الجفاف والمخدرات هم موضوع هذه الحلقة من سلسلة تحقيقات أفغانستان اذ يعتبر الجفاف من أهم المشكلات التي تواجه الحكومة الحالية، وتعتبر مكافحة المخدرات واحدة من المهام التي يشترط المجتمع الدولي، على أفغانستان الاضطلاع بها. ولكن مواجهة الجفاف كما التصدي لزراعة المخدرات دونهما عقبات كثيرة، هنا محاولة لعرضها. الجفاف هو فجيعة الأفغان الثانية بعد الحروب. فما ان تطل برأسك من نافذة الطائرة المسرعة باتجاه مطار باغرام حتى تبدو السلاسل الجبلية الجرداء بارتفاعها وانخفاضها: جبال صخرية، قممها حادة. يضيف الجفاف إليها قسوة، وينزع عنها اي ظل للحياة. إنها الطبيعة بعد موتها ويباسها، ولا يمكن تخيل اي اثر للحياة وأي طريق خطتها اقدام عابرين. يلازمك شعور قبل ان "تطأ قدمك ارض المطار باستحالة ألا تترك هذه الجبال أثراً في نفوس ابناء افغانستان. حياة مملوءة بالجبال وبعبورها، وإذا كان الأكراد قالوا ان الجبال في بلادهم هي صديقهم الوحيد، فكيف للأفغان ان يصادقوا هذه الجبال. لا شك في انها مصدر وعورة حياتهم وقسوتها. الجفاف أتلف كل شيء في افغانستان، فالطائرات الروسية المحطمة في مطار باغرام اشبه بآلات جافة، أكلها الصدأ قبل ان تصيبها القذائف. خمس سنوات من الجفاف احالت المطار ومحيطه الى مساحات شبه محروقة. ثمة اشجار كانت تعيش هنا ما زالت جذوعها وبقايا من اغصانها ماثلة. وعلى الطريق يمكنك رصد ملامح بعيدة لبساتين عنب تهاوت اشجارها واسودت اغصانها. هياكل البساتين هذه تفصل الطريق عن هياكل مئات القرى المدمرة التي اضاف الجفاف الى ركامها مزيداً من التآكل واليباس. إنها القرى التي دمرها قلب الدين حكمتيار اثناء زحفه على كابول في تسعينات القرن الفائت. الجدب والجفاف واليباس هي الانطباعات الأولى التي يمكن ان تولدها نصف الساعة الأولى في افغانستان، وهي لشدة تفشيها وطغيانها قد تسبق الدمار والخراب في تقديم نفسها الى الزائر العتيد. بعض الأشجار، خصوصاً داخل كابول، ما زال فيها رمق من حياة، لكن لوناً بنياً يتخلل خضرتها فيجعلها مصدراً لكآبة مشهدية. هذا ما تشعر به اثناء تجوالك في حديقة الحيوان في كابول. الحديقة التي مات قبل اسابيع اسد كان يعيش فيها، وتؤوي اقفاصها اليوم قرداً واحداً. وكذلك هو وضع الأشجار في شارع وزير اكبر خان، الشارع الأقل ازدحاماً وتضرراً، لكن الجدب اصاب اشجاره بذلك اللون البني. النهر الوحيد الذي يخترق كابول من شرقها الى غربها، يبدو اليوم اشبه بمستنقعات غير متصلة ركد ماؤها وتلوث، وتهاوت الكثير من الجسور الصغيرة التي ترتفع فوق مجراه. وعلى رغم شدة تلوث المياه فإن نساء من كابول يقصدن هذه المستنقعات مصطحبات اطفالهن وقدوراً معدنية مملوءة بالثياب والمياه، كما تصطحب النساء الى ما كان يسمى نهراً، قدراً معدنياً مخصصاً لتسخين المياه يخرج دخان موقده كثيفاً على ضفاف المستنقعات. النهر كان يتغذى من كميات الثلوج التي تغطي الجبال المحيطة بكابول والتي تذوب يومياً وتنحدر باتجاه المدينة. اما هذه الأيام فالثلوج قليلة، والمتبقي منها على الجبال لا تصل الشمس إليه لكي تذيبه. في افغانستان ثروة مائية لكن عجز الدولة عن ادارة مياهها معضلة تاريخية. الحروب خربت مجاري الأنهر، وخمس سنوات من الجفاف ادت الى ان تغور المياه الجوفية الى خزانات اعمق، فصار حفر بئر ارتوازي يتطلب ثروة للوصول الى الطبقات التي تحوي المياه، وفي السابق كان 85 في المئة من الاقتصاد الأفغاني يعتمد على قطاعات الزراعة والرعي. اما الآن فهذه القطاعات شبه