لعنصر التكرار دوره في بناء قصائد "الناس في بلادي" لصلاح عبدالصبور على مستويات عدة: إما على مستوى الخاتمة التي تستعيد البداية بالكلمات والتراكيب نفسها، تأكيداً لصيغة الكلمة المفتاح التي تنبني عليها القصيدة كما في قصيدة "إلى جندي غاصب - سأقتلك": سأقتلك من قبل أن تقتلني سأقتلك من قبل أن تغوص في دمي أغوص في دمك ... لكنني سأقتلك من قبل أن تقتلني أغوص في دمك وإما على مستوى تفاصيل البناء التي تحتاج إلى تكرار صيغ من جنس الموضوع كتكرار صيغة "كان ياما كان" في قصيدة شنق زهران، وإما على مستوى المقطع، حيث تتكرر صيغة نحوية للجملة، في سياق يفضي إلى تكرار صيغة نحوية للكلمة، كما في قصيدة "أغنية حب" التي يبدأ مقطعها الأول بست جمل اسمية متوازية لتعداد مفاتن المحبوبة: وجه حبيبي خيمة من نور / شعر حبيبي حقل حنطة / خدا حبيبي فلقتا رمان / جيد حبيبي مقلع من الرخام / نهدا حبيبي طائران توأمان أزغبان حضن حبيبي واحة من الكروم والعطور وهو مقطع يوازي في تكراره أناشيد الإنشاد التي يستلهمها من العهد القديم، كما سبق أن أشرت، ولكنه يصوغ ما أفاده منها في تراكيب حديثة لا يتردد في تكرار بعضها فيما يشبه الصوت والصدى، أو الأغنية ورجعها، وذلك في سياق يقود إلى تكرار كلمة اللؤلؤ على النحو التالي: جبت الليالي باحثاً في جوفها عن لؤلؤة وعدت في الجراب بضعة من المحار وكومة من الحصى وقبضة من الجمار وما وجدت اللؤلؤة سيدتي إليك قلبي، واغفري لي.. أبيض كاللؤلؤة وطيب كاللؤلؤة / ولامع كاللؤلؤة وفي رد القلب على اللؤلؤة ما يشبه رد الصدى على الصوت في تجاوب الدلالة التي تصل بين حاستي البصر والصوت خصوصاً في غلاف القلب الذي يتحول إلى لؤلؤ. وجماليات التكرار التي تظهر أوائلها في ديوان "الناس في بلادي" كاشفة عن شاعر ماكر يعرف كيف يستخدم أدواته، على نحو ما وصفه لويس عوض في المقالة التي كتبها عن الديوان فور صدوره، هي نفسها التي سوف تظهر في الدواوين اللاحقة على نحو أكثر احتشاداً، ينتقل من الجزئي إلى الكلي، ومن تكرار الكلمة إلى المقطع، إلى أن تصل هذه الجماليات إلى الذروة الأخيرة في الديوان الأخير "الإبحار في الذاكرة" حيث قصيدة "تكرارية" و"شذرات من حكاية متكررة". والمسافة بين الذروة الأخيرة وأوائلها هي مسافة النهايات التي تردنا على البدايات، أو البدايات التي تحمل بذور النهايات وترهص بإمكاناتها وتنجز من بعض وعودها ما يكتمل تحقيقه على مدى الرحلة التي تصل إلى ذروتها في المقطع الأول من "تكرارية" الذي يمضي على النحو التالي: الليل، الليل يكرر نفسه ويكرر نفسه والأحلام، وخطوات الأقدامْ وهبوط الإظلامْ وهبوط الوحشة في القلب مع الإظلام رعشات الأوردة المثلوجة المحرورة ورفيف الرايات المنصورة والمكسورة قصص القتلى والقتلة وفكاهات الهزليين وهزل الفكهين وضجيج الطرقات وجنازات الأمواتْ حتى سأم التكرار يكرر نفسه مدينة كهذه المدينة الغريبة تكاثرت على مدى الزمان، كررت أيامها وخزنت في لحمها وجلدها المكررين تسع ملايين من المكرّرين. وليست جماليات التكرار وحدها هي التي تتكرر، صاعدة في إيقاعها، عبر تتابع دواوين صلاح عبدالصبور التي أعقبت "الناس في بلادي" على امتداد ما يقرب من ربع قرن، فهناك جماليات أخرى تبدأ من الديوان الأول ولا تنتهي عنده، وإنما تنطلق منه لتتصاعد في الدواوين اللاحقة. وأكتفي بتعداد ثلاثة تشكيلات، تجمع ما بين التوازي الناتج عن التجاور، والتضاد المبني على التقابل، والمفارقة المرتبطة بنوع من إحباط التوقع. أما التوازي فواضح في قصيدة "نام في سلام" التي هي مرثية لشهيد من أصدقاء الشاعر اسمه محمد نبيل، استشهد في أحد الاشتباكات العسكرية مع العدو. والقصيدة تنبني على ثلاثة مقاطع. الأول عن سقراط الذي آثر الموت على الحياة، ومات شهيد حكمته التي عرف بها ما لم يعرفه غيره، ودفعته إلى التضحية بنفسه افتداء للآخرين، فمات باسماً، وادعاً، في سبيل سنة الكمال. والمقطع الثاني عن المسيح: لأنه قد وهب الحياة أيامه القليلة / لكي يزيد في هناءة ابتسامة الصبي / ونشوة العذراء / وفرحة الآباء بالأبناء لكي ترف في سحابة السماء / حمامة السلام والمقطع الثالث