وصفت للصبيتين ما ستريانه: من أنهما محظوظتان تماماً بتمضية فترة عيد الأضحى في طرابلس بلبنان، وليس في باريس حيث معاشهما المعتاد. من أن كل حواسهما ستمتلئ بما لا فرصة لهما به خارج بلادنا. شددت على نون الجماعة تعويضاً، لا شك، عن شعور بالذنب لا تفيد المحاجّة المنطقية في تبديده، يقوم على حرمانهما من بداهة الانتماء التي تتكون من اللعب في الحارة مع الأقران، من رهبة سماع آذان الفجر يوقظ الصغير، فيقبع في فراشه خائفاً من العودة إلى النوم، رغم النعاس، سيما عند "الصلاة خير من النوم"، من رنين الملعقة تضرب الصحن لحظةش الافطار في رمضان، بعد صخب وتدافع العودة إلى المنازل - فما من أحد يبقى في الشارع عند المدفع - ثم لحظة السكينة التامة، ثم ذلك الرنين الصادر معاً من كل البيوت، بإيقاع إن لم يكن واحداً فهو على كل حال متناغم. يزدحم العيد بالطقوس. الأسواق المفتوحة ليلاً في الأيام السابقة عليه لتلبية طلبات الأولاد من الثياب الجديدة. صوت خرير الماء من كل البيوت في الليلة التي تسبقه مباشرة، واصطفاف الأولاد للاستحمام. زيارة المقابر ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد. شرحت مطولاً لنور، ذات الثمانية عشر، والمولعة بالأفكار والجماليات، فلسفة ابتداء العيد بهذه الزيارة، وكيف أنها متخلصة تماماً من أي حزن أو كآبة. كيف أنها تجسد، من جهة، فكرة تواصل الحياة والموت، وأنها، من جهة أخرى، تشكل إحدى خطوات بناء الجماعة باستحضار الغائبين واشراكهم رمزياً بالمناسبة. التقاء الفلسفة والسوسيولوجيا، قلتها لها مازحة وإنما بشيء من الثقة المتعالية، لمن يعرف، مقابل استشراقيتها، تكوينها الهجين. وان كل الطقوس تتقاطع لتمنح المعنى. كعك العيد يجب أن يصنع في المنازل. ففي ذلك استيلاء على الزمن. ورشة قبل العيد، ثم في كل مرة تؤكل قطعة منه وإلى أن ينفذ. ليس توفيراً للكلفة وليس اشغالاً لنساء لا يعملن في الخارج، بل تمييزاً للعيد عن سائر الأيام. نوع من تعيين للمقدس مقابل المباح، والذي مرّ على الدوام وإينما كان، بالطعام. استحمّت الصغرى ليلاً مخافة أن تخالف الطقوس. وحضّرت نور كاميرتها ذات العدسات المتعددة لالتقاط الصور التي وعدتها بها: الثياب المزركشة والملونة بألوان فاقعة، الشرائط في شعور البنات وقصّة شعر الصبيان، التي تمت بالأمس. أرجوحات العيد المنصوبة في ساحات الأحياء. بل وعدت الصغرى بالسماح لها بركوب إحداها وطمأنتها أنه لن يلاحظ أحد، بسبب الازدحام، الفارق بينها وبين أقرانها، في اللهجة وحركات الجسم التي تشي بالاعتياد أو بالغربة. لم أرَ العيد في طرابلس هذا العام. كانت مقبرة المدينة بعيدة تماماً عن التدافع الذي وعدت به نور. لم تأت العائلات بكل أفرادها كالمعتاد، فتختلط الطبقات لوهلة: سيدات وآنسات أنيقات وإنما باحتشام يليق بالمكان والمناسبة، ونساء "شعبيات" أكثر ضجيجاً وحركة. رجال وجهاء متأهبون لرد التحية لمن يعرفون ومن لا يعرفون، لزوم الوجاهة، ورجال يعرفون بعضهم بعضاً فكأنما لقاؤهم هنا امتداد لجلسة المقهى ولعبة الطاولة المعتادة. قلة من الأولاد كانوا هنا، تجرجرهم أمهاتهم و... استعجال. هذه أغصان الريحان تنصب في مكانها، وسورة ياسين تتلى بسرعة. ثم مغادرة. انخفض العدد عن المألوف وغاب منذ اللحظة الأولى ذلك التماهل الذي يتولد عنه نسيج التواصل. كان مفتقداً بين الأحياء في ما بينهم، ومع الأموات المُزارين. كانت الحركة تنم عن واجب مؤدى أكثر مما كانت مناسبة منتظرة. وحتى صلاة العيد، ذات الايقاع الخاص المتكرر، تليت من المآذن عبر مكبرات الصوت، بناء على تسجيلات جاهزة عوضاً عن ارتفاع أصوات المكبرين من المصلين أنفسهم. ليس لأنهم كانوا قلائل، فلم ينقص