منتهية. يقول وزير الري والينابيع حاجي حسين منغل ل"الحياة": "في هذا الوقت قبل عشر سنوات كانت كابول خضراء، ولم يكن في امكان السيارات التجول في شوارع كابول من دون التزود بالسلاسل الحديد، كما لم يكن في امكانك الجلوس في هذه الغرفة من دون تدفئة. مشكلة المياه من اكبر المشكلات التي تواجهها الحكومة الموقتة والجفاف موجة مستمرة تضرب المنطقة لا افغانستان وحدها". ويبدو ان افغانستان لعبت دوراً معاكساً لما لعبته الدول المجاورة لها، إذ في وقت كانت تلك الدول ترسل الى هذا البلد سلاحاً ومقاتلين وحروباً كانت هي ترسل مياهها الى هذه الدول. جميع انهار افغانستان تنبع منها وتعبر مجاريها من دون اي إفادة منها، لتصب في الدول المجاورة. المشاريع التي اقيمت على هذه المجاري، سواء مشاريع الري او توليد الكهرباء، إما داهمتها الحروب قبل ان تنجز او دمرت بفعل الحروب الكثيرة. وبالتالي فإن شيئاً لا يعرقل جريان المياه الى الدول المجاورة، وليس بين افغانستان والدول التي تجاورها اي اتفاقات ترعى العلاقات المائية، باستثناء اتفاق غير معمول به مع ايران حول مياه نهر هلمند الذي ينبع من افغانستان ويصب في ايران، ومنذ اكثر من 20 سنة لا تستفيد افغانستان نهائياً من مياهه. ويشير وزير الري الأفغاني الى أن مشاريع ومنشآت مائية كثيرة كان بوشر ببنائها بدعم من دول غربية وإسلامية توقفت بفعل نشوب الحرب، خصوصاً من قبل الدول الأوروبية والصين ومن المملكة العربية السعودية التي كانت قبل نحو 20 سنة قد باشرت ببناء السلمى لتوليد الطاقة الكهربائية، والمشروع اكتمل ولم يبق إلا بعض الأعمال الصغيرة منه. ويتابع: "لدينا مشاريع كبيرة لبناء السدود لتذخير الماء، والأمر يعتمد على الإمكانات التي يمكن ان تتاح". والجفاف الى جانب الصقيع، معادلة تعني التصحر، خصوصاً في ظل افتقار الأفغان الى وسيلة تدفئة غير حطام الأشجار، مساحات شاسعة من الغابات اقتلعت خلال السنوات الخمس الفائتة. في اسواق افغانستان اليوم مئات المحال التجارية خصصت لبيع الحطب والأخشاب، وأن تصادف شاحنة تحمل جذوع اشجار تعبر في شوارع كابول امر شبه عادي. إذاً قطع الأشجار وسيلة عيش الكثير من الأفغان، واستعمال الحطب للتدفئة امر سائر في المدينة ايضاً. اما القطع المنهجي للأشجار فقد حصل في ايام حكم طالبان، إذ ضاقت في ذلك الوقت سبل العيش فلجأ أفغان كثر وبمساعدة طالبان الى الاتجار بالخشب وتصديره الى باكستان، خصوصاً الى معامل المفروشات فيها. ويقول وكيل وزارة الزراعة محمد شريف: "85 في المئة من الشعب الأفغاني كان يعمل في الزراعة قبل ان تبدأ الحروب، كانت افغانستان مكتفية من القمح والمواد الغذائية، وكنا نصدر الى الخارج جلود الحيوانات والمشمش والكثير من الفواكه المجففة، وعلى هذه الصادرات كان يعتمد اقتصادنا". ويضيف: "البنى التحتية للزراعة الآن مدمرة، وكذلك نظام الرعي الذي يحتاج الى المياه والمراعي. في السابق كان هناك حماة للأشجار وكان هناك غابات مثمرة مثل سمانغام وباغلان وبادريس، كانت هذه الغابات تحوي اشجاراً مثمرة، وأشجاراً للخشب الجيد. الحرب كانت كارثة للقطاع الزراعي، وكما تسببت بهجرة ملايين الأفغان، تسبب انهيار الزراعة بهجرة موازية لا تقل كثافة". يشير وكيل الوزارة الى انه في حكم طالبان زرعت كل المساحات الصالحة للزراعة بالخشخاش والأفيون، إذ شكلت هذه الزراعة احد اهم موارد حركة طالبان المالية، فازدهر الإتجار بهذه المواد عبر الحدود الإيرانية والباكستانية وعبر حدود افغانستان مع دول آسيا الوسطى، ويقول: "نحن الآن منخرطون في المجتمع الدولي ولا نستطيع فعل ذلك، وبما ان المجتمع الدولي يريد مساعدتنا، فعليه تمويل مشاريع بديلة. ويعرض شريف خطة وزارته لإعادة بناء القطاع الزراعي في افغانستان وهي مؤلفة من ست نقاط: 1- احياء الإدارة الزراعية في جميع المناطق الأفغانية. 