أتصور أن القلق الوجودي الذي تجسّد في قصائد من طراز "رحلة في الليل" و"الحزن" - في ديوان "الناس في بلادي" لصلاح عبد الصبور - كان بمثابة اللازمة المنطقية للتمرد الذي تجسّد في القصائد الاجتماعية والوطنية، احتجاجاً على الفقر والظلم والاستعباد والاستعمار، فالاحتجاج على ما في الوجود من نقص يصنعه الإنسان لا ينفصل عن الاحتجاج على تحول الوجود نفسه إلى أسئلة مؤرقة لا تثمر سوى الحزن، الحزن الذي يغدو - في هذا السياق- نوعاً من الاحتجاج الذي يصل بين الهم السياسي الاجتماعي الوطني المؤرق بقضايا الحرية والعدل والاستقلال والهم الوجودي المؤرّق بقضايا المصير. ولكن إذا كان الهم السياسي الاجتماعي الوطني مقروناً بالمسعى النهاري في قصائد الناس في بلادي، تأكيداً لقيم الحرية والعدل والاستقلال، فإن الهم الوجودي مقرون بالمسعى الليلي في القصائد التي يجسّدها التوحد وتتجسد به، والتي يغدو تدبير المتوحد في تأمل معضلات الوجود فضاءها المحاط بالظلمة المتكاثفة، والظلام محنة الغريب المعرفية والروحية، خصوصاً في اغترابه الذي ينأى به عن فرحة الآخرين في النهار. والليل قرين التوحد بهذا المعنى، فهو لازمة لوازم البعد عن الآخرين للاقتراب منهم، وأفق للتأمل في معضلات الوجود بعيداً عن ضجيج النهار، ومجال للعزلة التي تخلو فيها الذات لنفسها لتتعرف أحوالها، كما أنه نبع الإبداع الذي يتولد منه الشعر كما تتولد المعرفة التي لا تهبط حقائقها إلا في لحظات الإشراق التي تضيء ظلمة الليل، ولا تأتي إلا بعد الوحدة، وإفراغ الذات من كل ما يمنعها من أن تكون وحيدة مع الواحد: المطلق أو الوجود أو القصيدة. وليس من المصادفة - والأمر كذلك - أن تغدو قصائد القلق الوجودي قصائد ليلية بأكثر من معنى في ديوان "الناس في بلادي". التوحد الوجودي في الديوان قرين "الليل الموحش" الذي "يولد فيه الرعب" و"تعتل كليمات الحب" كما في قصيدة "يا نجمي الأوحد". ولا يتمدد في النهار الذي يشغلنا بطلب الرزق المتاح في قصيدة "الحزن" وإنما يأتي مع المساء، في حال من التوحد الذي يقترن بعزلة الكائن عن الآخرين، فيغدو حزناً ضريراً، طويلاً كالطريق من الجحيم إلى الجحيم، كما يغدو صمته نوعاً من عدم الرضا: بأن أياماً تفوت / وبأن مرفقنا وهن / وبأن ريحاً من عفن مسّ الحياة فأصبحت وجميع ما فيها مقيت. ولا ينقذ الكائن من الحزن - في قصائد "الناس في بلادي" - إلا الحب الذي يحتمي به الكائن من وطأة الليل الموحش، أو لحظة الإشراق التي تقترن بالتصوف أو الإبداع. التصوف الذي تتداعى حدوسه في النوم الذي هو غيبة عن الخلق بواسطة أمثال الشيخ محيي الدين - في قصيدة "رسالة إلى صديقة" - حيث إشراقة السفر الليلي في حدائق الصفاء، عندما يعقد الوجد اللسان، ومن يُبح يضل في مفرق الطريق. أما الإبداع فقرين الليل والوحدة "في عالم يلتف في إزاره الشحيب" في قصيدة "أغنية ولاء" وقرين اكتشاف "اللؤلؤة" التي تضيء ظلمة الليل في قصيدة "أغنية حب". وقصيدة "رحلة في الليل" التي يفتتح بها ديوان "الناس في بلادي" المنشورة في مجلة "الآداب" البيروتية في شهر حزيران يونيو 1955 تنطوي على أكثر هذه الأبعاد، فهي تجسيد لأحوال من التوحد، وهي رحلة إلى المعرفة وإلى الإبداع في الوقت نفسه، وهي كون من الحزن الذي يتولد عن معضلة المصير الذي هو هوّة تروّع الظنون، وعن معضلة الموت الذي ينقضّ كالأجدل المنهوم ملتهماً حتى الأحلام الوادعة. وهي لم تكن أولى قصائد "الناس في بلادي" فحسب، وإنما الأولى في سلسلة متكاملة من القصائد الليلية