ما يجري في الضفة الغربية وقطاع غزة ومناطق السلطة الوطنية الفلسطينية بالذات يجب أن لا يصرف الأنظار عن الخطط المبيتة للشعب الفلسطيني ككل في ديار الشتات وفي مناطق السلطة وفي فلسطينالمحتلة عام 1948، والنداء الذي وجهه الأسبوع الماضي السيد نايف حواتمة وعضو الكنيست أحمد الطيبي بعدم اقحام عرب الداخل في الأحداث جاء في وقته وعبر عن حنكة وفهم للأخطار. ف"جهنم" شارون ومخطط اليمين المتطرف لتقزيم الدولة الفلسطينية المقترحة بعد نسف اتفاقات أوسلو، وكل الاتفاقات الملحقة بها، وصولاً إلى تقرير ميتشل وخطة تينيت ليس سوى بداية لخطة جهنمية أشمل لإعادة هيكلة "دولة إسرائيل" على أسس "التطهير العرقي" والتمييز العنصري، أي بمعنى آخر نفي الفلسطينيين من ديارهم، وإلغاء حق العودة نهائياً وتقسيم المناطق الفلسطينية إلى جزر متناثرة لا رابط بينها سوى خيوط القهر والحصار الإسرائيلي وإقامة خطوط فصل حقيقية ومناطق عازلة ثم الالتفات إلى ما يسمى بداخل "الخط الأخضر" لتفريغه من العرب بالترهيب والترغيب وفق سياسة "الترانسفير" التي لم يعد يخفيها العقل الشيطاني الصهيوني، بل صار يجاهر بها، ويتغنى بمحاسنها ويحذر من مغبة عدم تنفيذها، وبسرعة قصوى. فأصحاب القرار في إسرائيل بمعظم اتجاهاتهم وميولهم الحزبية والعرقية وأصولهم وثقافاتهم توصلوا إلى قناعة ذاتية بأن اتفاقات السلام مع العرب لم تعد مجدية، وأن منطق القوة يجب أن يعود مجدداً كسياسة للتعامل معهم واستراتيجية للمستقبل، خصوصاً أن الظروف باتت مهيأة الآن لإسرائيل لتضرب ضربتها، مستغلة التغيرات الجذرية التي طرأت على العالم، وعلى الولاياتالمتحدة بالذات، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر. فتحت ستار محاربة الإرهاب يمكن تبرير كل شيء وتحويل الحق إلى باطل، والمتهم إلى بريء والضحية إلى قاتل، ومغتصب الأرض إلى صاحب حق. ولهذا لا بد من التنبه إلى كل ما يجري ويقال داخل كواليس السياسة الإسرائيلية، وكل ما ينشر من مقالات ودراسات وأبحاث وتصريحات في الصحف وأجهزة الإعلام وتحليل كل كلمة لمعرفة أبعادها ومتابعة بعض الممارسات التي تدخل في إطار عمليات جس النبض أو اطلاق بالونات اختبار لقياس ردات الفعل وتوقعات حجمها. وهذا الاتجاه السائد في إسرائيل الآن يفسر أسباب صعود اليمين المتطرف بقيادة ارييل شارون وأبعاد الشعبية التي يحصل عليها في استطلاعات الرأي على رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة والمشاكل والمعاناة الحياتية اليومية التي يشكو منها الإسرائيلي. إنها ظاهرة خطيرة لا بد من متابعة تطوراتها، خصوصاً أن كل المؤشرات تؤكد أن صعود المتطرفين متوقع في المرحلة المقبلة حتى ولو سقط شارون وجاء بنيامين نتانياهو أو من هو أشد منهما تطرفاً، فيما حزب العمل يعاني من أزمة قيادة، وأزمة ثقة، وأزمة قرار، واليسار بشكل عام في حال ضياع وعدم توازن وغياب القدرة على الإمساك بتلابيب الرأي العام الإسرائيلي أو على الأقل التأثير فيه وتحذيره من الهاوية التي يتجه إليها والتهلكة التي يلقي بنفسه فيها من دون وعي، لا يحركه سوى غرائز الحقد والتعصب وصرخات الانتقام والقتل والتدمير وصيحات الكراهية والعنصرية ضد كل ما هو عربي. فإذا استمر هذا الصعود المتطرف داخل المؤسسات الإسرائيلية ولا سيما العسكرية منها، وفي صفوف الرأي العام، فإن هذا يبشر بوقوع المزيد من الكوارث والنكبات على العرب والإسرائيليين على حد سواء. فغياب العقل والحكمة يعني القضاء على رياح السلام واستبدالها برياح السموم، وهذا يعني دفن مسيرة السلام وإقالة مرجعية مدريد ومبادئ الشرعية الدولية ولا سيما مبدأ الأرض مقابل السلام، وقرارات مجلس الأمن وصولاً إلى