استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    24 فائزاً بجائزة "مدن للتميز" في 7 مسارات    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    تمديد مهلة تعاقد البنوك مع شركات تحصيل الديون    الذكاء التكاملي بين الإنسان والتقنية    إبراهيم الفريح أميناً عاماً لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    5.5% تناقص عدد المسجلين بنظام الخدمة المدنية    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    استراتيجية الردع الوقائي    قنابل حرية التعبير    غارات الاحتلال تقتل وتصيب العشرات بقطاع غزة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    مركز الملك سلمان ينظّم «منتدى الرياض الدولي الإنساني»    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    برامج رياضية وشعبية تدمر المجتمع !    احترم تاريخ الأخضر يا رينارد    محمد بن سلمان... القائد الملهم    في الجولة الثانية من خليجي 26.. منتخب قطر يواجه عمان.. والكويت تلاقي الإمارات    عثرة البحرين    الأخضر يعاود تحضيراته.. الإصابة تبعد الشهري    العقيدي: فقدنا التركيز أمام البحرين    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    «مجمع الملك سلمان العالمي» يستقبل الدفعة الثانية من طلاب»أبجد»    تنوع ثقافي في سابع أيام مهرجان الرياض للمسرح    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    طريقة عمل بوش دو نويل    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    "المظالم" يفتح التقديم للتدريب التعاوني    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    مهرجان فنون العلا 2025 معارض لفنانين سعوديين وعالميين    الصحة توقع اتفاقية لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    «مستشفى دلّه النخيل» يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الأدب الأندونيسي . ليلة العيد... بين الهلال والصليب !
نشر في الحياة يوم 19 - 01 - 2000

يحفل الأدب الأندونيسي بالحكايات في شكل قصص قصيرة، تروي حياة المجتمع في هذه الجزر القارية وطقوس أهلها وعاداتهم. ومنها يستمد المطالع صوراً عن طيبة هؤلاء الناس وايمانهم بالقدر، خيره وشره... وهذه قصة من هذا النوع للأديب الأندونيسي د. همكة، واسمه الكامل حاجي عبدالملك كريم أسيرالله المولود في 16 شباط فبراير 1908 وابن العالم الديني الشهير الدكتور حاجي عبدالكريم أسيرالله الذي لعب دوراً مهماً في تجديد نشر الإسلام في سومطرة، إحدى الجزر الأندونيسية الخمس الكبرى. واضطهده الهولنديون واليابانيون على السواء.
هذه القصة تصور أيضاً التنوع الثقافي لدى الأقوام التي تشكلت منها بلاد اندونيسيا.
* * *
الطبل النحاسي الضخم يرن منذ حين في ساحة المسجد الكبير، والناس يهرعون من بيوتهم متجهين جماعات إلى الساحة الكبرى كأنهم النمل الأبيض! ذلك ان احتفالات - الطنبور - تصادف هذه السنة عيد مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا العيد وتلك الاحتفالات جزء من تقاليد أهل "سولو" وأهل "يوكجا" منذ الزمان البعيد عندما كان الأولياء الصالحون ينشرون الإسلام في جاوة. في هذه المناسبة الشعبية كان الناس يعلنون إسلامهم أمام الولي متخلين عن هندوسية مملكة "مونغا" ملتحقين زُمراً بالدين الجديد هذا الذي وصل إليهم عبر مملكة دماق سلطنة دمق وهم في سفوح جبال "موريا" مكتسحاً هكذا ما بقي من مملكة "ماتارام".
