يسلك الروائي والقاص الأردني إلياس فركوح في كتابه «رسائلنا ليست مكاتيب» (دار أزمنة ودار مجاز - الأردن)، طريقاً آخر وعراً ، شأنه دوماً في ما يكتب من روايات وقصص، فهو في هذا الكتاب، الذي ينطوي على مقدار من الفرادة، لم يشأ أن ينشر فقط رسائل الكاتب الأردني الراحل مؤنس الرزاز إليه، كما لم يكتف، هو الذي ضاعت رسائله إلى صديقه الحميم، بالتعليق والنقاش والمحاورة، إنما جعل من كتابه، الذي قدم له الناقد فيصل دراج، فرصة سانحة لممارسة كتابة أخرى، فلا هي تشبه ما اعتاده القارئ في ما يخص مراسلات الأدباء، ولا هي أيضاً كتابة تتوالى في جنس أدبي محدد، إذاً فإلياس فركوح بصدد مغامرة جديدة في الكتابة، عندما يجمع أزمنة مختلفة ويواشج بين أحداث ثقافية وسياسية وعاطفية وعائلية، ويستعمل ضمائر عدة، وأكثر من خط، وينشر إضافة إلى الرسائل قصصاً ودراسات تطرقت إليها رسائلهما. كتاب حول الأدب والكتابة والأحلام والخيبات ومدن الحلم والحب والشباب والحزب والتحزب. يكتب إلياس إلى صديقه، «انطلاقاً من لحظة راهنة، تحضر بكل تشوهاتها وعنفها ورعبها الداعشي وغير الداعشي». يحمل الكتاب على غلافه اسمي إلياس فركوح ومؤنس الرزاز معاً، فهما شريكان في تأليفه، مؤنس برسائله التي تتجول في المدن والكتب والأفكار، وإلياس بكتابة تنطلق من لحظة زمنية متأخرة كثيراً، لحظة لها ظروفها وضغوطاتها، كتابة تخطت الردود العادية، إلى ما يشبه المراجعة تارة والتعليق والنقاش تارة أخرى، والانثيال حيناً والتوضيح والتصحيح حيناً آخر. يقرأ إلياس ويعيد القراءة بعد زمن طويل، نحو 38 عاماً، تبادل الرسائل كان بين عامي 1976 و1981. يحلم إلياس، الذي ألف كتابه في حالات مزاجية مختلفة وتحول جانباً منه سيرة تسرد المتحول الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي عاش في خضمه، بأن الموتى يقرأون ما يكتبه الأحياء لهم من رسائل. في نصوصه التفكرية، هكذا يصفها إلياس فركوح، تحتدم الأسئلة والرؤى والقلق والانتظار ومكابدات الكتابة، نصوص تكاشف وتعري بلا خوف أو ندم، وتذهب في كل الاتجاهات وتطرق مواضيع ومسائل، لكن تبقى الذات مركزها، الذات التي تعاين ذاتها من الخارج، إذ لسنا أمام رسائل وردود، بقدر ما نحن إزاء «مجال حيوي لذاكرة تتوق الاعتراف بمكنونها، مضاف إليها إدلاءات، علها شهادات، تنتسب للحظة الراهنة». ولا يجافي إلياس فركوح المألوف التجنيسي، إنما يتجرأ أيضاً على أعراف كتابات البوح السائدة. فهو يترك لنوع الكتابة فرصة لأن يتشكل من تلقائه عبر الكتابة، «ولأدع نفسي تواكب نبض ذاكرتها، سالكة سبل الكتابة المتعددة ومنعرجات كاتبها الضليلة». يعثر إلياس على مناسبة فريدة لإضاءة تفاصيل من حياته هو، وكيف تشكل مثقفاً وكاتباً وحزبياً أيضاً، إضافة إلى التطرق إلى تجارب عاطفية ومواقف مربكة. يجد القارئ نفسه يعيش في أزمنة عدة، زمن الرسالة المكتوبة من مؤنس، وزمن اللحظة التي يعود إليها إلياس ليتأمل فيها الحدث، ثم زمن الكتابة، الذي ينطوي على خصوصية، إذ غالباً ما يكون في منتصف الليل أو عند الفجر. صاحبا أحلام وإيمان تعرفا، أحدهما على الآخر، في خضم هزيمة 1967، وتعمقت علاقتهما، بتعميق المشترك بينهما. وجمعتهما، سواء في الرسائل أم في لقاءاتهما في عمان، أو إقامتهما معاً في بيروت، حوارات مطولة حول مواضيع أدبية وسياسية وفكرية، «كانت محل حيرة والتباس ومدعاة للنقاش لبلوغ الاتفاق على فهمها». كانا «أصحاب أحلام وإيمان معاً». يكتب مؤنس إلى إلياس: «ليس لي في هذا العالم، باستثناء عائلتي، سواك...». يكتب أيضاً: «الكتابة إليك بالنسبة لي ليس واجباً، بل ولا حتى متعة بقدر ما هي ضرورة». كان يعتبره «أحد أقرب المقربين إلى نفسي». وأيضاً: «رفيق العمر ورفيقي في درب الفجيعة». وأحياناً يخاطبه قائلاً: «يا صاحبي وشريكي في العمر الصعب والزمن المر والمدن المتقلبة». في رسائله إلى إلياس، الذي كان ممنوعاً من السفر، يسرد مؤنس يومياته في بغداد وبيرمنغهام وواشنطن ونيويورك. ويتحدث عما يسببه له الترحال بين المدن والبلدان والمطارات والموانئ من اضطراب، «ولكنه اضطراب إيجابي». وفي أميركا ينشغل بالسفر، «كأنما يطاردني وحش خرافي وكأنما ينتظرني حلم