براغ، مدينة افلتت من قبضة الشر في الكثير من الانعطافات التاريخية فحمت نفسها من كل مكروه وتجنبت التدمير الذي لحق بقريناتها من المدن الاوروبية الاخرى ابان الحرب العالمية الثانية، وبذلك حافظت على تركة حضارية متألقة، ما زالت تزهو في عيون اهلها وزوارها، وهي تغفو على ايقاعات هدير الامواج المنطلقة من نهر الفالتافا الذي يفرع المدينة الى نصفين. هذه المدينة تستحق كل تسميات "الدلال" التي يطلقها التشيك عليها، فهي "مدينة الابراج والقبب الذهبية" و"مدينة المئة برج" و"مدينة المدن". ولكن من بين التسميات التي ربما تكون اكثر دقة في وصفها هي "المدينة المتحف" فهي حقاً تكاد تكون المدينة الوحيدة في العالم التي حولها التاريخ الى متحف كبير تزدحم فيه الآثار والمواقع الحضارية التي اضافت الى جمالها الطبيعي نكهة اخرى زادتها جمالاً. يمتد تاريخ براغ الى عصور قديمة، ولكن تاريخها المقرؤ يبدأ منذ وصول القبائل السلافية الى هذه المنطقة خلال القرن الخامس الميلادي. واختارها السلاف لانها تقع بين جبال مكتظة بالغابات التي يتخللها النهر المعروف ب"نهر الفالتافا" وكذلك بعض الجزر المائية المنتشرة في مجرى هذا النهر وتشكل هذه المناظر الساحرة للمدينة قطعة رائعة من الجمال الطبيعي، فهواؤها نقي ومياهها عذبة وحلوة وغاباتها كثيفة للغاية اما مواقعها الدفاعية فهي محصنة بالجبال التي تحمي المدينة الجديدة. وما ان حطت هذه القبائل الرحال حتى بدأ العمران يزحف في اماكن عدة فظهرت قلعة براغ فيما بعد، والتي اتخذها الامبراطور الروماني تشارلز الرابع مقراً له، ثم بنى "جسر تشارلز" عام 1168، وله قصة طريفة، فقد تهدم هذا الجسر وانقطع تواصل الناس بين الضفتين في زمن الملك تشارلز الرابع فهبّ المزارعون يجمعون البيض من كل الارياف التشيكية لبناء هذا الجسر بالجبس والبيض لكي يتماسك اكثر وهكذا اعادوه من جديد بجهودهم الخاصة ومنذ ذلك الوقت والى الآن يصف جسر تشارلز كأحد اجمل معالم براغ وهو تحفة من التحف الفنية اذ تمتد سلسلة من التماثيل للملوك والاباطرة وكذلك القسسة والرهبان على جانبي الجسر الذي يربط الساحة القديمة بالمكتبة الوطنية وعليه يتوزع الرسامون في كل جانب في حين يمنع سير السيارات عليه، بعدما خصص للزوار والمشاة فقط. وعلى مقربة من بوابة الجسر، وعند مسافة ليست بعيدة عن المكتبة الوطنية تقع جامعة تشارلز، وهي اول جامعة تأسست وسط اوروبا عام 1348. والى جانب الجامعة بناية قديمة تحتضن منذ عقود المهرجان الموسيقي المعروف ب"ربيع براغ" وكان عام 1968 منطلقاً لثورة الاصلاح التي طالب بها التشيكيون وانتهت بدخول القوات السوفياتية لقمع الانتفاضة السلمية. واذا ما توغلنا في الازقة التي تواجه بوابة الجسر باتجاه مركز المدينة، نكون وصلنا الى المدينة القديمة التي تتوسطها "ساحة يان هوس" وتمثاله الكبير، حيث احرق هو ورفاقه الذين ثاروا على سلطة الكنيسة علماً انه كان احد كبار الكهنة في هذه الكنيسة. كان ذلك عام 1402 حين تزعم هذا الراهب ثورة الفلاحين ضد الاقطاع الكنسي، وطالب بتوزيع الثروة على الفقراء وآخى بين الثوار، وطبقة مفهوم العدالة الاجتماعية في الانتفاع بالخيرات. والى جانب الساحة تقوم بناية "ساعة براغ الفلكية" وهذه الساعة بنيت في اوقاق العصر الذهبي، ويقال ان من بناها لقي حتفه بعدما اكمل آخر وتر فيها، فرماه مسؤول الشرطة، بأمر من الحاكم من اعلى درجة في سلّم الساعة، وبالمناسبة فان احرف الساعة اللاتينية تضم حرفاً عربياً واحداً هو حرف "العين" وربما يكون صانعها استفاد من خبرات العرب في الاندلس. وتشير السجلات التاريخية الى ان براغ كانت موضع قدم للرحالة العرب الذين