في منتصف شباط فبراير الماضي، وفي يوم لا يُعرف تحديداً حتى الآن، قُتل مؤسس وزعيم حركة "الاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا التام" يونيتا جوناس سافيمبي. وقد أشار بعض وكالات الأنباء العالمية والصحف ونشرات الأخبار إلى مقتله من دون تعليق، ويعد خبر وفاته خبر اليوم الواحد، ما يعني عدم وجود إشارة أو متابعة له في اليوم التالي، إلا ما ندر... والأهم من هذا عدم وجود أي اشارة إلى سافيمبي وحركته، والوضع الحالي في أفغانستان، على رغم الارتباط الوثيق بينهما. تعود قصة العلاقة غير المباشرة بين حركة "يونيتا" وأفغانستان إلى بداية الثمانينات، تحديداً عندما تربّع الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان على قمة السلطة في الولاياتالمتحدة، فخلال إدارة الرئيس ريغان كانت العلاقات الخارجية الأميركية متأثرة بشكل كبير بحركتين من أكثر الحركات تعصباً، وبالذات في الشؤون الخارجية، وهما "جماعة المحافظين الجدد" و"جماعة المسيحيين المولودين من جديد". والأولى هي عبارة عن مجموعة من مثقفي اليسار ولا سيما اليهود الموالين لإسرائيل الذين تحولوا إلى اليمين، فهؤلاء يؤمنون بمبدأ القوة في علاقات أميركا الخارجية، خصوصاً مع الدول اليسارية، أو أي جهة غير حليفة لأميركا. أما "المسيحيون المولودون من جديد" والاصوليون المسيحيون يقدر عددهم بنحو 30 مليوناً، فهم جماعات تعتقد بنقاء أعضائها، وبوجود رسالة إلهية لهم، كما أنهم يؤيدون إسرائيل بشكل مطلق، ليس حباً في اليهود، ولكن اعتقاداً بأهمية وجود إسرائيل وقوتها من أجل عودة المسيح. وبتأثير من هاتين الحركتين أوجدت السياسة الخارجية لريغان اسلوباً جديداً في التعامل مع أعدائها، خصوصاً حلفاء الاتحاد السوفياتي منهم وهي طريقة يعتقد البعض أنها تتعارض مع الدستور الأميركي، وتعتمد هذه الطريقة على ايجاد وتشجيع وتمويل الحركات الثورية/ العسكرية التي تسعى إلى إطاحة أنظمة حكم قائمة معادية، أو غير صديقة للولايات المتحدة... ووقع الاختيار، وبالطبع ليس صدفة، على نيكاراغوا في أميركا اللاتينية، وأنغولا في افريقيا، وأفغانستان في آسيا. تقع نيكاراغوا في أميركا الوسطى وكانت تسيطر عليها "الساندينيستا"، وهي حركة يسارية اشتراكية غير شيوعية، إلا أنها معارضة لنفوذ الولاياتالمتحدة، كما أنها تساند الحركات الثورية اليسارية، وبالذات في دول أميركا الوسطى. وتعتبر ثالث حكومة في أميركا اللاتينية تعارض نفوذ واشنطن الأولى حكومة كوبا التي لا تزال قائمة، والثانية حكومة سلفادور الليندي المنتخبة في تشيلي، والتي أطاحتها الاستخبارات المركزية الأميركية في بداية السبعينات خلال إدارة نيكسون/ كيسنجر. وفي نيكاراغوا انشأت إدارة ريغان حركة "الكونترا"، وهي عبارة عن مجموعة من المرتزقة وبعض الجماعات الموالية لديكتاتور نيكاراغوا السابق سوموزا، لشن هجمات عسكرية على نيكاراغوا من بعض الدول المجاورة والموالية لواشنطن. نتج عن ذلك تدمير عشرات القرى ومقتل الآلاف، إلا أن، هذه الحب أضعفت في النهاية الحكومة الساندينية. وعلى رغم أن "الكونترا" لم تنجح، إلا أن نيكاراغوا تحولت في 1990 إلى حكومة ديموقراطية وبشكل انعكس ايجاباً على البلد. ولا بد من الاشارة هنا إلى أن الحركة الساندينية لا تزال قائمة في نيكاراغوا، وتعتبر أكبر حزب معارض في البلاد. أما أنغولا، فيختلف وضعها نوعاً ما، إذ أن حركة سافيمبي يونيتا تحولت إلى الجناح الماوي الشيوعي أي الموالي للصين بعد استقلال أنغولا من البرتغال في العام 1975 وسيطرة الحركة الشعبية لتحرير أنغولا القومية والموالية لروسيا. وعلى رغم التأييد والمساندة الصينية لحركة سافيمبي، إلا أن الصين لم تكن مستعدة للدخول في صراع مفتوح وكامل في أنغولا. وهنا التقطت إدارة ريغان، وبمساندة الحكومة العنصرية آنذاك في جنوب افريقيا، حركة "يونيتا" وزعيمها سافيمبي، وتم تقديم الدعم المالي والعسكري غير المحدود له، وتحول من زعيم ثوري شيوعي/ ماوي إلى قائد متحالف مع أميركا أي من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وفي الوقت نفسه بدأت كوبا بإرسال جنودها لمساندة الحكومة المركزية في أنغولا، إلا أن المساندة الأميركية والجنوب افريقية كانت أقوى، إذ استطاعت الحركة تحقيق نجاحات كبيرة حتى سيطرت على نحو نصف أنغولا. وفي العام 1986 زار سافيمبي واشنطن واستقبل كرئيس دولة في البيت الأبيض. وبعد صراع دموي في أنغولا تم الاتفاق على انسحاب القوات الكوبية ووقف اطلاق النار، وتلا ذلك عقد انتخابات عامة في 1992، إلا أن سافيمبي سقط في الانتخابات الرئاسية، ما أدى إلى عودته إلى المعارضة العسكرية، حتى قُتل في منتصف الشهر الماضي، وبعد أن ساهمت حركته في مقتل نصف مليون أنغولي وتشريد حوالى أربعة ملايين فرد. لو قبل سافيمبي بنتائج الانتخابات، وعمل كزعيم وكحزب معارض، كما فعل اورتيغا والحركة الساندينية في نيكاراغوا، فقد يكون الوضع أفضل لبلده ولحركته وله شخصياً. وهنا نأتي إلى الدولة الثالثة في سياسة ريغان الخاصة بانشاء وتشجيع الحركات الثورية التي تسعى إلى الإطاحة بأنظمة حكم غير موالية لأميركا، والمعني هنا أفغانستان، وهي قضية لم تنته حتى الآن، وذلك بخلاف نيكاراغوا التي تحولت إلى الديموقراطية في عام 1990، وأنغولا التي يبدو أنها انتهت الآن بمصرع سافيمبي. فحكومة الرئيس ريغان لعبت دوراً مهماً في ايجاد "حركة المجاهدين" ودعمها لمحاربة النظام الأفغاني الذي كان موالياً لموسكو، وإلى درجة أن الرئيس الأميركي شبّه زعماء حركات الجهاد الأفغاني بالآباء المؤسسين لأميركا! وذلك عندما استقبلهم في البيت الأبيض في عام 1986 أي في العام نفسه الذي استقبل فيه الزعيم الأنغولي سافيمبي. وكانت المعركة بين المجاهدين وحكومة كابول ضارية بحيث تدخلت موسكو بكل ثقلها العسكري، وفي المقابل قدمت واشنطن دعمها التام للمجاهدين بما في ذلك صواريخ متقدمة آنذاك ستنغر لتستخدم ضد الطائرات الروسية. وهذا ساهم بشكل كبير في سقوط حكومة كابول اليسارية في عام 1992 في أيدي المجاهدين، وذلك بعد سقوط أكثر من مليوني قتيل، وتشريد حوالى ستة ملايين أفغاني. وانتصار المجاهدين لم يؤد إلى استقرار الوضع في أفغانستان، فالوضع في أفغانستان تأثر بالجوانب الثلاثة الآتية: - أولاً: الوضع الداخلي، الذي لا يسمح بسهولة بايجاد كيان قومي/ وطني مركزي قوي، وذلك بسبب الاختلافات القبلية والاقليمية والدينية الحادة وصراعات المصالح، بما في ذلك الصراع حول تجارة وزراعة الأفيون. - ثانياً: وجود صراعات وخلافات اقليمية لها ارتباط قوي بأفغانستان، وهذا يشمل باكستان وإيران وبعض دول وسط آسيا الوسطى وروسيا، إضافة إلى كل من الهندوالصين وبعض دول الخليج. هذه الاختلافات والمصالح الاقليمية الخارجية تغذي الصراع الداخلي ولا تساهم في ايجاد استقرار وطني. - ثالثاً: انسحاب الولاياتالمتحدة، التي أشعلت الحرب الأفغانية، بعد سقوط الحكومة اليسارية في كابول وسقوط الاتحاد السوفياتي. فواشنطن لم تهتم بالشأن الأفغاني خلال التسعينات على رغم أنها، حسبما تشير أغلب التقارير، باركت وربما ساندت سيطرة حركة "طالبان" المعادية للنفوذ الإيراني والنفوذ الروسي. إضافة إلى ذلك، فإن الولاياتالمتحدة ضعف اهتمامها وتحالفها مع باكستان نتيجة لانهيار الاتحاد السوفياتي وتطوير باكستان قوة نووية من دون موافقة واشنطن أو التنسيق معها، وكذلك تحول باكستان إلى النظام العسكري بعد سقوط النظام المنتخب فيها. ونتيجة لهذه العوامل المختلفة، تطور الوضع في أفغانستان بعيداً عن الاهتمام الدولي، وبشكل مستقل، فكانت حكومة "طالبان" تجنح يوماً بعد آخر إلى التشدد في الأمور الدينية إلى درجة قيامها بتدمير التماثيل البوذية، على رغم وجود