التي ظلت تترى عبر دواوين صلاح عبد الصبور المتتابعة، لا تقتصر على القصائد التي تضع مفردة "الليل" في عنوانها فحسب، مثل "أغنية لليل" في "أحلام الفارس القديم" أو "انتظار الليل والنهار" أو "عود إلى ما جرى ذلك المساء" في "تأملات في زمن جريح" أو "تأملات ليلية" و"4 أصوات ليلية للمدينة المتألمة" و"تقرير تشكيلي عن الليلة الماضية" في ديوان "شجر الليل"، وإنما تجاوز ذلك إلى ما يجعل من رمز الليل نفسه رمزاً من الرموز الأساسية المتكررة في شعر صلاح عبد الصبور، رمزاً لا يمكن فهم عالم صلاح وإدراك خصوصيته إلا بتأمل هذا الرمز في سياقاته المختلفة وتجلياته المتباينة، ابتداء من قصيدة "رحلة في الليل" التي كانت بداية "الليليات" ورحمها الذي تولدت منه تجليات المصاحبات الفرعية لرمز الليل الأساسي. وتنفرد قصيدة "رحلة في الليل" عن غيرها من قصائد "الناس في بلادي" بميزة شكلية تخصها، إلى جانب الابتداء، فهي قصيدة "سيمفونية" تتكون من ستة مقاطع متناظرة، أو ست حركات إذا استخدمنا لغة التركيب السيمفوني، كل منها يمضي في اتجاهه الخاص دلالياً، لكنه يعود في النهاية ليتجاوب مع الباقي بما يمهد للمقطع الختامي الذي يغدو بمثابة التصاعد النهائي للتنوع النغمي. ولكل مقطع عنوان، الأول: بحر الحداد، والثاني: أغنية صغيرة، والثالث: نزهة الجبل، والرابع: السندباد، والخامس: الميلاد الثاني، والسادس: إلى الأبد. وتقنية البناء مأخوذة من الشاعر الأميركي الأصل بريطاني الجنسية ت. س. إليوت بالقطع، على نحو ما نقرأ في قصيدته الشهيرة "الأرض الخراب"، بل إن استعارة "الشطرنج" الموجودة في "رحلة في الليل" مأخوذة عن الاستعارة نفسها التي عنوَن بها إليوت المقطع الثاني من قصيدته. ولكن قصيدة صلاح عبد الصبور لا تحاكي قصيدة إليوت، وإنما تأخذ عنها التقنية الخاصة بتشكيل المقاطع، وتتباعد عنها في الاتجاه، مؤرقة بهمومها الوجودية الخاصة وميراثها الحضاري المختلف ولوازمها المحلية المائزة. هكذا، تبدأ القصيدة ببحر الحداد الذي هو تسمية أخرى لليل الذي ينفض المتوحد بلا ضمير، ويطلق الظنون في فراش عزلته، فيثقل قلبه بالسواد، السواد الذي تبدأ بوادره مع المساء، وتتزايد حين يقفر الطريق وينفض الجمع، وتنتهي لعبة الشطرنج لعبة الحياة مع الشاه الذي يموت كما يموت النهار، فلا يبقى سوى الكائن المغترب الذي يعود إلى توحده، يستغرق فيه بكليته، غير عابئ بالأصوات التي تنداح في دوامة الكون، حتى لو كان موضوعها النساء في الشتاء والخمر التي تفضح الإزار. وتوازي تأملات هذا المتوحد في المصير الأغنية الصغيرة التي يأتي بها المقطع الثاني: عن طائر صغير / في عشه واحده الزغيب / وإلفه الحبيب / يكفيهما من الشراب حسوتا منقار / ومن بيادر الغلال حبتان / وفي ظلام الليل يعقد الجناح صرة من الحنان / على وحيده الزغيب / ذات مساء حط من عالي السماء أجدل منهوم / ليشرب الدماء / ويعلك الأشلاء والدماء / وحار طائري الصغير ثم انتفض. هذه الحكاية التمثيلية هي النواة التي تتفرع منها، أو القيمة التي تكررها، حكايات مماثلة تتحدث عن المصير، ومنها الحكايات الثلاث التي تنبني عليها قصيدة "رسالة إلى سيدة طيبة" من ديوان "أحلام الفارس القديم" حيث نواجه ذلك الطائر الذي أغوته الريح الرخية بالاندفاع في طيرانه، فمضى منطلقاً بلا خوف، لكن سرعان ما انقلبت الريح الهادئة، وتحولت إلى عاصفة كسرت جناح الطائر البريء الذي خدعه الوجه الوادع من الريح عن وجهها الآخر المقترن بالمصير، والمصير هوّة تروع الظنون كما تؤكد الرحلة