدير المخابرات المركزية هو الذي يرسم التفاهم بين إسرائيل وفلسطين، وأصابع اليانكي هي التي تحدد مقررات التعليم في بعض البلاد العربية، عودة التصريح للمخابرات المركزية باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة. مؤسستا روكفلر وفورد لا تزالان تغدقان الأموال في شتى البقاع السحرية من الارض. إحلال خطر الارهاب الاسلامي محل الخطر الشيوعي الأحمر... أليس كل ذلك هو ما قصد اليه عاصم الدسوقي في ختام مقدمته حين قال: "الحق ان التغير في الثقافة هو ما يراهن عليه النظام العالمي الجديد المعروف بالغلوبالية العولمة الذي اعلنه الرئيس الاميركي بوش الأب في أثناء حرب الخليج الثانية 1991، وأداته الرئيسة منظمة التجارة العالمية التي انشئت في كانون الثاني يناير 1995. ولا تقتصر مهمتها على مبدأ حرية التجارة كما كان اتفاق الغات، وانما اضيف اليها مبدأ الحرية الثقافية، والهدف تحويل العالم كله الى النموذج الأميركي". نعم، ما أشبه الليلة بالبارحة، فحرب القاذورات ممتدة، وطويلة، وراهنة.