ولما كان عيد المولد خرج السلطان من قصره متوجهاً إلى الجامع الكبير ليستمع فيه إلى العلماء، وعلى رأسهم العالم الملحق ببلاط السلطان، يتلون المولدية على ايقاعات خفيفة مبهجة تمتزج فيها التقاسيم العربية بالرنات الهندوسية بدقات أهل الجزيرة: جاوة. وبوصول السلطان دوى ازيز المدفع ايذاناً ببدء الاحتفال. دخل السلطان باحة الجامع ومشى وراءه في تنظيم دقيق حرس البلاط بزيهم الرفيع الخاص بالمناسبة، من يحمل الأقواس ومن يحمل المظلات، ومن يحمل المشاعل ذات الألوان الخلابة. وعلى حواشي الموكب اصطف رجال اشداء هم جنود النخبة من الأجيال المتعاقبة منذ قرن على مسؤولية أمن القصر.
في الساحة يلتقي أهل الريف رجالاً ونساء وقد جاؤوا من قراهم البعيدة لاحياء هذا العيد كواجب ديني يؤدونه، إضافة إلى أنه عيد يحقق لهم تطلعاتهم إلى رؤية السلطان الذي لا يبارح قصره إلا في مناسبات نادرة.
ويأتي العيد كأهم المناسبات لأهل البلد ليتظاهروا فيه بحسهم الفني المتأصل وهم يحملون أجمل أزيائهم من الباتيك، انتاجهم التقليدي من أرفع المنسوجات، وقد ابدعتها الصبايا وهن يترنمن بالأغاني الشعبية منتبهات جيداً إلى دقائق الرسوم التي عليهن ان ينسجنها بعدما تولت اخراجها نساء أكبر سناً متخصصات في هذا الفن الجميل.
ما زال الناس يزدحمون في الطريق المؤدي إلى الجامع الكبير تشق ازدحامهم عربة فاخرة مجرورة بحصانين، عليها عونان بزيهما الأحمر، وفي داخلها جلس أحد النبلاء يرفل في حلته الفاخرة وإلى جانبه زوجته وقد جمعت شعرها في خصلة واحدة على شكل قبة زادتها حسناً وأناقة. إنهما من سكان القصر أرادا أن يقوما بفسحة قبل التوجه إلى الجامع الكبير لحضور المولدية. ومن حين لآخر تعبر هذا الازدحام فتاة قادمة من الحي العربي مسرعة نحو المسجد متوشحة الباتيك الذي نسجته بيديها وقد شدته بحزام ضيق زاد في إبراز دقة قوامها الرشيق، وغطت رأسها بجلباب أبيض حتى بدت كحمامة بيضاء تائهة وسط سواد الغربان.
واغتنم الباعة هذا الزحام لعرض سلعهم ينادون عليها بأصوات عالية متنقلين باستمرار بين الناس في ضوضاء وجبلة، وفي تناكب، مثل نحل متنقل بين عريش وآخر. هنا عطارون مزيفون يعرضون عطوراً مقلدة، وهناك باعة مشروبات للمناسبة، وفي زاوية غير بعيدة يقف حاج يمتدح مزايا الإسلام ومميزاته، وعلى الرصيف جندي من جيش الاستعمار يدعو الناس في هذا الزحام إلى دراسة الانجيل!
وفي بهو المسجد ما زال رنين الطبل النحاسي الضخم يقرع الآذان يدعو الناس للتجمع في الداخل كأنه المؤذن: حي على الفلاح!
* * *
بين الشباب الذين جاؤوا يدرسون في "يوكجا" منذ أن فتحت فيها مدارس ثانوية إسلامية، كان الشاب عتمة المولود في إحدى القرى الجبلية. وهذه هي السنة الثالثة التي يحضر فيها احتفالات الطنبور والمولد هنا، ولكنه لم يحتفظ بذكرى خاصة في المرتين السابقتين. أما احتفال هذه السنة فسيطبعه بذكرى لا تمحى وهو الذي بقي إلى الآن في منأى عن المؤثرات الغريبة على حياة انسان محتفظاً بثقة كاملة في نفسه.
ارتدى عتمة أجمل زي عنده بعدما كواه كما ينبغي، وخرج متوجهاً ككل الناس إلى الساحة الكبرى، واخترق طريقه بمشقة عبر هذا الزحام على جانبي الطريق، إضافة إلى العربات التي سدته هي الأخرى. وكادت ثيابه تبتل عرقاً عندما وصل أخيراً إلى موقع المعرض، وأخذ يتجول بلا هدف معين بين المحلات والدكاكين المشحونة لعباً حتى قادته قدماه إلى شجرة مورقة كأنما أوراقها قدت للمناسبة، جلس الناس في ظلها القرفصاء يستمعون إلى أحد أعضاء الطائفة المسيحية في جاوة يلقي خطبة ملتهبة عن آثام الناس وغفران المسيح. لكن عتمة لا يهتم بالمسيحية ولا يريد أن يكون ناقلاً للتناقضات. ومع هذا اقترب منه مدفوعاً بالرغبة في أن يرى كيف أن الاقتناع أو الايمان يمكن ان يجر رجلاً إلى أن يعلم الناس ديانته بلا كلل. وكان هذا الخطيب يعرف كيف يلفت إليه انتباه الناس وكثير منهم بهرتهم قدرته على اتقان اللغة المهذبة لأهل جاوة.
بغتة، وفي ما كان الناس منصتين للرجل وعتمة مستغرقاً في التأمل، انطلقت من وسط هذا الجمع صرخة امرأة غطى عليها الزحام ولم يعرها الناس اهتماماً إلا عتمة فقد اهتز لها فشق لنفسه بعناء طريقاً في اتجاه الصرخة للاطلاع على السبب. هل المرأة سرقت أو هل تعرضت لمضايقة ما؟ ولما وصل إليها رأى فتاة ممددة على الأرض مغمى عليها ربما بتأثير الحرارة المفرطة. ولا اثر لعون أو لمساعدة ممن حولها من الخلق، بل ان الناس كانوا مكتفين بالحملقة فيها.
أحس عتمة بالغضب يسري في كيانه. كيف ان كل هؤلاء الناس الذين كانوا يستمعون إلى خطبة الوعظ الديني وارشادهم إلى المساعدة والانقاذ يبقون مجرد متفرجين ساعة حان الانقاذ وتأكدت النجدة؟
وبدافع المشاعر الإنسانية التي ملأته اقترب من الفتاة الممتدة ارضاً وأخرج من جيبه زجاجة عطر صغيرة سكب منها قطرات في منديله وجعل يمسح به وجه الفتاة حتى استعادت وعيها ونهضت وهمت بأن تسقط مجدداً. ولكنه ساعدها وقادها إلى الطريق الواسع واركبها عربة مجرورة وأوصلها إلى المستشفى في الحي العربي. وبعد ان سلمها إلى الطبيب انتظر ساعة ثم انصرف عائداً إلى بيته.
أقامت الفتاة في المستشفى يومين زارها عتمة خلالهما مراراً ناسياً العيد والاحتفالات، فقد انقضى يومها المشهود في جو من البهجة والفرح ثم أعيدت الطبول المقدسة إلى القصر، وتم تفكيك الدكاكين ومحلات العروض، وانهمك عمال التنظيف في إزالة الفضلات المنتشرة في الساحة، ولكن عتمة لم يعر أي اهتمام لكل هذه المباهج وهذه الحركة، ولم يفكر إلا في زياراته للمستشفى.
عندما سمح الطبيب للفتاة بمبارحة المستشفى وجدت عتمة أمام الباب، فبادرته بالكلام:
- أعلمني الطبيب أنك أنت الذي أوصلتني إلى هنا.
- لم أفعل سوى واجبي.
- لن أنسى هذا "الواجب". لو لم تكن أنت هناك يومها لكنت بقيت طويلاً وسط الزحام من دون اسعاف، ومن يدري... ربما كنت قضيت. انني لن أنسى جميلك أبداً.
- شكراً.
- سمح لي الطبيب بالعودة إلى البيت. كلا لن أنسى أبداً الخدمة الجليلة التي أسديتها إليّ.
- اسمحي لي بمرافقتك حتى يتسنى القول إنني ساعدتك إلى النهاية.