الليلية في قصيدة "رحلة في الليل". ولذلك لا تنتهي الحكاية الحزينة الختام - في المقطع الثاني من "رحلة في الليل" - إلا بما يضيء معنى رحلة ضياع الإنسان في بحر الحداد الذي هو بحر العدم، أو بحر العبث الذي سيظهر في ما بعد مع قصيدة "الظل والصليب" في الديوان اللاحق، ولكن النهاية في الأغنية الصغيرة ترهص بالمقطع الثالث، نزهة الجبل، وتكشف عن هوّة المصير التي تروّع الظنون، فتجعل من الأجدل المنهوم مجلى استهلالياً للطارق المجهول، الملثم الشرير، هذا الذي وجهه وجه بوم يدعونا إلى مصير معلوم، محتوم، تماماً كالحضور السام للملثم الشرير الذي يقترن بالظلمة، ومن ثم بكل ما يقضي على إمكانات البهجة، ويسلب حتى فرحة الأمل بنزهة على الجبل، تشم نفحة الجبل: أو تحتفي بالحياة في نقائها. ويأتي المقطع الرابع بما يؤكد معنى الرحلة المتسرب في كل المقاطع، ولكنه يركز هذه المرة على رحلة الإبداع التي لا تبدأ إلا في الليل، ويمضي فيها الشاعر مبحراً في فضاء اللاوعي كالسندباد الذي يبحر في محيطات الأرض، يجمعهما البحث عن المعرفة، لكن معرفة الشاعر حدسية، لا تشرق إلا بعد أن ينضح الجبين بالعرق، وبعد أن يخلص الشاعر لشعره إخلاص الصوفي لمحبوبه. عندئذ، تكون بهجة الرحلة هي القصيدة التي تغدو كالحال الصوفي لا يمكن إفشاء سره، ويكون الشاعر كالسندباد الذي إن يهدأ يمت، فالإبداع معاناة وارتحال دائم، ونبذ لكل هؤلاء القاعدين الذين يضاجعون النساء، ويغرسون الكروم، أو يحفظون الكتب التي يقلدونها في الصباح والمساء. وعندما يتحقق الإبداع على هذا النحو يكون الميلاد الجديد للمبدع، والتجدد المتكرر للحياة نفسها، حيث القيمة التي يدور حولها المقطع الخامس، الميلاد الثاني، وهو الميلاد الذي ينتهي به الليل مع الفجر الذي يحتفي الصباح بمقدمه السعيد، ويحتفي الوجود بالحياة التي تتجدد فيها الطبيعة، ويتجدد الإنسان بالجنس والحب الذي يتحول إلى ورد في خد البنات، فتنبعث في الذاكرة نزهة الجبل كأنها حنين جديد إلى الانعتاق. ولكن هذا الحنين يقطعه تذكر الأجدل المنهوم، ومن ثم تذكر الموت الذي يعود مع استعارة الشطرنج، ومع موت الشاة، وغياب النهار، والعودة إلى التوحد، ومن ثم العودة إلى الرحلة نفسها: / لنكمل النزال فوق رقعة البياض والسواد / وبعد غد / وبعد غد / سنلتقي إلى الأبد. ويتأكد معنى الصيرورة في هذا النوع من الختام، إذ تتكرر الدورة الأبدية لتعاقب الحياة والموت، أو تعاقب النهار والليل، في لعبة المصير التي لا يحكمها الإنسان الذي يغدو بعض قطع اللعبة، والذي لا يستطيع أن يحدد - أو حتى يعرف - نهايتها، فعلمه يتوقف عند أبديتها، وأنه أداة في مرحلة من مراحلها التي تتكرر إلى ما لا نهاية. ولذلك لا يستطيع المرء أن يمضي طويلا في تأمل هذا الختام لقصيدة "رحلة في الليل" من غير أن يستعيد صورة "الأجدل المنهوم" و"الطارق المجهول" و"رحلة الضياع في بحر الحداد". وهي الرحلة التي تتكرر مثل لعبة الشطرنج، إلى أن يحدث الفناء الأبدي للوجود كله. هل الحضور الليلي لقصائد القلق الوجودي يتوقف على الناس في بلادي؟ إنه يبدأ منها لينتقل إلى غيرها من القصائد، لكن مع ملاحظة مهمة أن اللياليات تزداد ظلمتها كثافة كلما اجتمع مع القلق الوجودي الهم السياسي الاجتماعي الذي لا يجد تعبيراً عنه، أحياناً، إلا بقصائد القلق الوجودي، وذلك بالقدر الذي يتجسّد به القلق الوجودي من خلال الأحزان الليلية الصخابة للهم السياسي والاجتماعي في زمن لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله.