وها نحن نصل اليوم الأربعين لرحيله، ها قد استطعنا أن نعد على أصابعنا حتى الأربعين! لكن موته في الحقيقة لم يكن بحاجة الى كل هذا الوقت كي يتحوّل الى مساحة شاسعة للتأمل، على الصعيدين الإنساني والثقافي، على رغم أنه جاء مفاجئاً، الى حدّ نسي معها أولئك الذين قرأوا ذات يوم مرثية لوركا لمصارع الثيران قوله الجميل: حتى البحار تموت. ولعل مساحة التأمل الأولى تبدأ بالجنازة، التي أمها عدد كبير من الناس، كانوا على طرفي نقيض، من حيث الانتماءات، ومن حيث اختلاف موقع الرؤية لمعنى وجود الكاتب والكتابة على سطح هذه الأرض ومعنى رحيله، وكان بإمكان المرء ان يرى مديراً سابقاً للاستخبارات مثلاً، وعدداً لا يحصى من السجناء القدامى في أقبيته، كما كان بإمكانه ان يرى وزراء، كانوا ذات يوم رفاق درب للراحل وأبيه، وشباباً لم يعرفوا من مؤنس سوى ألق الكتابة قراء محبين. وأن يرى بالطبع كتاباً زملاء لمؤنس اكتشفوا فجأة أنهم ينتمون الى عمر هذا الرحيل المبكر، فتحوّلت نظراتهم لبعضهم سؤالاً عن أي منهم سيكون التالي، ولعل الموت - كعادته - يجدها فرصة لاختيار واحد أو أكثر من تجمعات كهذه تملأ بيته، لئلا نقول المقبرة!! لقد تجاوزت الجنازة معناها الثقافي لدى كثيرين، وتحوّلت بالطبع، كل الجنازات الى مناسبة اجتماعية. لكن المفارقة هنا، ان عائلة مؤنس الصغيرة لم تكن سوى عائلة صغيرة لا غير، الأب بأصوله السورية، والأم بأصولها الفلسطينية، وخارج هذا الإطار الضيق ليس ثمة عشيرة أو قبيلة، يمكن ان يتحوّل تقديم العزاء اليها الى مجاملة لا بد منها في مدينة صغيرة كعمان. والحقيقة، ان المرء سيحار كثيراً، فيما لو شغل نفسه بالبحث عن سبب لحضور بعض الاشخاص، لأن المشهد ينتمي الى صفحات سريالية من كتاب الواقع العربي الذي لم يكتب بعد. لقد كان مؤنس موجوداً دائماً، وكان حضوره القوي روائياً طوال عشرين عاماً بالتمام والكمال لا جدال فيه، فلا يمكننا القول إن تعتيماً حجب أي عمل من أعماله، ولكننا فجأة، وبعد الجنازة وجدنا كتبه تتحوّل الى أكثر الكتب مبيعاً في عمان، على رغم ان عبارة الأكثر مبيعاً في العالم العربي لا تشير بأي حال الى معناها الغربي الذي يعني ان الكتاب يبيع ملايين النسخ، ففي أفضل الحالات لدينا يبيع الكتاب مئات النسخ أو آلافاً عدة منها للعالم العربي كله، وقد يعني بيع نسختين في مكتبة من مكاتب باريس أو لندن من كتاب ما خلال أسبوع، ان هذا الكتاب هو الأكثر مبيعاً في عاصمة الجمال وعاصمة الضباب خلال أشهر! لكننا هنا معنيون بفكرة الإقبال على مؤلفات الكاتب بعد موته، وفي هذا كثير من الأسى الذي يستدعي جملة محمود درويش "يحبونني ميتاً"، خصوصاً إذا ما عرفنا ان أعمال مؤنس الروائية كانت تستحق دائماً هذه الحفاوة، وكان يمكن ان يتحوّل الإقبال عليها في حياته الى مصدر حقيقي من مصادر إيمان صاحبها بجدوى الحياة، ومصدر أساس للسعادة ايضاً. ولم تلبث أمانة عمان بلديتها أن دفعت الأمر خطوة أخرى الى الأمام حين أطلقت اسم مؤنس على أحد شوارعها، وخصصت جامعة أهلية منحتين للطلبة باسمه، فكأن الجانب الرسمي يحتفي بالموت مناسبةً، ومعه الجانب الشعبي ايضاً، وهذا كله يتوّج بحفلة تكريمية تقام اليوم الاربعاء في الجامعة الاردنية لن يبخل فيها أحد بإعلان حبه للراحل، وقد كان يمكن ان يكون نصف هذا الاحتفاء بالحياة وفي الحياة، رائعاً، قبل مغادرة الروح جسد صاحبها. بالطبع، لن ينتهي الأمر عند هذا الحد، فهناك ندوات بحثية معمّقة ستقام بلا شك لدراسة آثار الراحل وقد تعلن جائزة باسمه، وقد يوضع رسمه على طابع بريد في الذكرى الأولى لرحيله، وقد وقد... لكن ذلك لا يخفف من قسوة فكرتنا عن الإبداع والمبدعين حين نحتفي بموتهم أكثر مما نحتفي بحياتهم أو ببقائهم بيننا. كما لو أننا نقول لهم: فقط موتوا، وانظروا كيف سنحبكم بعد ذلك. كما يستدعي هذا الموت مساحة أخرى للتأمل، تتعلق بالمبدع ذاته، وبمعنى ان يكتب، باعتبار الكتابة هي الدليل الحقيقي على وجود الكاتب، كما يعني المطر الدليل الحقيقي على وجود الغيمة والشتاء. ومن هذه الزاوية الواسعة، كان مؤنس يكتب غير عابئ بأولئك الذين لا شغل لهم سوى ان يجلسوا ليحصوا عدد الكتب التي يكتبها، مسلحين بأدوات الهجاء الصغيرة التي تترعرع عادة في وحل النميمة وثقافة الثرثرة. الآن، بعد هذا الرحيل المبكر يمكن ان نفهم معنى إنجاز ثلاث روايات في عام واحد، وهو رقم استثنائي بالطبع لإنجاز أي روائي، ودافع الفهم هذا هو مفاجأة الموت تلك، وليس الأمر هنا دعوة للآخرين لكسر هذا الرقم القياسي، لأن الكتابة ليست مضمار سباق من تلك السباقات الطويلة والقصيرة في أولمبيادات العالم، بل هو دعوة للكاتب لأن يكتب حين يجد ان الوقت هو وقت الكتابة، من دون ان يُعير أي انتباه لما هو خارج الكتابة. فالغيمة الحبلى بمطر أكثر كثافة نحتاج اليها تماماً، مثلما نحتاج الى تلك التي تنعش أرواحنا برذاذها الناعم! أما المساحة الأخيرة للتأمل هنا، فيمثلها ذلك القلق الذي يعصف بأرواح المبدعين الحقيقيين، ولعل حال مؤنس من الحالات النادرة عربياً في هذا المجال، فقد كان بمثابة أمانة وضعها والده بين يدي كثيرين ممن أحبوا واحترموا ذلك الأب الذي عاش مناضلاً متقشفاً في غير عاصمة عربية، ومات في إقامته الجبرية بعيداً من ولده مؤنس" ولذا، كان مؤنس بمثابة الإبن المدلل للجميع، للسياسي، رفيق درب الأب الذي ظل على ايمانه برسالة التقدم، والسياسي الذي اختار درباً مغايراً تماماً وتحوّل الى نقيض، ووجد في مؤنس مساحة لتبييض الضمير. من هنا، لم يحظ أي كاتب في الأردن، وربما في العالم العربي، بمثل هذه الحفاوة، ولم تفتح لأحد الأبواب مثلما فتحت أمامه، فقد وفرت له ظروف عمل مناسبة في المؤسسات غير الرسمية مثلما وفّرت له في المؤسسات الرسمية، وفي السنوات الاخيرة كان يعمل في ظروف ممتازة مستشاراً لأكثر من وزير ثقافة، ورئيساً لتحرير المجلة الثقافية الوحيدة في الأردن "أفكار" وكاتب عمود يومي في "الرأي" أكبر الصحف الاردنية، وكاتباً يومياً في "الزمان" اللندنية... وعلى رغم ذلك كله، كانت روح هذا المبدع منذورة لرياح القلق، والعذاب اليومي، وهموم الكتابة التي لا تنتهي، وذلك الفارق الدامي بين الحلم القديم بأمة عربية واحدة، وكابوس الواقع المتمثل في أكثر من عشرين أمة عربية بلا رسائل ولا وجهات أو جهات. وفي يقيني أنه كان ايضاً ضحية لأولئك الذين بذلوا الكثير من الجهد كي يجروا مؤنس الى مواقع معاكسة لمواقع البشر الحقيقيين الذين ينتمي في أحلامه إليهم، هؤلاء الذين كانوا في جنازته وفي خيمة العزاء وحدهم الذين يقهقهون. ولذا لم يكن غريباً ان يأكل المبدع نفسه كما فعل بطل "اللجنة" في رواية صنع الله إبراهيم، لا سيما إذا ما أدركنا ان اللجنة هناك كانت أكثر رحمة بما لا يقاس من هذه اللجنة هنا.