- شكراً، لا داعي لذلك، وليس معنى هذا انني لا اريدك ان ترافقني، ولكنني لا اريدك أن تندم على ذلك.
- أندم؟ ولماذا أندم؟
- ستفهم في ما بعد.
ظل عتمة واقفاً أمام المستشفى لا يعرف ماذا يقول ولا ماذا يفعل، وكأنما كل آماله انكسرت في لحظة! الفتاة ركبت العربة، وسائق العربة نهر خيله، ولكن عتمة استجمع قواه وجرى وراء العربة ينادي الفتاة:
- لا اطلب منك إلا شيئاً واحداً، فلا ترفضيه.
- ماذا تريد؟
- اسمك... ما اسمك؟
- وبماذا سيفيدك ذلك؟
- للذكرى يا صديقتي، لا لشيء آخر.
- هذه الذكرى ستتعبك.
- حتى هذا ترفضينه؟
- اسمي ورنيدة... وأنت ما اسمك؟
- عتمة!
سائق العربة كان نهر خيله... وبقي عتمة مسمراً مكانه يتابع سير العربة وقد انعرجت أمام النادي في اتجاه الحي الصيني، وغابت.
- ورنيدة!
* * *
نظرة، فابتسامة، فسلام، فكلام، فموعد، فلقاء... هكذا اراد الشاعر المصري أحمد شوقي أن تتسلسل قصة الحب في أشعاره الفلسفية.
حاول عتمة أياماً وأسابيع أن ينسى... جاهد نفسه أن يتخلص من ذكرى ذلك اللقاء... ذهب يتجول على شواطئ بحر الجنوب يتنفس الهواء البحري بملء رئتيه... كان في تلك الشواطئ يتردد على أضرحة الأولياء الصالحين والمقامات المحترمة التي يقدسها أهل جاوة حيث اسطورة ناجي رورو أميرة الجنوب التي يحج السلاطين إلى مقامها ويتركون فيه بعض ما كانوا يحملونه من ملابس، ثم يتوجه إلى كاليورنغ حيث بركان "ميرابي" الرهيب الذي تعلو قمته إلى ارتفاع 2911متراً، ويدعوه السكان بهذا الأسم المشتق من كلمة نار بلغة الملايو. وقد تحول هذا البركان الذي زمجر أكثر من مرة في القرن العشرين إلى محطة سياحية جميلة لطيفة المناخ يصطاف فيها الأثرياء، وما زالت الاحتفالات تقام إلى اليوم لزيارة مقام هذه الأميرة الاسطورة ولكن لم يعد هناك سلاطين يحجون إليها.
كل هذه الجولات كانت لعتمة من دون جدوى، فلم تنسه فتاته الفاتنة، وغدت معاناته أشبه بداء لا دواء له!
انقضت الشهور وحانت العطلة وعاد عتمة إلى قريته الجبلية عساه يستطيع ان يجدد موعداً مع جمال الطبيعة ونقاء هوائها. ومن الفندق الذي ينزل به خرج ذات فجر متوجهاً إلى المرتفعات المحيطة للتسلق متسلحاً بأدواته، وفيما كان يتجول منتعشاً بنسمات الصباح شاهد على مسافة قريبة جماعة من الشبان والشابات يعدون وراء الفراشات، وبينهم كانت... ورنيدة!
بدا عليها وهي تلمحه أنها فوجئت لرؤيته ومتضايقة حتى... وانبرت من شفتها كلمة واحدة: عتمة!
- انت هنا يا ورنيدة؟
- نعم... أيام العطلة.
حياه رفاق ورنيدة وانصرفوا هازجين وراء فراشاتهم، وبقيت ورنيدة وعتمة وحدهما يمشيان الهوينا، ولم يتجاسر أحدهما أن يبادر الآخر بكلمة. ومرت دقائق طويلة قبل أن تبادره ورنيدة:
- السماء صافية اليوم. هذا نادر هنا. أليس كذلك؟
- نعم، صفاء السماء في كاليورنغ مشهد نادر... كندرة المناسبات التي ألقاك فيها.
