يجلس المخرج المسرحي والسينمائي العالمي انغمار برغمان أمام كاميرا التلفزيون السويدي بعد ان وافق على اعطائه مقابلة مطولة يتحدث خلالها عن نظرته الى السينما العالمية والمخرجين الشباب وعن اعماله السينمائية الجديدة والقديمة وعن علاقته بالموت في سنه المتقدمة. ولكن قبل ان تبدأ المقابلة في شكل جدي يأخذ برغمان دور الصحافي ويباشر بطرح اسئلة على الذي يجري المقابلة معه. يظهر الكبر على وجه برغمان وتخرج السنين الثلاث والثمانون من عينيه كاشفة سر العمر المتقدم. وهي سنوات عمل خلالها برغمان بجد لاحتلال مرتبة متقدمة بين المخرجين العالميين. يطرح برغمان اسئلته على الصحافي، وكأنه يريد أن يقول له ان هذه الاسئلة هي التي يرغب في الاجابة عنها: ما الذي دفعك الى العمل في مجال الفيلم والسينما؟ كيف بدأت؟ كيف بدأت رحلتك مع عالم الافلام؟ اين ومتى؟ هل هي الشاشة البيضاء التي جذبتك عندما شاهدتها وانت جالس في العتمة، ام تقنية صنع الافلام؟ هل لا تزال تسحر في كل مرة تدخل فيها الى غرفة الماكينات وتشاهد العلب الفضية الكبيرة على ارض الغرفة؟ ثم يجاوب برغمان بنفسه على آخر سؤال ويقول: "كانت رائحة الفحم في غرفة الماكينات تثيرني الى درجة عالية كلما دخلت الى الغرفة. مررت بمرحلة في حياتي عندما كانت السينما مركز الهرب الوحيد لي. هناك في عتمة القاعة هربت شياطيني من روحي وتركتني اتمتع بسلام بما اشاهده وحيداً. لم اكن جباناً بل كان هربي الى تلك القاعة مشروعاً". ثم يدخل الصحافي على الحديث ويقول ان الشعور نفسه انتابه عندما دخل قاعة السينما أخيراً لمشاهدة فيلم للمخرج البريطاني كولين ناتلي. وحاول ان يشرح لبرغمان ان الفيلم عرض على ماكينات "دي في دي" وأراد ان يشرح له عن تلك التقنية العالية فقاطعه برغمان بعصبية: "اعرف ما هي، اعرف ما هي" وكأنه يريد ان يقول له انه على رغم العمر المتقدم فهو يتواصل مع التقنية الحديثة التي دخلت على السينما أخيراً، ويسأل الصحافي عما اذا كان يشاهد كل الافلام الجديدة: "انني اشاهد معظم الافلام الحديثة، توجد عندي سينما خاصة بي في جزيرة فوراو اتردد عليها خمس مرات في الاسبوع. أشعر براحة كبيرة عندما اكون في فوراو حيث يوجد بيتي وكل ما احتاجه في عملي. لا احب ان اسكن في استوكهولم كما انني لا اشعر بوحدة في فوراو، اتمنى لو كان بامكاني ان انقل مبنى مسرح الدراما الملكي الى فوراو وانقل كل الممثلين الذين اتعامل معهم، ولكنني اعرف ان هذا صعب للغاية لذا يجب علي ان ازور استوكهولم، بين الحين والآخر". السينما عالم أصحاب الفكرة يعرج برغمان على عالم الفيلم ويشرح ان السينما تقدمت في المجال التقني واصبح من السهل صناعة افلام خيالية ويشرح: "السينما هي عالم الذين عندهم فكرة جيدة يريدون طرحها، اذا وجد عندك ما تريد قوله فيمكنك قوله في السينما، حتى ولو كانت صناعة الفيلم رخيصة. ولكن جيل المخرجين الجدد الذين اظهروا كفاية عالية في صناعة الفيلم، للأسف لا يوجد عندهم دائماً ما يقولونه". يعرب برغمان عن اعجابه بمخرج شاب من اصل ايراني اسمه رضا بارسا شارك في مهرجان يوتبوري الدولي للأفلام. ثم يسأله الصحافي عن التشابه بينه وبين الكاتب السويدي اوغست ستريندبرغ الذي كان يردد ان الكتابة موجودة في دورته الدموية فيقول برغمان: "انا من عشاق روايات ستريندبرغ. كنت في الثانية عشرة من العمر عندما بدأت اقرأ ستريندبرغ واشاهد مسرحياته تعرض على المسرح. لم اكن افهم كل مضمون نصوص ستريندبرغ ولكنني كنت اذهل عندما اسمع اصوات الممثلين تنطق تلك الكلمات الصعبة، وهذا ما كان يجذبني الى نصوص ستريندبرغ. اذكر ان اول نص لمسرحي شاهدته من وراء الكواليس كانت مسرحية "لعبة حلم"، اخذني وقتذاك زميل والدي الذي كان يعمل في المسرح الدرامي وشاهدتها خلسة". اخرج برغمان العديد من نصوص ستريندبرغ، ومن الملاحظ ان علاقته الروحية به قوية للغاية يشرحها بقوله: "قررت في احدى المرات ان اقابله في الحلم. كنت اسكن في شارع كارلا فاغين حيث عاش ستريندبرغ، وفي احدى المرات حين كنت اهيئ نفسي لاخراج احد نصوصه سهرت ليلة طويلة على ترتيب المشاهد والجمل، ثم التجأت الى النوم. اتى ستريندبرغ واخذني بيدي وحصل ما كنت اتمناه، ان اتمشى مع ستريندبرغ في شارع كارلا فاغين وتحدثنا طويلاً عن ادبه". ويشرح برغمان انه بعد ان اكتشف روعة نصوص ستريندبرغ اتجه الى ترجمة نصوص الكاتب النروجي ايبسن ويقول: "اصبح العمل مع نصوص ايبسن وستريندبرغ متعة في حد ذاته وكنت اشعر بنشوة عند ترجمة نصوص ايبسن المكتوبة بالنروجية. كانت صعبة ولكنني تجاوزت صعوبتها بسبب حبي لمضمونها". يحكي برغمان عن النص السينمائي "عديمو الايمان" الذي اعطاه لزوجته السابقة ليف اولمان لتخرجه ويقول: "تلك القصة لها ماض حزين، لم اكن اعتقد من قبل انني سأعود الى مضمونها الذي مرت عليه سنين طويلة لأكتبه للسينما، كما انه لم يكن عندي أي نص مدون عن القصة عندما حصلت، فأنا لا أدون ما يحصل معي. كل نصوص افلامي اضع لها السيناريو والحوار عندما اقرر انها ستصبح فيلماً. ولكن في عمري المتقدم هذا اصبحت ادون قسماً من مضامين النصوص لأنني اعاني مشكلة الارق التي تصيب كل كبار السن. ويقسم الارق ليلتي الى اربع مراحل تفصل بين الواحدة والاخرى ساعة ونصف الساعة تقريباً لذا لا انام بتواصل بل بتقطع. ولكنني استغل فترات الارق لأنهض من فراشي وأدون ما حلمت به خلال ساعات النوم القليلة لأكتشف في اليوم التالي الفارق الكبير بين حياة النوم وحياة اليقظة، انهما عالمان مختلفان جداً وأنا كنت دائماً من محبي عالم الاحلام". ولكن على رغم تغزله بعالم الاحلام فهو يشرح طريقة للتخلص مما يسميها الارواح الشريرة اثناء النوم ويقول: "اكبر خدمة نقدمها للأرواح الشريرة هي ان نبقى في فراشنا نياماً، هناك طريقة ممتازة لطردها وذلك عبر النهوض من الفراش وأخذ قسط من السباحة او قليل من المشي في الغابة فيطرد الانسان الارواح الشريرة. وكلما تقدم الانسان في السن تكثر حوله الارواح الشريرة فلا يمكنه ان يطردها الا من خلال الابداع". حديث برغمان الكثير عن الارواح الشريرة والسن المتقدمة والنوم يشير الى انه يفكر في الموت ومضمونه، وهو يشرح ذلك بضحكة هزلية: "مسألة الموت كانت حالة واقعية بالنسبة لي منذ القدم، فأنا افكر بالموت كل يوم منذ ان كنت طفلاً صغيراً. كما ان الموت يرافق الانسان منذ سن المراهقة عندما يتغزل بالموت عبر الادعاء بالانتحار، انها طريقة ممتازة لمغازلة الفتيات الجميلات. ولكن في عمري هذا اصبح الموت شيئاً واقعياً وملموساً، والذي يخيفني فيه هو الوجع الجسدي الذي لمسته في بعض الاحيان. لا يوجد عندي خوف كبير من الموت فأنا كنت في سن الثلاثين والاربعين والخمسين اخاف كثيراً منه ولكن ليس الآن... انا لست خائفاً الآن".