معارضة عالمية وإسلامية على ذلك هذه التماثيل لم يتم النظر في تدميرها من جانب أي حكومة أو هيئة إسلامية قبل "طالبان" ومنذ دخول الإسلام إلى أفغانستان منذ أكثر من 1200 عام. إضافة إلى ذلك، فإن حكومة "طالبان" بدأت تعتقد أنها، ولوحدها، تمثل الإسلام النقي الصحيح، إذ توّج الملا عمر ك"أمير للمؤمنين"، مع اعتبار أفغانستان الإمارة الإسلامية النقية الوحيدة في العالم. واستغلت حركة "القاعدة" هذا الوضع الأفغاني الخاص، وبدأت تبني قوتها هناك، وتزيد من روابطها مع حكومة "طالبان" من ناحية وتوزع نفوذها الخارجي من ناحية اخرى، حتى بلغت درجة عالية من التنظيم والتأثير على كل المستويات. والجدير بالملاحظة أن زعيم حركة "القاعدة"، أسامة بن لادن، غيّر تحالفاته أربع مرات خلال عقد التسعينات فقط، فمن الموالاة لحركة "المجاهدين" الأفغانية إلى التحالف مع بعض الحركات الصومالية، وتلا ذلك التحالف مع "الحركة المهدية" في السودان، ثم تحول إلى حركة "طالبان" الأفغانية... علماً بأن هناك فوارق فكرية بين هذه الحركات الأربع. وهذا يعني أن "القاعدة" هي حركة سياسية تستخدم الدين كقاعدة ايديولوجية، هدفها اسقاط الحكومات القائمة حالياً في بعض الدول الإسلامية وتحويلها إلى سيطرة تنظيم "القاعدة"، وكذلك ضرب القوة العظمى، أي أميركا، التي تساند بعض الدول التي تسعى "القاعدة" إلى السيطرة عليها. ولا بد من الاشارة إلى أن الأولويات وطرق تحقيق هذه الأهداف بالنسبة إلى "القاعدة" قد تغيرت من وقت لآخر، ففي البداية كان التركيز على اسقاط الحكومات القائمة في الدول الإسلامية مباشرة، ثم تحول إلى ضرب أميركا نفسها. ومن خلال بعض التسجيلات التي تحدث فيها بن لادن، يبدو أن زعيم تنظيم "القاعدة" يعتقد أن تدمير مركز التجارة العالمية ووزارة الدفاع، سيؤدي إلى انهيار أميركا أو ضعفها اقتصادياً وعسكرياً وبشكل كبير. وكان من الواضح خلال السنوات الخمس الماضية أن الوضع في أفغانستان قد يؤدي إلى كارثة على المستوى الدولي، على أن الغالبية، بدءاً بواشنطن ومروراً بالرياض وإسلام آباد وطهران وموسكو، فضلت عدم الاكتراث، على رغم احتمال الضرر. وقد يعود هذا إلى الااعتقاد بأن القضية الأفغانية من النوع البسيط، وبالذات مع نهاية الحرب الباردة، مع اعتبارها أمراً محلياً، وان حصلت له نتائج خارجية، فستكون محدودة ومن الممكن احتواؤها. إلا أن الأمر لم يكن كذلك، فكانت الضربة الكبيرة في 11 أيلول سبتمبر، والتي لم يكن يتوقعها أحد، وكان تأثيرها عظيماً وبكل المقاييس، وبالذات بالنسبة إلى الجانب الأميركي، الذي اصيب بصدمة وذهول تامين. وحدثت هذه في ظل إدارة جمهورية في واشنطن، وهي إدارة تعتبر وبشكل واضح امتداداً لإدارة ريغان، وليس لإدارة جورج بوش الاب كما يعتقد البعض، أي أن مثلث ريغان، على رغم نجاحه في نيكاراغوا، وبدرجة أقل في أنغولا، وفي المرحلة الأولى في أفغانستان، إلا أنه انعكس سلباً، وبشكل أكثر من أي توقع بالنسبة إلى أفغانستان، حيث أصبح هذا البلد مصدراً ليس فقط للهجوم على أميركا، بل أدى إلى تغيّر كبير في أولويات السياسة الأميركية داخلياً وخارجياً. ويبدو الآن ان الولاياتالمتحدة ستبقى في أفغانستان لفترة طويلة، وقد تدخل في صراع دام هناك، وبحيث لا تخرج منتصرة كلياً ولا منهزمة كلياً. وحتى نهاية حكومة جورج بوش، التي قد لا تتمتع بولاية ثانية بسبب هذه القضية وتداعياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية داخل أميركا وخارجها. ويساوي هذا في الأهمية مدى تدخل أميركا عسكرياً بشكل مباشر أو غير مباشر في الدول التي اطلق عليها بوش "مثلث الشر"، وفي هذه الحالة السؤال هو: هل تتطور الاحداث من احدى هذه الدول وتتحول إلى قضية تقلق أميركا بعد عشرة أو خمسة عشر عاماً، كما حصل بالنسبة إلى ريغان وأفغانستان. * مستشار في وزارة النفط السعودية.