اكتظاظ المساجد، بل على العكس. ولكن كأنما بهم وَهَن، فأوكلوا المهمة واكتفوا منها بما لا بد منه. رأينا خرافاً تذبح على الطرقات وتجمعات للمنتظرين حصصاً قد يفوزون بها. لكن الثياب لم تكن مزركشة وقد تطلب مني الأمر إمعاناً في النظر والتفحص للتأكد من جدتها، ولم أفلح. كانت الأراجيح قليلة وروادها أقل، فلم تجرؤ عدن على الاقتراب. أو أنها، وعلى الأصح، لم تمسها بهجة العيد مساً كافياً تحملها قوته على نسيان اختلافها والانسياق إلى حركة الجماعة. كانت قلة من البيوت التي زرناها، وفق ترتيب هرمي مدروس شرحت لنور أسراره، قد قامت بصناعة الكعك منزلياً. اشترى الجميع كعك العيد من المتاجر، فغدا ضيافة لا بد منها، وفقد سائر معانيه، وأمكن بالتالي الاعتذار عن تناوله بيسر لم يصدم أحداً. اعتذرت السيدات، فقالت واحدة إنها لم تجد الوقت، وقالت كثيرات انهن لم يجدن الشجاعة للقيام بالمهمة. واتفقت جميعهن على ان الحلوى الجاهزة أوفر ثمناً على كل حال. وبدا أن هموم الحياة تطفو ولا تترك مساحة ولو صغيرة لما عداها، لانسلاخ عنها ولو لهنيهة. وانها طغت حتى أفقدتهن الصبر اللازم، طول البال وتلك المساحة من البهجة المخزونة والأخرى، التي تمنى بها النفس، وهي مواصفات لازمة لصناعة الكعك في البيوت. وكان الجميع يتكلم، وحيثما كان، عن الوضع "الرهيب" في فلسطين، إلا أن الخجل كان يطغى على الغضب. وتكلم الجميع، وحيثما كان، عن قرب ضرب العراق... "المؤكد". وكان يقف خلف اللهجة التقريرية، احساس بالعجز، وصل إلى درجة من الرسوخ فبدا مشابهاً لعدم الاكتراث. وكان الحديث ينزلق بسرعة إلى الأقساط المدرسية التي لم تُسدد بعد، على رغم انقضاء المهلة، وإلى انتشار الوباءات السارية هنا وهناك، فكأنما مصائبهم لا تقل سوءاً عن مصائب فلسطينوالعراق التي لم يعد لديهم طاقة على الالتفات إليها. في الطريق، لفت نظر الصبيتين احتلال الباحثين عما يمكن استعادته، لاحواض القمامة الموضوعة في شوارع الأحياء الموسرة أو في الشوارع العريضة المقفرة نسبياً والتي توصل أحياء المدينة المختلفة ببعضها. كانوا متوزعين افرادياً على الأحواض، فهذه مهمة لا يمكن التشارك فيها. نساء من كل الأعمار يوارين وجوههن بمناديل، ورجال أيضاً يدارون وجوههم بخفض رؤسهم إلى أسفل، فتختفي ملامحهم ما بين أكتافهم وطرف الحوض. لم أرَ العيد في طرابلس. احترمت الصبيتان حرجي أزاء لون الباهت قياساً بما وعدتهما به، فأبدتا اهتماماً مهذباً بشروحاتي. كنت أحاول أن أقول لهما إن الأمر لا يتعلق بتطور طبيعي في العادات، يجعل ارتفاع التسجيلات في صلاة العيد أسهل من ارتفاع أصوات المصلين أنفسهم، ويجعل الكعك الجاهز أسهل من الكعك المصنوع. فهذه تفاصيل لم تكن لتأخذ أهمية لولا استنادها إلى انهيار في الأمل، سيادة قدر من البؤس في الحياة اليومية، وقدر أكبر من انسداد الآفاق، والخوف من الجوع والبطالة، لمن لم يجع ولم يبطل بعد، يجعل البؤس الحالي محتملاً مخافة الأعظم. وان الافتقار إلى الوجهة والافتقار إلى الفعالية يقتلان احساس الانتماء إلى الجماعة. وقلت لهما إن تتمة ذلك هو ارتفاع ضجيج البرامج التلفزيونية حيث موسيقى ورقص معدان على عجل وبأكثر ما يمكن من الصخب الفارغ، وحيث برامج الحظ والربح المباشر، وهما ما يحتل اليوم معظم أوقات البث، كأنها هي المخدرات الأخرى المنتشرة بالتوازي مع انتشار تعاطي الحشيش وحبوب الهلوسة. وانه، في السنوات الماضية، كان الجميع يحلم بالهجرة بعيداً وكيفما اتفق، أما بعد 11 أيلول سبتمبر، فقد قضي على هذا الاحتمال الأخير، فكأنما هناك شعور بإطباق المصيدة... وان كل ذلك هو في أساس موت البهجة الذي لمستاه... البهجة البسيطة الأليفة التي يصنعها تعلق بالحياة.