لا يصح أن يقاس تخلف أو تقدم أمة من الأمم في عصر معين على حال الأمة ذاتها، بل يجب أن يُقاس على أساس نسبة حالها إلى حال غيرها من الأمم. ولعلنا لا نجد صعوبة في الحكم على أمتنا بالتخلف إذا ما قارناها بمن يجاورنا في هذا العصر من أمم الآخرين، وبالطبع فإن حديث تفوقنا على غيرنا في ما مضى من الزمان وبما فيه من تعزية محببة إلى النفوس لا يمكن أن يبرر محاولاتنا للادعاء بأننا، ولو في بعض الجوانب، نتقدّم على الأمم المتقدمة في هذا الزمان. إن أي منصف منا لن يجد بُداً من الاعتراف بأننا، وإن بدرجات متفاوتة، متخلفون عن سكان هذا العصر من المتقدمين، وسيلحظ الجهد الذي نبذله لإنكار هذه الحال، وسيشهد كيف أن منا من ينصرف إلى الحديث عن حضارة سالفة لنا، محاولاً التأكيد على أن من حق الأمة التي كانت قد تجاوزت غيرها حضارياً ثم ركنت إلى التخلف منذ أكثر من ألف عام، من حقها أن ترفض التعلّم وأن تجلس من دون جهد سعيدة على مقاعد المعلّمين. ليس هذا فقط، بل إنه لن يصعب على من يراقب أحوالنا أن يجد أن كثيرين منا تفرغوا للدعوة إلى أن نعود للعيش في هيكل الحضارة التي كانت لنا، وأن نكيف كل شيء فينا من عقولنا إلى ملابسنا لتنسجم مع قواعد ومعطيات الزمان الذي كنا فيه من السابقين، وأن نروض تفكيرنا وسلوكنا، بل وحتى ملامحنا لتلائم ما كنا عليه منذ ألف عام أو يزيد، يضاف إلى كل ذلك ما نذرفه من عرق للكشف عن عيوب في حضارة العصر حتى نبرر رفضنا لها منقسمين إلى دعاة لهدمها ومتبرعين بالعمل على انقاذها من الهلاك. بالجملة، نحن نبدو سعداء بأن كانت لنا حضارة لا نتوقف عن اجترار ذكرياتها التي تفترض أنها كانت ذكريات سعيدة، كما نبدو رافضين للتعلم من حضارة العصر التي تفيض علينا بانجازاتها المذهلة والتي كنا عدنا إلى بساطة فيافينا أو اننا تخلينا عما قدمته وتقدمه لنا من انجازات. هكذا نجد أنفسنا قوماً تحولوا إلى الحرص على التخلف عن حضارة العصر من دون أن يعترفوا بأنهم متخلفون عنها، بل ومصورين لأنفسهم بأن ما يحاولونه من انصراف عن العصر باتجاه الماضي ليس إلا مسيرة تقدم عبقرية، وهكذا يصبح السعي إلى وراء انجازاً إلى أمام، وتغدو محاولة التعلم من المتحضرين نقيصة جديرة بالازدراء. هكذا نبدو أمة تستهلك بكل شراهة منجزات العصر لا لتفهم حضارته وتتعلم منها، وإنما لتستخدمها للمضي في رحلة السفر إلى وراء، ومن منّا لا يلحظ كيف ولأي أهداف نستخدم الراديو والتلفزيون والمطابع، بل وحتى الانترنت وباقي وسائل الاتصال. إن أمة تكافئ نفسها على حرصها على التخلف، هي أمة هاربة من حقائق الحياة، ولن يكتب لها الخروج من تخلف لا تفكر في الخروج منه وعلى من يصدقها النصيحة أن يدعوها إلى الوقوف مع الذات والنظر في المرآة علّها ترى ذلك القدر من التجاعيد والغضون. حقاً، ان أي جهد يبذل في سبيل أن تعترف الأمة لنفسها بأنها شديدة التخلف عن حضارة العصر هو وحده الجهد الذي