أي مشروع ممكن لنهضة عربية تنقلنا الى عصر التقدم الذي مازلنا نعيش على اطرافه الجافة؟ والحديث هنا يتعلق بالعرب الذين يقبلون بطرح السؤال. فمن بيننا الكثير ممن يرفض طرحه على اعتبار اننا ناهضون ولا نحتاج الى اية مشاريع، بل اننا نصبح اذا ما نفضنا الغبار عما لدينا من حصيلة حضارية مؤهلين لقيادة نهضة العصر وانقاذها من الانهيار. مع ذلك، يبقى بيننا من يوافقون على ان السؤال مطروح علينا لكنهم يقدّمون إجابات مسطحة ويقترحون مشاريع نهضات عربية هي اقرب الى قراءة الكف منها الى البحث عن ادوات النهوض. علينا اولا وقبل كل شيء الاعتراف بالتخلف، فلن يبذل جهداً في سبيل النهوض من لا يرى نفسه من المتخلفين. ثم إنه يصبح لزاماً علينا إذا ما تجرأنا على ذلك الاعتراف، أن نفرق بين القدرة على اقتناء منجزات حضارة الغرب واستظهار علومه وبين بلوغ عقولنا درجة من النضج تمكننا من إدراك تفاصيل وأسرار تلك المنجزات. ولكي يبلغ العقل درجة النضوج العصرية لا بد له من ان يتحول من أداة للتحصيل والنقل الى أداة للتفكير الانتقادي. فلا يصبح العقل خلاّقاً ومبتكراً إلا اذا تدرب على الفحص والتحليل والرفض والقبول، وإلا اذا تعود ان يمارس هذا المنهج إزاء كل فكرة او تقليد لدرجة ان تصبح كل المسلّمات اموراً قابلة للفحص وكل مشكلة تقبل الحل، ولكن بمشكلة اخرى. فالعقل الانتقادي يدرك ان الحياة رحلة مشاكل لا توقّف فيها عن محاولات إيجاد الحلول. في حالتنا، ونحن نبحث عن مشروع لنهضة عربية يصبح من العبث ان نتجاهل الأداة الاساسية، وربما الوحيدة، لأية نهضة، وهي الأداة التي انتقل بواسطتها الغربيون من حال القعود الى حال النهضة، إنها العقل الانتقادي. فعندما تسود العقول الانتقادية يسود التفكير الخلاّق ويولد الابتكار. ولو تخيلنا ان قطاعاً عريضاً من العقول العربية اصبح انتقادياً لتجرأت أمتنا في تواضع على التعلم من حضارة الغربيين وأساليب انجازهم، ولرافقت خطاهم الحضارية قابلةً بأن لا سبيل للاستيعاب والاضافة الا عن طريق التعلم من الذين استوعبوا فأضافوا ومقتنعةً بأن للحضارة الانسانية سلّماً واحدا يمكن الصعود اليها منه، ولا بد للراغبين في بلوغ قمة العصر ان يتعلموا صعود درجات السلم الوحيد. أما البحث عن أخشاب بالية لصنع سلم آخر فليس إلا تعبيراً عن فعل عقل غافل او هروب من عناء الصعود. إن أحداً لا يقدر على انجاز حضارة جديدة، فحضارة الغرب ليست إلا مراكمة لجهود الانسان على مر العصور، سواء في انجازاتها المادية او غير المادية، وعلى اية جماعة متخلفة ان تستوعب ما فاتها قبل ان تكون جديرة بالتحضر، ولا يستحق اي مشروع ان يُسمى بمشروع نهضة الا اذا كان ساعياً للّحاق بحضارة العصر. لكن علينا ونحن نقرر هذا القول ان ندرك ان اي مشروع للنهضة يحتاج الى ادوات، اولها العقل الانتقادي. وسوف يظل الحديث عن تفاصيل المشاريع النهضوية العربية مجرد رسم على الرمال. فالنهضة لا يمكن ان تكون خطة يضعها فرد او جماعة، وانما هي عرض جانبي لجهد العقل الانتقادي. فعندما تكون لدينا حصيلة من العقول الخلاقة المبتكرة تواصل التعلم من الآخرين بلا عُقد، وتقدم على الإنجاز بلا عقبات، سوف نلحق بركب الحضارة المسرع. النهضة كالسعادة ليست مكاناً نستطيع بلوغه او شيئا نستطيع القبض عليه وانما هي نتيجة جانبية لأشياء نقوم بعملها. والمرء لا يستطيع رسم مشروع لشجرة برتقال، وما عليه ليحصل عليها الا ان يزرع الشتلة ويواصل ريها والعناية بها. ولعل رؤيتنا للنهضة تبدو كرؤية راغب في شجرة البرتقال ينفق وقته في التخطيط لشكل الساق وكثافة الفروع وحلاوة الثمار من دون ان ينشغل بوضع الشتلة في التراب. ومن الأولى بنا بدلا من اضاعة الوقت والجهد في رسم المشاريع النهضوية ان ننصرف الى البحث في أمر أداة النهضة وهي العقل الانتقادي، فنحن لا نزال فقراء في هذا الشأن. ومزارع العقول عندنا لا تنبت إلا عقولاً مقيدة خاملة غير قادرة إلا على الحفظ والاستظهار ولا تملك الجرأة على الفحص والتحليل والرفض والقبول. لذلك تجدنا نخوض في مشاكل تخلفنا بأدوات بالية ومسلّمات ثبت لنا انها لا تفيد. وغالبا ما ينتهي بنا خوضنا الى نتائج تكرس تخلفنا. وبالطبع فان العقول المقيدة الخاملة هي التي تخوفنا من حضارة العصر