2- فتح البنك الزراعي وتشغيل مصانع المواد الكيماوية وتأمين البذور الصالحة للزراعة. 3- منع احراق الغابات أو قطعها، وزرع المساحات التي تم قطعها. 4- منع زراعة المخدرات. 5- حملة على الحشرات المضرة بالزراعة. 6- الإفادة من الخطط الزراعية المتقدمة. ويقدر شريف كلفة الخطة ب6.5 بليون دولار، علماً ان وزير الزراعة حمل معه هذا البرنامج الى مؤتمر طوكيو لإعادة اعمار افغانستان. ولا يستطيع شريف تقدير قيمة موسم المخدرات السنوي، لكنه يؤكد ان قيمة المحصول كان يغطي نفقات الحكومة الطالبانية التي اقتصرت على الجوانب العسكرية والأمنية اصلاً. ويحسم محمد شريف قضية زراعة المخدرات قائلاً ان 90 في المئة من هذه الزراعة تم اتلافه في ظل الحكومة الموقتة. وهذا الحسم يوحي بمدى الارتجال الذي يتم في ظله اطلاق المواقف في اوساط الموظفين الجدد. فمناطق زراعة المخدرات هي مناطق القبائل التي لم تحكم السلطة الجديدة السيطرة عليها، وهي ما زالت غير آمنة اصلاً. ثم ان تجار المخدرات يصولون في قلب كابول ويجولون بشكل شبه علني، وهم مستعدون للتحدث الى الصحافة ضمن صفقات مالية، وكل هذا يتم برعاية القادة الميدانيين الذين هم بحاجة اصلاً الى توازنات العشائر والقبلية التي تحصل هذه الزراعات في ظلها. ولطالما تسمع وأنت في كابول تلك الدروس الأفغانية عن الفوارق بين انواع المخدرات. فالترياق الحشيش بحسب الأفغان امر غير بالغ الخطورة ولا يشكل الاتجار به وتعاطيه احياناً اخلالاً بالقواعد الاجتماعية. اما الأفيون، فهو مادة خطرة يحذرك الأفغان من تعاطيها من دون ان يعني تحذيرهم هذا عدم زرعهم اياها او تبادلها تجارياً. ويقول احد تجار المخدرات في كابول "إنها مهنة كباقي المهن المحترمة في افغانستان، يلجأ إليها كل من لا يملك كفاية او خبرة في مجالات اخرى"، ويضيف: "تصلح معظم الأراضي الأفغانية لزراعة الخشخاش وتختلف جودة الإنتاج من منطقة الى اخرى، فالمناطق ذات المناخ البارد يفوق انتاجها المناطق الحارة جودة". ويتابع: "تنتشر هذه الزراعة شرقاً في ولاية ننجرهار ومركزها جلال آباد. اما في الجنوب فترتيب الولايات بحسب كثافة الإنتاج هو على الشكل الآتي: "ولاية هلمند ثم ولاية قندهار ثم ولاية فرا ثم ولاية نيروز. اما في الشمال فيزرع الخشخاش في ولاية بدخسان، ويعد خشخاش هذه الولاية اعلى قيمة نظراً لبرودة المناخ وبالتالي جودة الإنتاج". ويضيف تاجر المخدرات الأفغاني: "المناطق الحدودية في افغانستان تعد مراكز مهمة للإتجار بالمخدرات، ففي الشرق ولاية ننجرهار على الحدود الباكستانية، تصدر المخدرات الى باكستان ومنها الى دول العالم. وفي جنوب غربي افغانستان، اي في ولايتي قندهار وهيرات تقع انشط الأسواق، اذ يتم التصدير من هناك الى ايران وتركيا. ومن ولاية قندوز في الشمال تصدر المخدرات الى آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية". لا احصاءات دقيقة تبين المساحات المزروعة بالمخدرات في افغانستان، وتتفاوت قيمة الكيلوغرام من الحشيشة بحسب نوعية المحصول، ولكن السعر المتوسط لكيلو الحشيشة الأفغانية يبلغ نحو مئة دولار اميركي وألف دولار للأفيون. غداً: ظل طالبان يلاحق المرأة الأفغانية.