عن محمد نبيل الذي يتجاور مع سقراط والمسيح في معنى الشهادة، فتوازي دلالة موته دلالة موتهما رغم بعد الفارق بين موته وموتهما. وهو فارق يؤديه مشهد جنازته العسكرية في ظهر يوم قائظ، والناس مطرقون، وحول الجثمان جند الوطن الذي يعود الشهيد إلى ترابه الذي منه جاء، وكل شيء كان هامداً كأنه يموت: وكان في وجه السماء سحابة من الشفق حمراء مثل دم / وكان في طرف المدى نوارة الحقول / بيضاء مثل قلبنا، وقلبه، وقلب ميتين / آخرين من قومنا المجاهدين الطيبين. وعلاقات التجاور في القصيدة تبين عن بدايات التعامل مع جماليات المجاورة التي يكتمل إتقانها في الدواوين اللاحقة، فتنتج قصائد من طراز "الشمس والمرأة" في ديوان "تأملات في زمن جريح". وما أيسر أن تنقلب علاقات التوازي والمجاورة إلى علاقات تقابل وتضاد في شعر صلاح عبدالصبور، الأمر الذي يجعلنا نواجه عنصراً تشكيلياً من العناصر التشكيلية المهمة في بنائه الشعري. وهو عنصر له صلة بالدرامية التي تنبني على الصراع، وتجمع بين الأضداد في الموقف الواحد أو اللحظة الواحدة، وذلك على نحو يجعل التقابل عنصراً بنائياً أساسياً لرؤية شعرية لا تخلو من التضاد، خصوصاً في تركيزها على تجاور الأضداد الذي يغدو سبيلاً لزيادة المعرفة بكل منها على حدة. وقصيدة "السلام" تشبه قصيدة "سأقتلك" من حيث ما يصل بينهما بنائياً رغم بُعد ما بين موضوعيهما. فالأولى "السلام" تنبني على المقابلة بين عالم المثقفين الذين تشغلهم الثقافة عن الواقع، أو ينسيهم تأمل الحياة الحياة ذاتها، فتنغلق دنياهم على الكتب والأفكار، وعالم شحاذ مريض يلقي السلام على عصابة المعذبين بالأفكار، فلا ينال منهم سوى الزجر، فيمضي إلى ركنه كسير النفس، يعاني مرضه إلى حد الاحتضار الذي يدفعه إلى أن يلقي السلام على الدنيا بأسرها. أما عصابة الأشقياء فظلت على حالها، مغتربة عن واقعها، معذبة بالكتب، والكلمات إلى أن ابتل وجه الليل بالأنداء: ومشت إلى النفس الملالة، والنعاس إلى العيون وامتدت الأقدام تلتمس الطريق إلى البيوت وهناك، في ظل الجدار يظل إنسان يموت والكتب، والأفكار ما زالت تسد جبالها وجه الطريق وجه الطريق إلى السلام. وتلوّن دلالة كلمة "السلام" في تغيرها عبر القصيدة دلالة لا تفارق دلالة التناقض بين ذلك الإنسان الذي يموت، ممثلاً الواقع الفعلي، وعصابة المثقفين الذين ينعزلون عن هذا الواقع، محلقين في تهويماتهم الثقافية ونقاشاتهم النظرية التي تباعد بينهم وبين الفعل في هذا الواقع الذي يرون ضحاياه. قد نختلف مع الشاعر في إلقاء اللوم على الكتب والأفكار بشكل مطلق، فالكتب والأفكار يمكن أن تكون وسيلة فاعلة في القضاء على الفقر الذي يلد المرض، ولكن الشاعر الذي كتب القصيدة لم يكن وصل إلى عامه الخامس والعشرين حين كتبها. وكان تركيزه على إبراز التضاد يوازي العداء الذي خلفته فيه مراهقة يسارية سرعان ما تخلَّص منها، لكنه لم يتخلص قط من الوعي بالتضاد نفسه، خصوصاً من حيث هو قانون من قوانين الوجود ومن حيث هو مبدأ بنائي في تشكيل القصيدة التي كان يضني نفسه في إحكام مبناها. أما القصيدة الثانية "سأقتلك" فإنها تنبني على التضاد بين أحباب الحياة وأعداء الحياة، التضاد الذي أبان عن نفسه في "شنق زهران" ما بين الجلاد والضحية، أو ما بين التتار وجنود الوطن الجريح في "هجم التتار"، أو بين القاتل والشهيد في "الشهيد"، أو بين الحرية وغيابها في "عودة ذي الوجه الكئيب"، أو حياة الحب وموته في "طفل" أو بين السكون والحركة في "مرتفع أبداً"، بل حتى ما بين الحياة والموت الذي يحوّم كالأجدل المنهوم في غير قصيدة. لكن التضاد في "سأقتلك" يبدأ من الإرادة الوطنية التي تستلهم ميراثها النضالي للجدود، ومن ثارات الضحايا، ومن الرغبة في عالم سعيد يظله السلام، في مواجهة المجلى الجديد للتتار، أعداء الحياة الذين لا بد من قتلهم قبل أن يقتلونا. وهي المواجهة التي تُفتتح بها القصيدة وتختتم، ما بين جندي العدو وجندي الوطن، وذلك على نحو درامي يجسّد الصراع بين الضدين، فيؤكد عنصر الدراما من حيث هي تقنية بنائية سرعان ما فتحت الأبواب لولوج عالم المسرح الشعري في الأعمال اللاحقة.