تظهر قصيدة "شنق زهران" لصلاح عبدالصبور نموذجاً للبطل الشعبي الذي صاغه الوجدان الجمعي، وصنعه من حكاية فلاح بسيط محب للحياة التي سلبها أعداء الحياة، واصطفاه لكي يكون تمثيلاً له في علاقته بالاستعمار الذي جثم على صدره طويلا، وذلك في سياق تاريخي يلتقط منه الشاعر ما يستبقي بعد التمرد الاجتماعي في القصيدة، ويستبدل بالتمرد الميتافيزيقي التمرد الوطني الذي يؤكد معنى الاستقلال. وتأخذ القصيدة شكلاً أقرب إلى الحكي الذي لا يخلو من بعض خصائص القصة الشعرية البالاد BALLAD في تقاليد الشعر الأوربي كما لاحظ لويس عوض بحق، ولكنها قصة شعرية مصرية تمتح من موروثها الشعبي ووجدانها الوطني ما تصوغ به نموذجها الإيجابي التي ظلَّت تصعِّد من حضوره في مواجهة الغاصبين، بوصفه الرمز والعلامة: الرمز الدال على الظلم، والعلامة الدالة على الفجر القادم الذي لا بد أن يتولد من الأرض التي ارتوت بدماء زهران. وتمضي القصيدة من النهاية لتستدير إلى البداية، عائدة إلى النهاية نفسها، لكن بعد الكشف عن أسبابها والعوامل المؤدية إليها. وهي التقنية نفسها المستخدمة - بعد ذلك بعشر سنوات تقريبا - في مسرحية الحلاج التي تبدأ من نقطة النهاية، مستديرة إلى البدايات الكاشفة والموصلة إلى النتيجة التي تمثلت في نقطة النهاية. والبداية في حالة قصيدة "شنق زهران" هي الطبيعة التي يغلبها الحزن، وهو يتمدد في القرية كأنه ِتنّين له ألف ذراع، منذ أن تدلى رأس زهران الوديع. ومن البداية التي تثير الفضول، وتبعث الأسئلة المضمرة في الذهن عن زهران وعن مأساته، وعن المحن الصماء التي اقترنت بشنقه، تتحرك ذاكرة الراوي الشاعر مستعيدة حكاية زهران من بدئها: كان زهران غلاما أمه سمراء والأب مولّد وبعينيه وسامه وعلى الصدغ حمامه وعلى الزند أبو زيد سلامه ممسكا سيفا، وتحت الوشم نبش كالكتابة اسم قرية دنشواي. وتمضي الحكاية لتصف - مع تدافع تفعيلة بحر الرمل: فاعلاتن - كيف شبّ زهران قوياً ونقيًا مثله مثل طبيعة القرية التي نشأ فيها، وكيف كان مثل الناس في بلاده ضحاكاًً ولوعاًً بالغناء وسماع الشعر الشعبي في ليل الشتاء. وكبر زهران، واقترب من الرجولة، ونمت في قلبه زهرة تاجها أحمر كالنار، وساقها خضراء من ماء الحياة، وذات مرة: مر زهران بظهر السوق يوما واشترى شالا منمنما ومشى يختال عجباً مثل تركي معمم ويجيل الطرف .. ما أحلى الشباب عندما يصنع حُبّا عندما يجهد أن يصطاد قلبا. وعثر زهران على المرأة التي أحبها وأحبته، وأنجبت له غلامين، ضربا بجذوره في أصول الطينة السوداء، ومضت الحياة بهيجة، هانئة، آمنة، إلى أن جاء أعداء الحياة كالأجدل المنهوم، كالطارق المجهول، غير أنهم كانوا يرتدون ملابس جنود إنكليز، حاولوا اصطياد الحمام، فتسببوا في حرق بعض أجران القرية، وتصدى لهم الأهالي ففروا منهم بعد أن أطلقوا عليهم النار، ومات واحد منهم أثناء الفرار، فقامت قيامة القيادة البريطانية، وحدثت محاكمة أهل دنشواي - الفضيحة سنة 1906، وصدر الحكم بالإعدام شنقا لكل من حسن علي محفوظ، ويوسف حسن سليم، والسيد عيسى سالم، ومحمد درويش زهران لكن القصيدة لا تحكي هذه التفاصيل وغيرها، ولا تتوقف عند غير زهران من الذين حكم عليهم بالإعدام شنقا في قرية دنشواي، أو الذين حُكِمَ عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة، وتوقفها عند زهران على وجه الخصوص يرجع إلى ما اقترن باسمه من حكايات، أصبحت جانباً من الوجدان الجمعي المتوقد في سياق التخلص من الاستعمار. ولنتذكر أن القصيدة منشورة في تموز يوليو 1956، بعد عامين فحسب من جلاء آخر جندي بريطاني من مدن القناة، وفي الشهر الذي أعلن فيه عبدالناصر تأميم