اتفاقات أوسلو. إلى جانب المخاطر التي تحيق بقضايا جوهرية وأساسية مثل القدس واللاجئين والمستعمرات الاستيطانية والدولة الفلسطينية المستقلة، فإن هناك مخاطر موازية لها قد تبدو بعيدة، ولكن كل المؤشرات تؤكد أنها "تطبخ" على نار باردة وتوضع على طاولة البحث العلني بعد أن كانت تدرس في الدوائر المغلقة وتعتبر في مصاف الملفات السرية. من بين هذه المخاطر المحسوبة الخطر القادم على فلسطينيي 1948 الذين يطلق عليهم تارة اسم "العرب الإسرائيليين" وتارة أخرى اسم "عرب الداخل"، وهم من أبناء الشعب الفلسطيني الأبي الذي صمد في وجه الاحتلال وتشبث بأرضه ووطنه ورفض التهجير والترحيل وصبر على الظلم والاضطهاد والضغوط الرهيبة، واستطاع خلال أكثر من نصف قرن من النضال الايجابي والموضوعي والعقلاني أن يقيم لنفسه كياناً ووجوداً يحافظ فيه على هويته الوطنية ويتعامل مع "الواقع" الإسرائيلي الظالم بحنكة ومرونة واقتدار. هؤلاء الاخوة يتعرضون اليوم لتهديدات حقيقية ولضغوط جديدة تبدأ من الحصار الاقتصادي والتمييز العنصري وسياسة الافقار وتتواصل على امتداد محاولات محو الهوية الوطنية والايقاع بين المسلمين والمسيحيين وعزل القيادات الوطنية وضرب رموزها، كما جرى للنائب عزمي بشارة وما يتعرض له الآن عدد من النواب الأعضاء في الكنيست. وبكل أسف، فإن هؤلاء الاخوة لم ينالوا حقهم من الدعم من اشقائهم العرب، فقد عوملوا في السابق كمواطنين إسرائيليين وحاول البعض المزايدة على وطنيتهم بتخوينهم ثم جرت محاولات لتحريضهم على المشاركة في الانتفاضة، وهو أمر لو لم يتم تداركه لجروا إلى نكبة جديدة بعد التحركات الأولية التي أسفرت عن استشهاد 13 شاباً فلسطينياً وإصابة العشرات بجروح. وهناك الآن من يحرض عرب الداخل على مقاطعة الانتخابات والتخلي عن اللعبة السياسية وغير ذلك من الممارسات، وهناك من يتبرع باعطائهم الدروس في كيفية التعامل مع واقع هم أصحاب خبرة فيه، وهم أدرى بشعاب وطنهم وتشعبات المكر الصهيوني وحقيقة المخططات المعدة سلفاً للقضاء على الوجود الفلسطيني. ويشكل الفلسطينيون داخل الأراضي المحتلة عام 1948 ما نسبته 12 في المئة من مجموع عدد السكان، ويمكنهم ايصال 12 نائباً إلى الكنيست وهم يعيشون في ظل أوضاع صعبة ومشاكل حياتية خانقة، ومن يتابع ما يتسرب من معلومات ودراسات داخل إسرائيل يدرك حقيقة المخاطر المقبلة. ففي مقال للكاتب أوري نير هآرتس نجد فيه وصفاً حياً للواقع، معتبراً أن فلسطينيي عام 1948 هم بمثابة برميل بارود قابل للانفجار في أية لحظة، فهم يعيشون أجواء أزمة عميقة جداً: أزمة اقتصادية صعبة، بطالة واحساس بالاغتراب، خوف واقعي من الكارثة المقبلة ومن موجة هدم بيوت في القرى العربية وخوف من مواجهة شاملة مع الدولة. إنه جمهور يعاني من صدمة وتشوش إلى درجة اليأس وسط تحذيرات من إمكان اندلاع عنف أشد من السابق. وفي تقرير نشر أخيراً نقرأ أرقاماً مذهلة عن نسبة الفقر بين العرب، ففيما يرتفع عدد العائلات العربية التي تعاني من الفقر من بين 305 آلاف عائلة تعيش تحت خط الفقر، تنخفض نسبة العائلات اليهودية الفقيرة من 14 إلى 13 في المئة، فيما وصلت نسبة العائلات العربية إلى 43 في المئة من 6.40 في المئة. في ظل هذه الأوضاع تسربت معلومات مفصلة عن دراسات أعدت من قبل مجموعة من الباحثين بمبادرة من ديئير هيرشفيلد وإسرائيل هرئيل وبتمويل من صندوق فريدريش ايبرت الألماني تتضمن سيناريوات المستقبل امنون دنكز "معاريف" وصحف أخرى: السيناريو الأول يتوقع أن تشهد إسرائيل تحولاً ديموغرافياً اعتباراً من العام 2025 حيث سيكون داخل الخط الأخضر ما بين 41 و45 في المئة على الأقل من غير اليهود معظمهم من فلسطينيي 