- يبدو أنك ما زلت تذكر أمسية الاحتفالات؟
- كيف أنساها! قالها عتمة مبتسماً.
واصلا جولتهما وحملتهما أقدامهما إلى إحدى الربى من حيث يطلان على مباهج الطبيعة ومناظرها الساحرة... مناظر كأنما رسمتها الطبيعة خصيصاً لتلهب مشاعر الحب بين شابين.
وهناك بعيداً بدت مداخن مصانع السكر تصر على وجودها داخل لوحة الطبيعة، وحقول القصب السكري تداعبها ريح خفيفة فيتموج القصب كأنه موج البحر الهادئ يستحم فيه العمال الذين يشتغلون هنا بهمة ليكسبوا رز الصباح ورز المساء.
أغرق عتمة بصره في عيون الصبية وقال لها في ما يشبه الاستغراق والهمس:
- ورنيدة، لا أستطيع أن أعبر مثل الآخرين، لساني لا يطاوعني، ولكن تأكدي ان وجهك لم يفارق مخيلتي منذ افتراقنا في ذلك اليوم أمام المستشفى.
بدأ العرق يغطي جبينه على رغم لطافة الطقس في هذه المرتفعات، فالمشاعر القوية تزحف في داخله وتلهبه. وانحنى برأسه حالما كأنه ينقب في الأرض بعصا التسلق، منتظراً في سكون جواب الصبية. ولم تنقض برهة حتى افصحت هي بدورها عن مشاعر المحبة التي لم تعد قادرة على حبسها في صدرها. فأمسكت بيد عتمة وقالت له بنبرة لطيفة:
- هو ذا ما كنت اخشاه منذ البداية. إنها ذكرى سنعانيها كما صرحت لك.
- ورنيدة، أنا لست خبيثاً، ولا استطيع لا الاغراء ولا الملاحقة... انني احبك، هل تقبلين حبي؟
اغرورقت عيون الصبية وبدأت الدموع تنهمر، معربة عن جديتها ومشاعرها الزاخرة، وقالت له في تأثر:
- يا صديقي نحن أحرار في أن نحب، ولكن هذه الحرية ليست حرة، أنها مقيدة بمبادئ صارمة قد ابتلعتها. تستطيع ان تحبني، واستطيع ان أحبك بالمقابل، ولكن واحسرتاه! اننا مضطران لأن نبقى في هذه الحدود مثل نهر يجري ولا يجد متفرعاً ينساب فيه، هكذا تمنعنا المبادئ أن نتابع هذا الحب بالزواج!
- جوابك يا ورنيدة رهيب، ومع هذا فإنني أقرأ على محياك انك لا يمكن ان تكوني قاسية، قولي لي ما الذي يدفعك إلى مثل هذا الجواب؟
- أن أقول لك الحقيقة أكثر قسوة.
- قرارك هذا عقاب ثقيل سأتحمله طوال حياتي... أرني السبيل. أما إذا قبلت حبي ورضيت ان تكوني زوجتي، فإني أكون بلا ريب انساناً غمرته السعادة. انك النور، نور فؤادي.
- واحسرتاه ليتني أكون كذلك.
- ولم لا؟
- هل أنت مستعد لأن تسمع كل شيء؟
- على أهبة الاستعداد حتى أكاد أفنى استعداداً!
- ألست مسلماً؟
- بل، حمداً لله.
- أنت على دين محمد؟
- أجل بالتأكيد اني مؤمن برسالته.
- هنا لب المشكلة ومكمن العقدة، نحن هنا نصطدم بجدار لا يخرق على رغم ان قلبينا يلتقيان ويتعانقان. انك تؤمن بمحمد وتنطق اسم الله، وانا مسيحية على دين المسيح، وجذبت من فوق صدرها سلسلة تحمل صليباً مصغراً من ذهب، وقالت وهي تدنيه من شفتيها: هذا ما يفرق بيننا يا صديقي.
