أحسب أن البُعد الدرامي الذي ينطوي عليه ديوان "الناس في بلادي"، لصلاح عبدالصبور هو ما جعل البناء الغالب على مجموعة من القصائد هو البناء الصاعد إلى نقطة بعينها هي ذروة البناء. يستوي في ذلك أن يكون البناء صاعداً في امتداد دائري أو حلزوني إذا استخدمت المصطلح الذي استخدمه عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية" أو هرمي، فالمهم هو البدء من نقطة لا تلبث أن تصعد منها القصيدة إلى ذروتها بأساليب متنوعة، وعلى نحو تدريجي إلى أن تصل إلى الذروة الشعرية التي تقود كل أسطر القصيدة إليها، وتسهم في تجلياتها بما يكتمل به المعنى الكلي. ومثال ذلك قصيدة "الناس في بلادي" التي يأخذ الديوان عنوانها، وقصيدة "الملك لك" التي تضيء إحدى الدلالات البارزة في الديوان وتجسدها. أما "الناس في بلادي" فتبدأ بداية التعميم التي تنتقي الصفات النمطية لهؤلاء الجارحين كالصقور، الذين يقتلون ويسرقون ويشربون ويضحكون ويبكون لأنهم بشر، لا تفارقهم طيبة متأصلة وإيمان بالقدر. والبداية التعميمية تبدو أقرب إلى المقدمة التي تصنع المهاد، لتمضي بعده إلى التخصيص عبر مشاهد متنامية: المشهد الأول هو مشهد العم مصطفى الذي يحب المصطفى، والذي يحكي للفلاحين حوله، في ساعة الأصيل، حكايات المصير التي تضع الإيمان بالقدر موضع المساءلة على نحو ضمني، والتي تنتهي بالتعليق الذي يبرز دلالة المساءلة، ويكشف عن تدخل صوت راوٍٍ مضمر، لعله صوت الشعر الذي يتكلم واصفاً، لكنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من التعليق على مسار المشهد، أو بعض نقاطه الدالة. ولذلك يبدو التعليق: يا أيها الإله ... بمثابة استخلاص دلالة حكايات المصير التي يرويها العم مصطفى. وفي الوقت نفسه بمثابة دورة مرحلية تفضي إلى صعود يتواصل في مشهد المقطع الثالث والأخير. وهو المشهد الذي يموت فيه العم مصطفى، ويمضي في جنازه هؤلاء الذين حكى عليهم حكاياته: ... وعند باب القبر قام صاحبي خليل حفيد عمي مصطفى وحين مد للسماء زنده المفتول ماجت على عينيه نظرة احتقار فالعام عام جوع والنهاية على هذا النحو تضيء القصيدة كلها من حيث ذروة صعودها، فتصل بين أبرز قضايا الوجود المتصلة بالموت وأبرز قضايا المجتمع الفقير المتصلة بالجوع، وتضفر بين القضيتين في علاقة متبادلة الدلالات، وذلك على نحو يرد الاحتجاج الوجودي الخاص بغياب المعنى عن حكايات المصير على الاحتجاج الاجتماعي على امتداد أيام الجوع، والعكس صحيح بالقدر نفسه، فتكون النتيجة تبرير البداية التي تصف الملامح الخشنة لهؤلاء "الناس في بلادي" من حيث هي ملامح احتجاج ينطوي على قسوة القتل وعنف الخطو، لكنه احتجاج لا يخلو من طيبة إنسانية دالة على خصوصية الغناء الذي يشبه رجفة الشتاء والضحك الذي يئز كاللهيب في الحطب. ويسهل ملاحظة أن صعود القصيدة إلى ذروتها لا يخلو من منطق أرسطي في علاقة النهاية بالبداية، وذلك بما يبين عن نزوع عقلاني لا يفارق علاقات السببية التي تفضي أوائلها إلى أواخرها، وترتد أواخرها إلى أوائلها من حيث هي عِلَّتها التوليدية، وذلك بما لا يخلو من دائرية تزيدها وضوحاً قصيدة "الملك لك" بملامحها القصصية التي تصلها بملامح "الناس في بلادي". والبداية في الاثنتين هي ضمير المتكلم، لكنه في "الملك لك" ضمير من يحكي عن