غامض». في رسالة يرى مؤنس «البعثي» إلى بغداد بصفتها عاصمة الحلم، ويود من صديقه أن يتخطى خوفه وينضم إليه، «الحلم هنا يا إلياس بألف خير، الروح الوثابة التي أراها في عيون مهندس الحلم، تتوهج توهجاً غير اعتيادي». «بغداد ورشة عمل هائلة» يكتب «كل إنسان فيها لا يجد وقتاً كافياً لالتقاط النفس». ومما يبدو أنه كان صاحب نفوذ في بغداد، فهو يخاطب إلياس قائلاً: «أجهزة العراق الثقافية والإعلامية كلها تحت تصرف الأدباء التقدميين عموماً، وتحت تصرفك أنت خصوصاً». بالتأكيد النفوذ والتأثير تسبغهما عليه مكانة والده منيف الرزاز، القيادي البارز في حزب البعث. بيد أن عاصمة الحلم التي لم يكن مؤنس بسبب انهماكه في أجوائها السحرية بحسب تعبيره، يجد الوقت للقراءة أو الكتابة، ستتحول لاحقاً إلى مدينة كابوسية، يخشى أن يكتب عن كآبته فيها إلى صديقه، «كنت أخشى إذا ما كتبت لك من بغداد، أن تثير كتابتي في بالك زوابع الشك والألم». وفي بيروت سيعيش محاصراً ومطارداً، وسيعرض عنه أعز أصدقائه، «كانوا يتكالبون على دعوتي للولائم قبل شهر واحد فقط، رغبة في الحفاظ على امتيازاتهم». ويكتب في رسالة: «أنهم نجحوا نجاحاً هائلاً في التغرير بي، وبالتالي نجحوا، بما فيهم أستاذنا الكبير (ميشيل عفلق. كما سيأتي في توضيح إلياس) بتبرير مواقف كنت أتردد أمامها». يكتب إلياس أن مؤنس عاش انتصار البعث، وأحلام ما سينجز وطموحات ما سيبني ويشيد... لكن مدن الأحلام سرعان ما تحولت «مدناً لا مرئية». الأدب البعثي فترة الأحلام الثورية والتحزب ستأخذ مساحة في الكتاب، وبدت تلك الأحلام والالتحاق بحزب البعث تعميقاً وتتويجاً للعلاقة العميقة التي جمعت بينهما، فهما ربيا أحلاماً وتبنيا طموحات وطنية وقومية كبرى، «ألقينا بمسؤولية حملها وإنجازها على كاهل الحزب». من هنا يثير الكتاب أسئلة حول تلك الحقبة من التحزب، أسئلة عن الحالمين القادرين على التمييز، «بين رئيس ينصت إلى رفاقه وشركائه الحالمين، وحالمين يرون حلمهم في الرئيس». وسيتخلل الرسائل نقاشٌ حول «الأدب البعثي»، المصطلح الذي انتشر في تلك المرحلة، ويعني الأعمال «التي تناسب في عمقها وجديتها، مع مرحلة الانبعاث التي تمر بها الأمة العربية، بغض النظر عن هوية كاتبها السياسية»، كما يكتب مؤنس في إحدى رسائله. تنطوي أحياناً رسائل مؤنس، على ما يشبه الشفرات، يروح صاحب «أرض اليمبوس» في تفكيكها، موسعاً زمنها ومتجولاً في معانيها وراسماً بوضوح أفق التحولات التي يلمسها الرزاز، أو يكتفي بمجرد الإشارة إليها. في مقابل مؤنس، الذي بدا أنه كرس نفسه للحزب، «أو ترك للحزب صياغة دوائر علاقاته وأشخاصها، كان إلياس محترساً من أن يصبح مؤطراً بالحزب، أي حزب، فالحرية الشخصية كانت مطلبه منذ بداية تكوينه. يكتب إلياس في انثيالاته ومراجعاته وتأملاته، أن مصادر حلمنا الواحد ليست واحدة، ليست ذاتها»، فمؤنس بعثي لأن والده بعثي ورمز كبير، أما إلياس فحال مختلفة، فهو ينتمي إلى أسرة لا مكان فيها للحزب أو التحزب، «وأن يكون أحد أفرادها عضواً في تنظيم حزبي معارض، لا بل ومحظور، فذلك هو الاستثناء المستهجن». يكتب إلياس الآن، ما آمن به طوال جميع الأوقات، كأنما كان يعيش ولا يزال يعيش زمناً واحداً وقناعات لا تتبدل. فهو يعتبر أن «انسجام الإنسان مع نفسه صخرة صموده». يجعل إلياس من رسائل مؤنس إليه مناسبة للتأمل وإعادة التأمل في القناعات والأيديولوجيا التي اعتنقاها معاً، ومراجعة لمسار حزبي، وتقليب تجربة في الحياة، بعد مضي عقود من الزمن. إلياس الذي تريث في الانضمام إلى الحزب، يكتب: «لم أكن مؤمناً وقتذاك بقدر ما كنت باحثاً عن تحققي في الجانب الوطني مني». ينجح الشاب، الذي كان إلياس، في خلق التوازن، «ولم يكن قافزاً للتحولات». ويرى إلياس أن ما حدث في تجربة حزب البعث لاحقاً، لم يكن سوى خروج كامل عن الحلم وتقويض له. ولا يعرف إذا ما كان يجدر به، أن يضحك من نفسه، من أحلامه وأحلام مؤنس، «من حارقي أحلامنا وحارقي أعمارنا وأوطاننا». أخيراً، في هذا الكتاب جسد إلياس، وفقاً إلى فيصل دراج، بالكتابة المسافة الموجعة بين زمنين، «وأخبر على طريقته، عن قوة الكتابة التي تصرخ، وتهمس، وتحاور وتشاكس».