اضطرب عتمة منهاراً، نهض وقد امتقع وجهه، وقف شبه متيبس وجعل يتأمل طويلاً وجه ورنيدة.
- أنتِ إذن مسيحية؟
- هو كذلك...
تسمرا في مكانهما ولم ينطقا ثم رفعت الصبية رأسها إلى السماء ملتمسة من ربها ان يمنحها القوة لتحمل هذا البلاء. عتمة هو الآخر أحنى رأسه متكئاً بيديه على عصاه وجعل يدعو ربه. ومالت الشمس إلى الغروب.
إنها معركة قاسية يخوضها هذان الشابان. معركة صادمة بين القلب والعقل تدخلها الصبية بالصليب والفتى بالهلال. عندما عادا إلى رشدهما تكلم عتمة:
- لا عليك يا ورنيدة، أليس من واجبنا في هذه الحياة أن نتحمل المعاناة التي يكتبها لنا القدر ليمتحن الله ايماننا؟
ومثلما قلت لي منذ حين اننا لسنا أحراراً إلا في أن نحب، كلما كان الطريق شاقاً كانت الحياة أجمل، وعلينا ان نحرص على ان لا يعكر شيء صفو هذا الجمال. وهذا أيضاً يتعلق بإرادتك فلا يمكن ان تتناقض في مسألة الدين، فإذا قدرت ان حبنا لا يمكن ان ينتهي إلى زواج، فلنصيره إذن أجمل، ولنجعل منه صداقة. هل تريدين أن تكوني صديقتي يا ورنيدة؟ صديقتي في الشرف، في العفة، في المحبة؟
- هذا هو بالذات ما بقي لنا أن نفعل. انني أقبل اقتراحك. بل وكنت قبلته منذ اللحظة التي مسحت فيها على رأسي يوم ان سقطت في الشارع وأنجدتني، وأحس وجهي وقتها بأنفاسك ونحن في الطريق إلى المستشفى. إنك منذ تلك اللحظة صديقي، صديقي الحقيقي، علينا إذن أن نقوي الروابط التي تشدنا إلى ربنا، ولنبحث معاً عن النور، عن الصفاء.
بخطى ثقيلة عاد الشابان كل إلى بيته. وبعد صلاة العشاء توجه عتمة عائداً إلى يوكجا. ومنذ ذلك الحين لم يسمع عن الصبية شيئاً وهي التي طالما قلبت حياته.
* * *
انقضت شهور عدة وأنهى عتمة دراسته الثانوية في مدرسته الإسلامية في يوكجا وتهيأ للعودة إلى قريته الجبلية في بلاد "بريبانغر" الجميلة. امتطى الحافلة لتأخذه من يوكجا إلى سابيارنغ ومنها يمتطي الرتل إلى شيريبوت ثم الاوتوبيس إلى باندونغ. مرحلة أخرى في طريق بلاده. وبغتة توقف عتمة مذهولاً عندما كان ماراً أمام دير، فقد لمح ورندية تمشي مع زمرة من الراهبات، انها تلبس المسوح مثلهن!
التقت نظراتهما، توقفت ورنيدة ولكنهما لم يجدا الوقت حتى للتخاطب، إذ في تلك اللحظات بالذات فتح باب الكنيسة واسعاً ودقت الأجراس منادية المؤمنين للصلاة. التفتت الصبية برهة نحو عتمة الذي ظل متيبساً.
دخلت الراهبات الكنيسة مصطفات وبينهن ورنيدة، وبعد فترة قصيرة سمع صوتهن وهن يرتلن انشودة دينية رقيقة... رقيقة كما ينبغي لشحذ عزيمة الايمان.
عاد عتمة إلى قريته الجميلة غائباً فيها إلى الأبد!
ترجمة: عبدالجليل دمق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.