الغربية، وتوهمنا بأننا الافضل والأنقى بكل ما فينا وما نعرفه عن انفسنا وهي التي تعرق من اجل ان تجنبنا الأعراض الجانبية لحضارة الغرب ونحن مازلنا أبعد ما نكون عنها، فتبدو وكأنها تدربنا على السباحة في الفضاء الخارجي الذي لا يعلم إلا الله إن كنا سنصل اليه. قلت ان النهضة ليست مشروعاً وانما هي عرض ونتيجة لجهد عقول مؤهلة، وأقول إن العقل المؤهل لإنجاز اية نهضة هو العقل الانتقادي الذي يعمل بما يجعل اليد تقدم على الانجاز وليس العقل الذي يستخدم كحاوية للمعلومات، بل وللمعلومات القديمة البالية فحسب. ونحن اذا ما خطرت النهضة على بالنا، لا بد لنا من التوقف عن رسم المشاريع والانتباه الى امتلاك العقول الانتقادية المبتكرة والانصراف عما نفعله من تكوين العقول الحافظة الخاملة. إن تكوين العقول الانتقادية امر لا يتم الا بجهد متواصل من اولى مراحل التعليم وحتى نهايتها، لكن انجاز هذا الامر يتطلب ان تنشط العقول الانتقادية القليلة التي عندنا للمطالبة بانجاز التعليم الانتقادي وذلك بالدعوة الى تسخير كل ما يمكن تسخيره من اموال لبناء مدارس ومعاهد وجامعات، كما يجب ان نبني والانفاق على وسائل التعليم ورجال التعليم المختارين بعد تأهيلهم بكل بذخ ممكن. فلو توقفنا عن الانفاق على مرافق مهمة اخرى من سكن وترف وسلاح وجيوش بل وحتى عن علاج، ووجهنا اموالنا الى توفير أماكن ووسائل تعليم ومعلمين لكان استثمارنا هذا هو النهضة بعينها وسوف يمكن في ما بعد تعويض نقص الانفاق على تلك الأوجه التي ذكرنا. والنهضة تتطلب منا قرارات جادة وشجاعة وربما عسيرة ايضا بأن ننفق اكبر قدر من دخلنا على التعليم الصحيح وذلك ببناء ما يمكن من المدارس الفخمة وتزويدها بأحدث ما انجز العصر من وسائل ومناهج تعليم وكذلك اعداد المدرسين من بين افضل ما لدينا من الرجال والنساء وتزويدهم بأعلى الرواتب. وبالطبع يبقى علينا ان نتواضع مستعينين بالاجانب في شأن مناهجنا وفي شأن إعداد مدرسينا لكل مراحل التعليم، فتصير المدرسة صالحة للانجاز، ويصير المدرس مؤهلاً لصناعة العقل الانتقادي الخلاق. ولعله من الافضل لمن لا تسمح امكاناته بتوفير الظروف المذكورة لجمع ما لديه ان يقتطع شريحة يقدر على توفير تلك الظروف لها فيصنع لنفسه العدد الممكن من العقول الانتقادية المبتكرة، ولعل هذا افضل مما يحدث من توزيع الامكانات على الجميع فيتحول التعليم كله الى محو للأمية وطمس للقدرة على التفكير والابتكار. وإن المرء ليتخيل اي جيل يمكن ان ينهض وعقوله انتقادية خلاقة لو ان المدارس كلها فخمة ومزودة بكل ما يحتاجه ولو ان المدرسين جرى اختيارهم من بين افضل النساء والرجال، وانه جرى تأهيلهم تأهيلاً في مستوى الغربيين وتدربوا على مناهج الحضارة الغربية مع ما يلزم اضافته من علوم الدين واللغة العربية ثم أفضنا عليهم من المزايا ما لا نفيضه على غيرهم. وحتى عندما تقصر الامكانات عن توفير هذا التعليم للجميع فسوف ينتج توفيره لشريحة من الشرائح الصفوة التي يحتاجها المجتمع لتقوده نحو مزيد من التقدم. تبقى بعد كل هذا ملاحظتان، الاولى ان اية نهضة عربية ليست الا اللحاق اولا بحضارة العصر وان ذلك اللحاق لن يتحقق الا بعقول انتقادية تبدأ اولا باستيعاب منجزات العصر مادية ومعنوية، ومن ثم فان تعليم لغتي الحضارة القائمة: الفرنسية والانكليزية هو امر حيوي ولازم، ولا بد ان يكون ذلك التعليم بالكثافة التي تمكن المتعلم من متابعة حصيلة علوم الغرب. فحصيلة العلم في كل مجال كامنة في كتبهم وشبكات معلوماتهم، بل إن حصيلة ما هو مسجل بلغاتهم عن ماضينا وحاضرنا، بل وعن ديننا ومستقبلنا هي اعظم كماً وكيفاً عن ما لدينا عن انفسنا. هذه هي الملاحظة الاولى، اما الثانية فهي ان تكوين العقل الانتقادي في مراحل التعليم يتطلب قدراً وافرا من الحرية للطالب والمعلم، ليس في مراحل الدراسة والتدريس فقط، بل يجب ان يتواصل مناخ الحرية للعقل حتى يكون فاعلا في بقية مراحل الحياة بحيث يمارس العقل طلاقته بلا خوف من السلطة أو الناس فلا يتعرض للكبت الرسمي او التضليل الاعلامي ولا يلقى في طريقه بالموروثات والمسلمات. فالحرية لازمة للعقل الخلاق، سواء كان عقل اسكافي او عقل باحث في اسرار الكون والوجود. * كاتب. رئيس وزراء ليبي سابق