نفسه لا عن غيره، مخاطباً الحبيبة المجهولة التي لا تذكرها القصيدة إلا بصفتها وسيلة فنية تتحرك بها التداعيات التي تنبني عليها القصيدة، خصوصاً من حيث هي معارضة مضمرة لقصيدة ت. س. إليوت "الرجال الجوف". وتبدأ "الملك لك" على هذا النحو: أواحدتي قبلما نلتقي، بذاك المساء السعيد البعيد، / بلوت الحياة وأرزاءها، عرفت صليل القيود الحديد. / وكم ليلة جعت يا فتنتي، وأخرى ظمئت، / وكم جَعّدت عارضيّ الدماء، وقد وخزتها ليالي الشتاء. / تصارعت والهول وجهاً لوجه، ولكنني ما عرفت الفرار. والاستهلال بلغته البسيطة، وتدفقه الإيقاعي الذي تؤديه تفعيلة المتقارب فعولن وحرصه على التقنية التي تبرز التدفق، يصوغ ملامح رجل خبر الدنيا وصلب عوده من كثرة مواجهاتها، فانطوى على معاني الخبرة والشجاعة والتحدي والإرادة والمواجهة، باختصار كل الصفات التي لا تجعل منه رجلاً أجوف، فارغاً من كل ما يؤكد حضوره، بل رجلاً مليئاً بكل ما يؤكد معاني الحضور في الوجود، ابتداء من فيض السرور والحب الذي ينوّر عينيه. والبداية على هذا النحو تتحول إلى ما يشبه السؤال عن الأسباب الذي جعلت هذا الرجل يتخذ هذه الملامح الإيجابية، ويكون على ما هو عليه: قوة حضور، وصلابة إرادة، وفرحة بالحياة، وحباً للآخرين. وتأتي إجابة السؤال على هيئة استرجاع لحياة هذا الرجل منذ الصبا البعيد، حيث الصحبة والأخوة: حفنة الأشقياء ينامون ظهراً على المصطبة، يحلمون بقصر مشيد، والأم التي تخيف أبناءها بنقمة الآخرة وتحميهم باسم النبي. وتمضي أحداث هذا الصبا البعيد لتسلم إلى بداية الوعي التي تجسّدها صدمة الموت، موت الأخ العفي فجأة، ودفنه في مقبرة دقوا الحديد على بابها، فدقوا في الوعي مسمار السؤال عن المصير: أكان يدق صليب الحديد على رأسه يوم كان قوياً تضج الحياة بشريانه ويفوح العرق ومن موت هذا الأخ انبثقت صحوة الوعي، وبدأت رحلة التجريب والمهارة، فأضحت حياته لهيباً، ولكنه خرج من هذا اللهيب كالعنقاء، عفياً بإيمانه بحضوره الخلاق في الوجود، واعياًً بما قالته له الأرض... وكانت بداية اكتمال هذا الوعي الإنساني بداية الكتابة التي تكتب نشيد البناء ليعرفه الإخوة الأصفياء من القراء، فيدركون أنهم ليسوا رجالاً فارغين، وأن أصواتهم ليست خالية من المعنى، ولا تشبه وقع أقدام فئران على زجاج مهشم في قبر جاف، وأنهم شكل له صورة، وظل له لون، وقوة متفجرة بالحركة، وليسوا أرواحاً ضائعة في الأرض الميتة، أرض الصبار، وليسوا عمياناً بلا أمل يطمحون إليه بل أرواح يملؤها العزم، وأعين مبصرة يقظة تعرف طريقها، فلا تضيع بين الفكرة والواقع، أو بين الحركة والفعل، لأنها تنطوي على سر الحضور في الوجود، ولا تكف عن الإيمان العميق بنشيد البناء الذي يجعل الملك للإنسان، ولا ملك إلا له فوق الأرض لا تحتها، بين التصور والخلق، أو الوجدان والاستجابة، أو القوة والوجود، حيث يبدأ العالم بنشيد البناء... تعود القصيدة إلى بدايتها في ما يشبه الدائرة، ويعود المتكلم إلى غرفته، يزحم نفسه انبهار الكشف الذي تجلى به الإنسان معنى ومغزى وحضوراً، فينظر إلى السماء التي تنقشع ظلمتها، وتضيء بانهمار النجوم التي تغمر وجهها بالسلام، وتصدح أجراسها بالفرح الذي ينطلق من قلب الشاعر: وأفرح يا فتنتي بالحياة وبالأرض بالملك، الملك لك وهي نهاية