1948، وهذا يعني الاختفاء التدريجي للدولة اليهودية. أما السيناريو الثاني فيتحدث عن تقسيم إسرائيل إلى اتحاد فيديرالي لجماعات عرقية ودينية مختلفة يتمتع فيه العرب بحكم ذاتي. أما السيناريو الثالث المرعب فيتمثل في استمرار صعود اليمين المتطرف ووصول الأشد تطرفاً إلى الحكم ليسحب الحقوق من العرب ويتقمصهم وينفذ مخططات الترحيل الترانسفير. وهناك سيناريوهات أخرى لا مجال لعرضها هنا، ولكن الكاتب دنكز يدعو الإسرائيليين للاعتراف بوجود مشكلة "هي بمثابة قنبلة ديموغرافية موقوتة تمثل التهديد الاستراتيجي الحقيقي للحلم الصهيوني". ويرد بعض المحللين على هذا التهديد بالدعوة لتنفيذ سياسة الترحيل ويكشف مئير شتفليتس يديعوت أحرونوت عن أن القوى المؤيدة لخيار الترانسفير على أشكاله تتعزز يوماً بعد يوم، وان الزمن يعمل لصالحها، ف"مسألة نقل السكان الفلسطينيين غدت جزءاً مشروعاً مفعماً بالتغطية الإعلامية الجاذبة للجمهور، كما أنها ستصبح موضوعاً مركزياً في المعركة الانتخابية المقبلة". وبعدما يعدد الكاتب القوى التي تؤيد الترحيل، وهي كثيرة، يشير إلى المؤتمر الذي عقد في هرتزليا أخيراً بحضور "نخب المال والسياسة والأكاديمية لبحث مستقبل الدولة. وكان أحد المواضيع الرئيسية "تحليل سعر التبادل لنقل السكان". هذه الوثيقة التي نشرت بعض تفاصيلها في الصحف يمكن تلخيصها بالنقاط التالية حسب ما نشر في كراس تحت عنوان "توازن المناعة والأمن الوطني - اتجاهات للسياسة": إلغاء مخصصات التأمين للعائلات كثيرة الأولاد لمنع التكاثر الفلسطيني. إعادة توزيع السكان من أجل منع نشوء أغلبية عربية في أية منطقة لا سيما في الجليل والنقب، وتبادل تجمعات سكانية بين إسرائيل والدولة الفلسطينية المرتقبة. منح الفلسطينيين إمكان الاختيار بين الحصول على المواطنة الكاملة في دولة إسرائيل أو المواطنة الكاملة في الدولة الفلسطينية. السماح للإسرائيليين واليهود في الخارج بالمشاركة في الانتخابات من أجل تهميش الصوت العربي. وهناك اجراءات أخرى مماثلة تقدمها الوثيقة للتضييق على الفلسطينيين وسلبهم حقوقهم وصولاً إلى خطة الترحيل الترانسفير بالقول: "ستكون هناك حاجة لايجاد مخرج في مكان غير إسرائيل ربما في شرق الأردن لتوطين السكان إذا لم يكبحوا من وتيرة تكاثرهم". وهذا ما تحدث عنه عدد من الكتّْاب والمحللين الذين اختلفوا على الاسلوب والوسيلة لا على الغاية والمبدأ والهدف. فهل سيتم هذا الترحيل بالقوة والإكراه أم بالاتفاق مع الدولة الفلسطينية أم أنه سيتم بسياسة الترغيب والترهيب و"العصا والجزرة" أم بعد مواجهات عسكرية وحرب شاملة يتم فيها فرض الحلول والمخططات الجهنمية؟ هذه الأسئلة سيجيب عليها الزمن... والتوقيت المناسب لإسرائيل. ولكن ماذا سيفعل العرب لصد هذه الكارثة أو للعمل على منع وقوعها وتلافي مضاعفاتها الخطيرة وانعكاساتها على المنطقة ككل، وعلى جميع الدول العربية بدون استثناء، وقد يعتقد البعض أن الخطر بعيد، ولكن اعتقادهم خاطئ، لأن ما نشهده حالياً من تعنت إسرائيلي وعهر في التعاطي مع مجمل الأوضاع ينذر بعواقب وخيمة. وها نحن ندق ناقوس الخطر من جديد لعل العرب يتنبهون له ويستعدون لمواجهته قبل فوات الأوان. أما بالنسبة لإسرائيل فيجب أن تعلم أنها قد تنجح في تنفيذ المزيد من مخططاتها العدوانية، وقد تظن أنها قادرة على ترحيل الفلسطينيين وتمرير جريمتها بلا رد ولا عقاب... ولكن مثل هذه الحماقة ستشعل برميل البارود في المنطقة ككل وترسم من خلال انفجاراته الكبرى ملامح صورة نهايتها الأكيدة مهما طغت وتجبرت، وهذا ما تنبه إليه بعض الإسرائيليين أخيراً في مظاهراتهم ورفضهم الخدمة في المناطق الفلسطينية. * كاتب وصحافي عربي.