يسري مكر التاريخ على الشعب الفلسطيني بغرابة وحشية: - في كل مرة يخرج هذا الشعب من مأساة فيدخل في اخرى، يفلت من مذبحة فيواجه غيرها، ينتهي من مأزق ليبدأ آخر. - في كل مرة يشعلون ثورة يتم اخمادها فيشعلون غيرها، يفجرون انتفاضة اولى وثانية. يتبدى لهم ان اوان القطاف قد حان، الانتصار قاب قوسين، الحرية في متناول اليد، وانبلاج النور قد اقترب، ولكن يتبخر كل شيء ويصبح الوضع اكثر سوءاً، والاحتلال اوسع، والظلام اشد حلكة. - وفي كل مرة ينال هذا الشعب من اشقائه العرب الاعجاب الشديد ببطولاته وتضحياته وصموده، فتنفجر المسيرات والخطابات، وتكثر القصائد كالفطر بعد المطر، معظمها يمدح الحجر وينسى البشر. غير ان هذا يكون في البداية، وفي الاشهر الاولى حين تسارع "النخوة العربية" الى تبني "الكوكبة الاولى" من شهداء وجرحى الانتفاضة. بعدها تعود الحكومات والهيئات والجماهير العربية وحناجرها الى وضعها السابق، وتصبح الانتفاضة "التي طالت كثيراً!" مجرد خبر، والشعب الفلسطيني وحيداً مع دمه وقهره. فلا اشقاء، ولا مسيرات، ولا من يحزنون. ويصل الامر الى ان ينفرد "الأجانب" باظهار تضامنهم وتعاطفهم مع معاناة الفلسطينيين، في أميركا وأوروبا ومؤتمر ديربان في جنوب افريقيا وعلى ارض فلسطين بالارتماء امام الدبابات الاسرائىلية، وكأنهم يقولون للفلسطينيين: رُبَّ أخوة لكم لم تلدهم أُمتكم! يبدو ان على العرب عموماً، والفلسطينيين خصوصاً اعادة قراءة كل شيء ومراجعة كل شيء. المحزن اننا غالباً ما "ننفعل"، فنسارع الى القراءة والمراجعة بعد ان تحدث انهيارات لدى الآخرين. او ان يقوم هؤلاء الآخرون باشهار اسئلتهم ومطالبهم في وجوهنا، بدل ان نقوم نحن بالفعل، ونسائل عقولنا وأوضاعنا استناداً الى احتياجاتنا الذاتية ومتطلبات بنيتنا الداخلية. واذا كانت المبادرة الى التغيير معدومة او نادرة لدى الحكام، يفترض ان تأتي شجاعة المبادرة من الافراد والنخب والجماهير الشعبية انطلاقاً من الوعي والايمان برسالة والاحساس بالظلم ومس الكرامة. فنحن لا ندري ان كانت هنالك امة بين امم الارض قاطبة تتفوق على الامة العربية في المهانة والاستكانة. يبقى، بعد، ان نعرف لماذا نحن مذَلون مهانون، وان نحاسب من جعلنا كذلك محاسبة تاريخية. من جعل الشعوب العربية "مؤدبة جداً"؟ من شطب هذه الشعوب بالمصادرة والترويع والالهاء؟ الزمن الرديء الذي نعيشه ونشتمه لم يأت من فراغ. ثمة رديئون اوصلونا الى هذه الرداءة وهذه العطالة. انه سياق طويل من الاستقالة والاستنكاف والتطنيش ادى الى هذا البرود. برود جعل من نداء الفلسطينيين الى اشقائهم العرب مناشدة اخلاقية! والفلسطينيون هم أكثر العرب حاجة الى اعادة قراءة ومراجعة كل شيء، ان تكون لهم لماذا؟ فلسطينية، وفعل ما يترتب على ذلك، على رغم انهم يعيشون في حال طوارئ، ومضطرون الى القراءة والمراجعة والرصاص والقذائف مصوبة نحوهم. وفي الواقع ثمة عوامل يمكن ان تؤدي الى نكبة جديدة، وثمة عوامل يمكن ان تفتح افقاً جديداً. والصراع يدور على ايها يتحول الى واقع. نكبة جديدة تعني إما "ترانسفير" ترحيل جديد يخلي فلسطين ممن تبقى من الفلسطينيين، او إبادة تامة لهم. ولكن الفلسطينيين يحملون ذاكرة تمنعهم من الرحيل الى منافٍ جديدة - قديمة، ويفضلون الموت في الوطن على ذلّ المنافي واللجوء، فضلاً عن ان دولاً عربية شقيقة من دول الطوق ستساعد الفلسطينيين في ذلك بعدم استقبالهم. والفلسطينيون لا يريدون تبديد ما حققوه من انجازات، ويبغون ايصال نضالاتهم وتضحياتهم الى مداها بالانعتاق من عبودية الاحتلال وإقامة دولتهم المستقلة. لقد قدموا قدراً كبيراً من القرابين ولا يريدون التنصل من الشهداء او خيانة الألم. الضفة الغربية - عدنان جابر