تعيدنا إلى البداية، كاشفة عن كل معنى مضمر فيها، مجيبة عن السؤال الضمني الذي انطوت عليه، في ما يشبه حركة الدورة التي تعيدنا نهايتها إلى بدايتها، لكن بما يغدو ذروة للبداية وتحقيقاً لكل إمكاناتها الدلالية. ويمكن أن نلمح مجلى آخر لهذا البعد الدائري للبناء في شنق زهران، حيث تبدأ القصيدة من شنق زهران، مع ذلك الحزن الذي مشى إلى الأكواخ كتنين له ألف ذراع، ومن المحن الصماء التي تراكمت في نصف نهار، مذ تدلى رأس زهران الوديع. وهي النهاية التي تتحول إلى بداية، ينقلب معها الزمن عائداً إلى بدئه منذ أن: كان زهران غلاما / أمه سمراء والأب مولّد / وبعينيه وسامه / وعلى الصدغ حمامه / وعلى الزند أبو زيد سلامه. ويمضي الزمن من نقطة البدء في صعوده المتعاقب عبر مشاهد دالة، شباب زهران، زواجه وإنجابه، مروره بالسوق واصطدامه بالجند الذين تسببوا في إشعال النيران، المحاكمة وجنود الاستعمار الذين صنعوا الموت لأحباب الحياة، وتدلى رأس زهران الوديع، ومن ثم كل هذه المحن الصماء في نصف نهار، فتردنا خاتمة القصيدة إلى بدايتها في ما يشبه الدائرة، لكن التي لا تكتمل إلا بما يضيء المعنى الكلي للحديث عن هذه القرية التي لا تأتدم من يوم شنق زهران إلا الدموع، والتي لا تزال تخشى الحياة، وذلك لتصدم القصيدة وعي القرية بالسؤال الختامي: كان زهران صديقاً للحياة / مات زهران وعيناه حياة فلماذا قريتي تخشى الحياة وليس من الضروري أن تردنا النهاية إلى البداية على هذا النحو الدائري الواضح في كل مرة، فقد يحدث ذلك على نحو غير مباشر، وفي ما يشبه الامتداد الرأسي أو حتى الأفقي الذي تكتسب بداياته المزيد من المعنى باكتمال نهاياته. ومثال ذلك قصيدة "أغنية حب" التي ترتحل القصيدة من ملامحها في ما يتجاوب مع معنى الرحلة اللاحق الذي تنطوي عليه القصيدة التي تنبني من ثلاثة مقاطع. المقطع الأول هو الوصف الجسدي للحبيبة وجه، شعر، خد، جيد، نهد، حضن بما يرهص بوعي الجسد الذي سيتجلى تدريجاً في الدواوين اللاحقة إلى أن يصل إلى ذروته في قصيدة من مثل "انتساب" في الديوان الأخير "الإبحار في الذاكرة". أقصد إلى الوصف الذي يجعل القرب من الحبيب قرين الجنة والسلام والأمان، أي قرين ما ينسى كآبة المصير الذي يحمله أجدل منهوم أو ملثم شرير. هذا الوصف يغدو البداية السببية التي يترتب عليها المقطع الثاني الذي هو إشادة بالمعاني التي يجسّدها الحضور الجسدي للحبيب، فيعلق أقدار المحب بمحبوبه الذي يغني للحبيب بما يفتح عوالم الخيال. ويأتي المقطع الثالث إبحاراً في هذه العوالم بحثاً عن لؤلؤة، وينتهي البحث بالمقطع الأخير الذي يضيف إلى المعنى، ويمثل تصعيداً إلى نقطة الكشف: سيدتى إليك قلبي واغفري لي .. أبيض كاللؤلؤة وطيب كاللؤلؤة / ولامع كاللؤلؤة ويتخذ التصاعد السببي أشكالاً أخرى، من أهمها الشكل الذي يقوم على التداعي الذي يتدفق حول موقف يا نجمي أو فكرة الحزن أو حدث مرتفع أبداً أو رمز الطفل أو تمثيل عودة ذي الوجه الكئيب أو خطاب رسالة إلى صديقة أو عدوان هجم التتار.. وهو الشكل الأقرب إلى الطبيعة الأولية للقصيدة الغنائية حيث تنطلق التداعيات من مفجر بعينه، وتظل صاعدة عبر تراكمات يضيف لاحقها إلى سابقها في مشاهد متنوعة أو ذكريات متتابعة، إلى أن يحدث الاكتمال الذي يغدو بمثابة الخاتمة.