عندما حصل الشاعر الايرلندي الشمالي شيموس هايني على جائزة نوبل، عام 1995، انقسم الايرلنديون، في المناسبة، الى قسمين: واحدٌ فرح منفعلاً كما لو كان الأمر يتعلق بفوز الفريق الوطني لكرة القدم بكأس العالم. وآخر استاء حانقاً ولم ينبس بشيء. وكان هذا، في واقع الحال، تلخيصاً لواقع الأشياء على الأرض. فالمكان، وكذلك المشاعر والأحاسيس هو بين قطبين يتنافران، ويشهران الانتماء في جهتين. ويلخص الشاعر في نفسه هذا الانفصام. فهو ايرلندي شمالي، كاثوليكي، ذو خلفية قومية ولكنه تربى في حضن الثقافة البريطانية. وسيسم هذا التنافر بميسمه الشعر والأفكار. ويبدو كما لو ان الحصول على جائزة نوبل هو، في نهاية الأمر، تتويج للثنائية وتمجيد لها. يلخص الشاعر شيموس هايني الحال على هذا النحو: "هناك جانبان في شخصي، جانب أنثوي يمثل ايرلندا وجانب ذكوري يستمد وجوده من الانغماس في الأدب الانكليزي. أنا أتكلم ما كتب بالانكليزية ولكنني لا أشاطر الانكليز مشاغلهم وهواجسهم. أنا أدرّس الأدب الانكليزي وأطبع كتبي في لندن إلا ان التقاليد الانكليزية لا تحتويني. أنا لي عالم آخر". المكان ليس بريئاً. أكثر من ذلك، هو مصدر تعيين وجهات النظر في قراءة العالم، ولا يفلت الشاعر من الفخ. ان كلماته تستوي في مرجلٍ من ذاكرة مكانية تحكم قبضتها في الذهن والشعور. ولن تكون القصيدة هي ذاتها ان كان الشاعر ولد في مكان آخر بعيد عن تجاذبات المذهب والتاريخ. كان شيموس هايني درس الأدب الغالي في ايرلندا الى جانب الأدب الانكليزي. وتشكلت لديه، من أثر ذلك، فكرة عن كونه ايرلندياً في مقاطعة "تصرّ على أن تكون بريطانية". وتسرّب الى القاع النفسي للشاعر أثر من كل جهة. أما الذاكرة فقد اكتنزت بالأشياء وأضدادها. تصير للذاكرة أكثر من ضفة وينفتح أمامها أكثر من أفق. لهذا يصير متاحاً للشاعر ان يقول في صيغة البديهة: "ليس هناك ما هو غريب في أن يملك المرء أكثر من ذاكرة". ان المناخ المتعدد المشارب، الذي نشأ فيه الشاعر، عزز لديه القناعة بأن الهوية ليست ثابتة ولا هي نهائية. والشاعر، بصفته امرءاً لا يستقر على متكأ، يصنع هويته في كل لحظة. انه يملك هوية الآن ليغادرها بعد لحظة. وفي ذاته يصير المجال مفتوحاً أمام تعايش الواقع والمتخيل بمقدار يتفوق على ما هو عند غيره. لم يكن ممكناً أن يعدم الشاعر موقفاً ووجهة نظر في مكان تتناحر فيه الإرادات منفلتةً من العقال. ففي بلفاست وغيرها من مدن الشمال الايرلندي يعيش المرء، بتعبير شيموس هايني، وسط الانفجارات والجنازات. لقد ارتسمت على سحنة الذاكرة خطوط عميقة هي آثار حزن وخوف ورهبة. وعلى جانبي حدود التنابذ الطائفي تنهض امارات العنف والعبث والتمرد. كأنما الإنسان، هنا، فقد الاتجاه الذي يؤدي به الى ادراك المعنى الأجمل للكينونة. فمصادرة الرغبة في اشهار الانتساب الى المكان تتحول الى قاعدة مرعبة. لهذا يتلكأ الشعر تحت ثقل الحماقة. وينهض أمام الشاعر سواتر لا يستطيع القفز من فوقها ما لم يدفع ضريبة الانتماء. ولقد انخرط شيموس هايني في السجال آخذاً جانب الفطرة والبداهة. وهو شدّد على ضرورة ان يكون المرء حرّاً في أن يكون ايرلندياً أم لا، من دون ان يحاسب على امكان حمله الكراهية إزاء الآخر. على هذا المنوال لزم الشعراء، في ايرلندا، منزل الكتابة ذات الذاكرة المكانية. وهم توزعوا على حدّين يتأرجحان بين المقول الاجتماعي والانعتاق الشعري. والشيئان، عندهم، يتصادمان. يقول