يستحق أن يوصف بالإخلاص، إذ لا بد لأمتنا من أن تقارن نفسها بأمم العصر المتقدمة وليس بالأمم التي عاشت حولها منذ ألف عام، فما في مقارنة أمة العرب بأمم أوروبا في العصور الوسطى إلا تضليل للنفس، إن خرجت المقارنة عن محاضرة في التاريخ، ولن تحقق العودة إلى جذور يابسة او إلى منجزات وضعت منذ زمن في متاحف الذكريات إلا مواصلة إدمان الماضي عزوفاً عن التقدم إلى أمام. إن أول خطوة في سبيل خروج أمة مما هي فيه من تخلف عن أمم العصر الذي تعيش مرهونة باعترافها بأنها متخلفة، وان سبيلها للتقدم كامن في إقبالها على التعلم من المتفوقين وليس في اجترار ذكريات عهود كانت فيها نسبياً من المتقدمين. إن على التلميذ الذي تخلف عن أقرانه أن يقبل على الجلوس في مقاعد المتعلمين، وطريقه للحاق بهم كامنة في مواظبته على حضور الدروس، وليس في العودة إلى رياض الأطفال من جديد. لقد حان الوقت، إن لم يكن قد فات، لنعترف لأنفسنا على رغم استساغتنا لاستهلاك منجزات حضارة العصر، وان نضيق بما نحن فيه لعلنا نبدأ الخطوة الأولى إلى أمام بلا عقد ولا مكابرة، قابلين بحقيقة اننا نحن المسؤولين عما نحن عليه من أحوال في كل مجال. إن الحرص على التخلف ومحاولة الباس النفس ملابس المتقدمين ليست إلا حال مرضية يجب علينا الإقرار بها حتى يمكن أن تولد فينا إرادة السير إلى أمام، فالاعتراف بالتخلف هو حقاً في حد ذاته حطوة كبرى إلى أمام، إذ أنه يضع على عاتقنا وحدنا مسؤولية التخلف الذي نعيش وهو الذي قد يوقظ هممنا ويدفعنا إلى محاولة الخروج. إن في الاعتراف بالتخلف وفي الإقرار بأننا سبب فيه موقف سيقودنا إلى الكف عن تحميل الغير وزر أحوالنا، فقد سادت ولا تزال فينا مسلمات عن أننا ضحايا الآخرين، وان دوام تخلفنا وفشل محاولاتنا للخروج منه ليس إلا حصيلة مؤامرات غربية وأميركية وصهيونية، مع أننا قد نعمنا بتخلفنا قبل بروز الدولة في أوروبا، وقبل ظهور الولاياتالمتحدة على مسرح الأحداث وطبعاً قبل أن تولد إسرائيل. نحن نرتاح إلى أننا ضحايا مؤامرات لا تتوقف لحرماننا من اللحاق بحضارة العصر، بل ولمنعنا من العودة إلى التاريخ الذي كنا فيه من المتحضرين، ان الأعداء يفسدون علينا ديننا الذي نفسده، واليهود يخربون اقتصادنا الذي لا نحسن إدارته، ويشوهون صورتنا التي لم ندخر وسعاً لتشويهها. إننا على الدوام ضحايا، فالمشاكل التي تواجهنا هي دائماً من صنع الخصوم، والفرقة التي تحكم علاقاتنا ليست إلا دسائس استخبارات أجنبية، أما الإرهاب الذي نتعاطف معه فليس إلا وصفاً ظالماً ألحقه بنا الحاقدون. إننا ضحايا بريئة، فحتى أولادنا الذين نهمل رعايتهم لا نفسدهم نحن، بل بفعل أولاد الجيران وأقران السوء. حقاً، لن تخرج أمة من تخلفها وهي غير راغبة في مواجهة نفسها، وكيف تتقدم أمة لا تضيق بما هي فيه من الأحوال، وإن ضاقت عزفت عن التعلم وأسرعت عائدة إلى رياض الأطفال! * رئيس وزراء ليبيا السابق.