قناة السويس تحريراً للوطن من بقايا قلاع الاستعمار. وذلك مناخ يبعث الذاكرة الوطنية حية، ويدفع الوعي الجمعي إلى استعادة ذكريات نضاله، فيمتلئ وجدان الأمة برموزها التي أصبحت حية في خلده. ولذلك لم تجد القصيدة ضرورة للتفصيل في الحكي، واعتمدت على المشاهد الدالة وحدها، متنقلة بين الكنايات البصرية اللافتة، والمجازات المرسلة الكاشفة، مستبدلة بالاستعارات المركبة الإشارات المبينة عن ملامح الشخصية الجسدية والثقافية، خصوصا تلك التي لا يقتنصها تشبيه من مثل: ومشى يختال عجباً مثل تركي معمم. وتجلى ذلك كله فيما أبرزته القصيدة من نشأة زهران، منتقلة إلى مشهد فتوته، صاعدة من زواجه إلى الإشارة إلى ابنيه اللذين يشيران إلى امتداد الحياة، وذلك لتوقع الصدام بين هذا الامتداد وأعداء الحياة، وكان ذلك عندما: مرَّ زهران بظهر السوق يوما ورأى النار التي تحرق حقلا ورأى النار التي تصرع طفلا كان زهران صديقا للحياة ورأى النيران تجتاح الحياة مَدَّ زهران إلى الأنجم كفَّا ودعا يسأل لطفا ربما سورة حقد في الدواء ربما استعدى على النار السماء. والمقطع يحتشد بصوره البصرية، وتتابع مشاهده الدالة، والإشارة البصرية إلى النار تومئ إلى تفاصيل كثيرة على سبيل الإيحاء، وتفتح أبواب المخيلة الجمعية للاستعادة الموازية. ولا ينغلق المقطع إلا بتسجيل الاحتجاج الذي يتوجه إلى السماء يستعديها على أعداء الحياة. وينقطع الاسترسال الذي يمهّد للمقطع الأخير، لكي يأتي الختام باستعاراته وكناياته التي توحي بالمحاكمة عن طريق ذكر نتائجها المجازية، فنرى النطع والسياف والغيلان بدل المشنقة والجلاد وجنود الاحتلال، ويستبدل الحكي بالجلاد "السياف مسرور" ليبعث مخزون الحكايات الشعبية، على نحو ما فعل من قبل في وصف زهران الذي كان على صدغه حمامة كناية عن السلام، وعلى زنده "أبو زيد سلامة ممسكاً سيفاً" كناية عن تواصله مع تراثه الشعبي العامر بمحبة الفرسان الشعبيين المنحازين لقضايا العدل. ولكن سيف أبي زيد الهلالي انكسر مع الموت الذي صنعه أعداء الحياة لأحباب الحياة، فتدلى رأس زهران الوديع على مشنقة الظلم الذي أطاح برموز العدل والسلام والحياة في آن. ولم تعرف القرية - من يومها - سوى الدموع، وظلت تخشى الحياة، ولكن ذكرى زهران الذي أحب الحب، ومات وعيناه حياة، وتجسّد في حضوره الأبطال الشعبيون من أحباب الحياة، لا بد أن تدفع القرية إلى الحياة مرة أخرى، أو على الأقل تدفع بها إلى مواجهة السؤال الجارح: مات زهران وعيناه حياة فلماذا قريتي تخشى الحياة وقد كان الاستقبال المدوي لهذه القصيدة متجاوبا كل التجاوب مع الحماسة الشعبية لتأميم القناة، ومناخ حرب السويس التي سرعان ما اشتعلت بعد نشر القصيدة بأشهر معدودة، وتصاعد الشعور القومي بالوحدة التي أسهمت في انكسار الاستعمار، والثأر لكل أمثال زهران، ودفع الاستعمار إلى أن يحمل عصاه ويرحل مرة أخرى. وكان صوت جمال عبدالناصر يدوي من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج منادياً بوحدة العرب، داعياً إلى رفع رؤوسهم، منتقما لأمثال زهران، بانياً حياة جديدة لدعاة السلام وطالبي العدل من أحباب الحياة. ولم تكن مصادفة - في هذا السياق - أن تذيع الإذاعة المصرية قصيدة "شنق زهران" عشرات المرات في برنامجها العام بصوت المذيعة الشهيرة آمال فهمي، وكان استماعي إلى هذه القصيدة من الإذاعة المصرية بصوت آمال فهمي، في أعقاب حرب السويس، بداية معرفتي بشعر صلاح عبدالصبور، وبداية شعبية القصيدة في الوقت نفسه، الأمر الذي أدّى إلى أن تجذب القصيدة السينمائيين لإعدادها مع تفجر العداء للاستعمار على امتداد الوطن العربي، معتمدين في ذلك على