شيموس هايني ان السكان في ايرلندا الشمالية يعيشون في مكانين وزمانين. ولقد تغلغلت في اللغة نفسها حلقة كثيفة من الرطانة السياسية والثقل المقصدي. وتجد المخيلة الشعرية نفسها ملزمة بدفع الواقع جانباً في كل برهة. فالشعر تكاملٌ في وجه التناحرات. وهو عصارة الدهشة في وجه الخوف. انه أوسع وأبعد مدى من العقائد المذهبية والايديولوجيات السياسية. وفي نظرة شيموس هايني فإن الشعر والسياسة، مثل الدولة والكنيسة، يجب ان ينفصلا. ويتحتم على الشاعر ان يرسم خطاً رفيعاً بين الانحياز الى الجمالي، الشكلي في النص وبين الإخلاص للمحيط المجتمعي والسياسي الذي يحتوي النص. ويلجأ الشاعر، هنا، الى القوة الخيميائية للإبداع ليجعل من المعيش اليومي لحظة زمانية دائمة. ويستشهد الشاعر بمقولة الكاتب الجنوب الأفريقي، أندريه بليك، عن دور الكاتب في المجتمع المقموع. هو يقول: ان الناس في مجتمع كهذا لا يستعملون إلا جزءاً ضئيلاً من الأبجدية القائمة. وفي قضايا مثل الجنس والدين والعرق فإنهم لا يتخطون حرف الميم مثلاً. ويأتي دور الكاتب هنا ليمدّ النطاق الى حرف النون أو حتى التاء. وتكمن هنا حدود الكتابة ويقوم الخط الذي يفصل بين الأوضاع الفعلية للعيش اليومي وبين التمثيل الخيالي لتلك الأوضاع كما تتجسد في الأدب. والشعر ها هنا يمثل طريقة لجعل الوجود الإنساني أكثر انفتاحاً على الحياة. ولكن شيموس هايني لم يلتزم جانباً واحداً، حتى وان تنوع، من المشهد الايرلندي. انه لم يلتزم بالكاثوليكية مفتاحاً لدخول الحلبة. وهو لم يكتفِ بالنظرة البديهية، التي تمت الاشارة اليها، لقراءة وقائع الحال. بل هو ابتعد عن الجبهات كلها ليبقى ملتصقاً بالمكان. فالمكان، في رأيه، يختزن الذاكرات والتناقضات من دون أن يتأفف. والمرء في قناعته، يمتلك مخيلة تتسع للأشياء جميعاً. وأياً كانت القناعات الفكرية والسياسية ومهما كانت الثقافات الداخلة في تشكيل الحساسية الفردية فإن المخيلة تنفعل بالمكان وتستجيب لإيحاءاته بطريقة خصوصية مستقلة من أي اعتبار اجتماعي. وداخل الذهن يتحقق نوع من التزاوج بين المكان الجغرافي والمكان الخيالي بغض النظر عن مرجعية هذا الأخير، سواء أتى من تراث شفوي لا واعٍ أو من ثقافة أدبية واعية. لكن يمكن لنا، ممن أتيحت له قراءة كتابي شيموس هايني النثريين، "تقويم الشعر" و"انهماكات"، ان يلاحظ ان الذاكرة المكانية للشاعر ترتد، دوماً، الى المنبت الطفولي. وتحتل البقعة الايرلندية الشمالية المساحة الأكبر. وهذه الذاكرة لا تقتصر على وجوه الطبيعة والمعايشة بل هي تقفز بعيداً الى غالبية الارتباطات النفسية والثقافية والسياسية بها. ولهذا فإن شيموس هايني يشتغل، في الكتابين، على الشعراء الايرلنديين واستطراداً بعض الاسكوتلنديين ممن احتضن شعرهم المكان احتضاناً واسعاً. وفي نظر الشاعر ان في المقدور تشخيص مكانين، في الشعر، يكملان بعضهما بعضاً ويتناقضان في آن معاً: مكان أميّ، فطري، لا واع، ومكان متعلم، متبحر، واع. وفي حين تطيّر جيمس جويس من أسر المكان، وأعباء الذاكرة المحلية، قائلاً، على لسان ستيفان ديدالوس في يوليسيس": تتحدث لي عن القومية، الدين، الوطن؟ دعني أطير من هذه الشرانق. فإن باتريك كافاناه، الشاعر الايرلندي الشهير، أسهم في شكل متعمد في ترسيخ تقاليد مكانية وتوطيد أدب ايرلندي متفرد. وفي مقال بعنوان "حسّ المكان" يتحدث شيموس هايني عن صنف كتابي في الشعر الايرلندي يدعى Dinnsean chas وهو عبارة عن قصائد وحكايات تتقصى المعاني الأصلية لأسماء الأماكن وتشكل نوعاً من ايتمولوجيا ميثولوجية. وهو يريد التنبيه الى تلك العلاقة القائمة بين اسم المكان كمنطوق صوتي من جهة وكلحظة مغروسة في التاريخ والذاكرة من جهة أخرى". لقد سعى ييتس، الشاعر الايرلندي الآخر، الى اضفاء ثوب أسطوري على المكان وانشاء وقائع خيالية تطرد الجفاف السياسي والاجتماعي لصالح الخصوبة الأدبية والجمالية. ان المكان عنده يكتنز السحر. وهو ركّز على ضرورة أن ندرك ان الفن يتعالى عن الواقع وأن الحلم أجمل من العيش. لقد قال في احدى قصائده: ألق نظرة باردة/ على الحياة، على الموت/ أيها الفارس، وامضِ. هكذا يصير المكان، عند ييتس وهايني، إيحاء حلمياً ومجموعة ذاكرات وحنين. ولم يكن سحر المكان، المحلي، غائباً عن الايرلندي أوسكار وايلد أيضاً. لقد تحدث، ذات مرة، عن العبقرية التي تنبثق من التراب الايرلندي. وهو بلغ حدود المغالاة في القول إن ما من أمة تناهز الشعور القومي عند الايرلنديين. وهو، حين استدعته حكمة بريطانية للمثول أمامها، في قضيته الشهيرة عن ميله الجنسي المثلي، عارض المحاكمة على أرضية ان الايرلندي لا يُمنح قط معاملة عادلة في المحاكم الانكليزية وذلك لأن "المخيلة الانكليزية تحتفظ بصور متحجرة عن الايرلنديين". وهو قال ما يلي: "أنا، بالنسبة لكم، لست أنا، بل صورة عن أهوائكم العرقية. أنا لا أؤمن بأخلاقكم ولا بفضيلتكم. عندي أخلاقي الخاصة وفضيلتي التي أطلق عليها اسم الفن. أنتم تؤكدون ان الرجل رجل وان المرأة امرأة وحسب وأنا أقول إن لا شيء خالص بالتمام والموت وحده يوفر نقاءً كالذي تزعمون". ويقترح أوسكار وايلد ان كلّ واحد منا متواطئ في خيانة ما. والمجتمع هو تجسيد لكل منّا. ولكن المجتمع يتصرف في شكل منافق حين يلجأ الى ادانة من يسميهم بالمنحرفين. المنحرف هو، في الواقع، التمثيل الفعلي لما عليه الناس جميعاً. وكان وايلد يسعى، في السجن، الى تأليف كتاب يكون، بتعبير كافكا، بمثابة فأس يحطم البحر المتجلد في كل واحد منا، لقد تربى أوسكار وايلد تربيةً قومية. وغررت فيه والدته، الشاعرة، عاطفة التعلق بالوطن القومي والانشداد الى المكان التاريخي للإيرلنديين. وهي حين أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى أهدته الى أوسكار وأخيه: "الى ولديَّ ويلي وأوسكار. لقد جعلتهما يتكلمان بفصاحة عن الوطن". ولكن شيموس هايني لا يمكث عند هذه الجوانب إلا بوصفها عارضاً من عوارض المكان. غير انه ينصرف عنها سريعاً ليجد في شخص الشاعر الويلزي ديلان توماس علامةً ينبغي التعلق بها كالضوء. كان كارهاً للأوهام القومية والمبالغات الوطنية. لقد سعى في الوصول الى تلك النقطة التي تقود الى الشعر من طريق الحواس أو ما سمّاه: التدمير المبدع والابداع المدمّر. شأن رامبو، كان ديلان توماس عبقري الفوضى واللذة الصبيانية. كان ولداً رهيباً لا يقدر أحد، أو شيء، أن يحبسه، بما في ذلك الوطن. لقد مات في نيويورك، بعيداً من ويلز، بسبب وصفة خاطئة للمورفين. يستشهد شيموس هايني بقول الشاعر البولوني جيسلاو ميلوش في أن العبث واللامعنى والفراغ باتت أشياء تمثل جزءاً أصيلاً من المحيط الثقافي الذي نعيش فيه. وهو يومئ الينا عن المصير المحزن للشاعر الروسي أوسبب مندلشتام الذي مات، بسبب من قسوة ستالينية فظة، من دون ان يحتويه مكان هائل هو هذا العالم الكبير. هوية المكان: تلك هي جريمته أيضاً.