كانوا يصلونها من اصقاع العالم العربي والاسلامي المختلفة، ومن بينهم الرحالة المقدسي يوسف ابن اسحق ابن يعقوب ابن ابراهيم المقدسي، الذي زار براغ مع قافلة محمّلة بالسلع العربية القديمة ووزعها كهدايا على وجوه المدينة. وفي المدينة القديمة مقهى "الافعى الذهبية" وهذا المقهى كان خلال العصر الوسيط عبارة عن اسطبل للخيول، واليه قدم الرحالة العربي المقدسي حيث ربط حيواناته هناك، واستقبل ببيت للضيافة، وكتب عن براغ واصفاً اياها بأجمل الاوصاف التي تعبّر عن اندهاشه لجمالها. وعلى ضفتي الفالتافا ينتشر الكثير من المعالم القديمة، من بينها بناية المسرح الوطني، الذي أسس عام 1868 وتعرضت الى حريق واسع جاء على اعظم اللوحات الفنية الموجودة فيه، ولكن تضامن الناس العاديين وتبرعاتهم اعادت بناء هذا المسرح الذي يعتبر احد التحف الحضارية الفريدة. وتزخر براغ ايضاً بالكنائس القديمة التي بُنيت في العصور السابقة، اما المتحف الوطني الواقع في مركز المدينة المسماة "فاستلافسكي ناميستي" فيعتبر من اغنى المتاحف التشيكية بموجوداته الفنية المختلفة، ويضم طوابق واجنحة عدة تمتد من عصور ما قبل التاريخ الى تاريخنا الحاضر. يقابل المسرح الوطني مقهى "سلانيا" وهذا المقهى كان عبارة عن صالة عملاقة للرقص ايام الاباطرة والملوك، ولكنها تحولت في العقود الماضية الى مقهى للمثقفين والكتّاب والمفكّرين والموسيقيين وكان الرئيس الحالي فاتسلاف هافل احد رواد هذا المقهى قبل انتصار الثورة المخملية ولما سقط النظام الشيوعي حاول وريث اصحاب المقهى الذي كان يعيش في اميركا ان يحولها الى اسواق حديثة ولكن الرأي العام رفض استجابة الحكومة لذلك لانها اثر حضاري ينبغي المحافظة عليه، وخرجت المظاهرات ضد قرار الحكومة وموافقتها على طلب الوريث، وتدخل رئيس الجمهورية هافل بعدما لامه الناس وذكّروه بانه كان احد رواد هذا المقهى وبذلك حسم الامر ليبقى مقهى "سلافيا" كما كان دائماً مقهى المثقفين التشيك والعرب والاجانب. وفي هذا المقهى كتب ناظم حكمت أجمل القصائد وفيها كتب يوسف تشابك رواياته، وفيه ايضاً كتب فاتسلاف هافل مسرحياته وآخرون غيرهم اما من العرب فقد قرأ فيه سميح القاسم ونظم فيه الجواهري اجمل قصائده. كثيرون كانوا يعجبون ببراغ منذ الازمان القديمة زارها موتسارت عام 1787 وألّف فيها عدداً من الاعمال السمفونية التي عزفها في مسارحها على مدى سنوات كثيرة بعد انتقاله من النمسا اليها. ومنها قدم كونسرتو بتهوفن عام 1813 اجمل المعزوفات الموسيقية. هذه المدينة كما وصفها موتسارت بانها عبارة عن كونسرفاتور اوروبا. وفي براغ متحف الكثير من عمالقة الادب، وممن بينهم التشيكي فرانز كافكا ويوسف شفيك صاحب رواية "الجندي الطيب شفيك" وانطونين دفورشاك الموسيقار الذي اضاف الى الموسيقى العالمية الشيء الكثير وهاجر من براغ الى اميركا ليكون عميداً لكونسرافاتور نيويورك. بين البيوت التي تحولت الى معالم يزورها السياح من كل انحاء العالم منزل بوشينا نيمسوفا الكاتبة التشيكية التي عاشت مطلع القرن التاسع عشر واشتهرت بروايتها الطويلة "الجدّة". وبراغ تعجّ بالاسواق الحديثة وفيها مختلف انواع البضائع، والحياة الاقتصادية سهلة قياساً الى الدول الاوروبية الغربية، والاسعار معقولة وفيها الكثير من المطاعم الغربية والشرقية وهناك مطاعم عربية انتشرت في السنوات الاخيرة. وتستقبل براغ سنوياً نحو 12 مليون سائح وهذا الرقم تزايد في سنوات متباينة، وهي ما زالت تعتبر من اولى المدن الاوروبية التي تقدم مزايا سياحية فريدة. هكذا تبدو هذه المدينة الجميلة، وهي تتكامل بطبيعة اهلها المحبين للضيوف والذين يتعاملون بود مع الغرباء.