قالبها القصصي الذي يتناسب والانتقالات الزمنية للمشاهد السينمائية. وقد أخرجت "شنق زهران" في فيلمين سنة 1969، مستعيدة الروح الوطني للخمسينات لمواجهة مناخ هزيمة 1967. وكان الفيلم الأول بعنوان "صديق الحياة" ومدته خمس وعشرون دقيقة، من إنتاج فيلمنتاج، والمنتج سعد الدين وهبة، وموسيقى سليمان جميل، وقام بالتعبير الحركي أعضاء الفرقة القومية للفنون الشعبية، كما قام بدور زهران نفسه الراقص محمد خليل، أما الديكور فكان من إعداد صلاح مرعي ومحسن محمد وغسان أحمد وسهير عبدالباقي، والتصوير لحسن عبدالفتاح. ونهض بالسيناريو والإخراج ناجي رياض في أول عمل سينمائي له. وألقى القصيدة الشاعر فاروق شوشة الذي كان يعمل وقتها مذيعاً في الإذاعة، وعرف بحلاوة صوته وبما نشره من قصائد. أما الفيلم الثاني فهو من تصوير رفعت راغب، وموسيقى عاطف عبدالكريم، ومونتاج حسين عفيفي، وسيناريو وإخراج ممدوح شكري. وعندما أسترجع هذه القصيدة، بعد كل السنوات التي مضت على استماعي إليها للمرة الأولى بصوت آمال فهمي سنة 1957، أجد أن نجاحها لم يعتمد على أنها أثارت الوجدان الوطني القومي باستجابتها إلى أحلام هذا الوجدان وتجسيدها له فحسب، وإنما اعتمد نجاحها - فضلاً عن ذلك - على خلق قصة شعرية متوثبة بالحيوية، زاخرة بتوتراتها الخاصة، وإلى قدرتها على خلق نموذج إيجابي يختزل في إهابه النماذج الإيجابية التي ينطوي عليها الناس في بلادي. وأضيف إلى ذلك لغة الحياة اليومية التي اعتمدت عليها القصيدة، والتي أعادت خلقها لتصنع ملحمة شعرية صغيرة من لغة الناس البسطاء أنفسهم، جنبا إلى جنب براعة الإفادة من المعتقدات الشعبية، ابتداء من الإشارة إلى أبي زيد الهلالي والسياف مسرور وانتهاء بالإشارة إلى اختيال التركي المعمم. وكان ذلك في موازاة الوشم على الصدغ والزند، واللجوء إلى السماء وقت الخطر. ولا تنفصل عن ذلك براعة الإفادة من طرائق الحكي الشعبي، ابتداء من تقمص شخصية الراوي الشعبي، مروراً باستخدام تقنيات الحكي الشعبي المعروفة كان يا ما كان.... وجماليات التكرار لافتة في القصيدة، تتجلى في تكرار الصيغة النحوية للفعل والفاعل والحال أو ظرف الزمان مع كل مقطع، كما تتجلى في تكرار بعض الجمل، فضلاً عن بعض الصيغ المأخوذة من الحكي، وأخيراً بعض الكلمات المفتاحية التي تضبط خطى المعنى وتؤدي إليه. ولا يوازي جماليات التكرار سوى الإيقاع المتدفق الذي لا يعتمد على تنويع التكرار العددي المقصود لتفعيلة الرمل وحدها، بل يضيف توزيع القوافي بما يؤكد نوعاً من نغمية الإنشاد التي يبرزها توزيع حروف المد التي تتجاوب مع الأحرف التي توقف تدفقها، مراوحة بين النغمات التي لا تفارق طبيعة الإنشاد الشفاهي. وهي طبيعة صاغتها العناصر الدرامية التي انطوت عليها القصيدة، حتى على مستوى الصراع البسيط بين أحباب الحياة وأعداء الحياة. وهو صراع صنعت مهاده وأسهمت في تجسيد أبعاده الكنايات البصرية المتفاعلة مع لغة الحياة اليومية، في موازاة الاستعارات القريبة والتشبيهات، بل التراكيب التي تتعمد كسر رقبة البلاغة التقليدية وخلق بلاغة شعبية جديدة، بلاغة جعلتنا ننظر إلى عالم القرية بعينين لا تقلان واقعية عن عيني عبدالرحمن الشرقاوي التي امتلأت بالمعذبين في أرض القرية، ونسجت من عالمهم القصيدة - العلامة "من أب مصري" المنشورة للمرة الأولى سنة 1953، والتي كانت إحدى المنارات التي اهتدى بها صلاح عبدالصبور في صياغته ناس بلاده، كما اهتدى بها في الانحياز إلى الكادحين المعجونين بطين "الأرض" من أمثال "زهران" الذي لم يختلف عنه كثيراً في ملامحه الجاذبة "الفتى مهران" الذي صاغه عبدالرحمن الشرقاوي بعد ذلك بسنوات.