يوجد حنين لدى كل من الحكومة العراقية والسلطة الفلسطينية للعودة إلى ما سبق ورفضتاه. قد لا يكون فات الأوان كلياً على احياء ما ضٍ مزقته التطورات، لكن طريق العودة إلى وراء وعرة. فالعالم ليس بذلك القدر من التعاطف مع تفويت الفرص. ومزاج اليوم ليس كثير التقبل للمساومات. لذلك، أمام الديبلوماسية العراقية والديبلوماسية الفلسطينية تحديات من نوع جديد تتطلب من كل منهما غير الرهانات التقليدية. قد يكون الرئيس جورج بوش، بإعادته وضع العراقوإيران معاً في خانة "المزدوج" مجدداً، أفاد العراق. فإيران حُيدت في الفترة الأخيرة من عهد إدارة بيل كلينتون من معادلة "الاحتواء المزدوج" لكل من العراقوإيران، وبقي العراق وحده هدفاً للاحتواء. بوش استبدل معادلة "الاحتواء" بقرار "الاستهداف". وجه انذاراً إلى الدول الثلاث له علاقة مباشرة بأسلحة الدمار الشامل، كما تضمن ايصال رسالة الاعتراض على سياسات، وبالذات إلى إيران. العنصر الآخر في الرسالة الأميركية إلى طهران له علاقة بالبعد الاقليمي، وبالذات سفينة السلاح "كارين اي" التي تؤكد الإدارة الأميركية أنها حُملت من إيران إلى السلطة الفلسطينية، وتنفي إيران تورطها فيها. فواشنطن اعتبرت الأمر في غاية الأهمية لما ينطوي عليه من تحالفات اقليمية جديدة، فأخذت على عاتقها قطع الطريق عليه. ولربما عنصر آخر له علاقة بما تنوي واشنطن القيام به بشأن العراق، ليكون استباقاً لأي افتراض من إيران بأن ضرب العراق يفتح أمامها باب النفوذ في العراق. فالدول الخليجية العربية تخشى موازين قوى جديدة في المنطقة إذا ما ضُرب العراق، وبعضها يتذكر أن العراق استخدم كمنطقة عازلة لصد تصدير الثورة الإيرانية والهيمنة الإيرانية. وواشنطن تريد تحييد هذه المخاوف كما أية طموحات إيرانية. وعلى رغم أن وضع بوش لإيرانوالعراق معاً خدم بغداد وأفادها، إلا أن العراق يبقى غير إيران في السياسات الأميركية. وهذه الإدارة عازمة على الحسم عسكرياً، وإذا قرر جورج بوش توجيه ضربة للعراق، لن تكون الضربة على نسق ما قامت به الولاياتالمتحدة في عهد بيل كلينتون، أي ما تعتبره أوساط أميركية ضربات "تهذيبية" مبعثرة. ستكون عمليات عسكرية مركزة ومستمرة إلى حين تدمير البنية التحتية للنظام العراقي. وهذا ما أفهمته الإدارة الأميركية لعدد من زوارها من المنطقة العربية وخارجها. وما يقوله أحد كبار هؤلاء الزوار، ان جورج بوش شخصياً يتمسك بالقرار نحو العراق، وأن القرار لم يتخذ بعد، إذ أن كل الخيارات لا تزال مفتوحة، وان بوش ينظر إلى موضوع العراق من زاوية ما بعد 11 أيلول سبتمبر، وأن الرئيس الأميركي في البيت الأبيض اليوم رجل لا يُستهان بقوته وحزمه، وان الفترة من الآن وحتى نهاية أيار مايو قد تكون هادئة نسبياً، وبعدها القرار. هذا الموعد هو موعد انتهاء المرحلة الحالية من برنامج "النفط للغذاء"، وموعد توقيع روسيا على "قائمة السلع"، كما تعهدت موسكو في القرار الأخير لمجلس الأمن. وهذه القائمة عبارة عن تخفيف العقوبات المدنية المفروضة على العراق مع تشديد القيود على الواردات من السلع القابلة لاستخدام مزدوج، مدني وعسكري. وأهميتها الأولى هي في ابقاء العقوبات كي لا تصل العائدات النفطية إلى أيدي النظام العراقي. أي أن هذه القائمة هي وسيلة قطع الطريق على رفع العقوبات، وقطع الطريق على استفادة بغداد من خرق العقوبات، مع الإصرار على عودة المفتشين. جورج بوش طالب العراق بالسماح بعودة المفتشين الدوليين للقيام بالتحقق من عدم امتلاك العراق أسلحة أو برامج أسلحة الدمار الشامل. روسيا وافقت على هذا الطلب، لكنها سعت وراء إلزام الولاياتالمتحدة بالعمل مع مجلس الأمن على ازالة الغموض عن القرار 1284 الذي وضع شروط وظروف تعليق ثم رفع العقوبات عن العراق على علاقة مباشرة مع عودة المفتشين. لكن بغداد التي تبنت موقف رفض التعامل مع القرار 1284 منذ تبنيه، تحفظت على الطروحات الروسية، مما أدى إلى صفحة متوترة في العلاقة الروسية - العراقية على رغم الفوائد المالية لموسكو نتيجة هذه العلاقة. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين طفح كيله من الاسلوب العراقي الذي وضع موسكو في خانة صعبة بين واشنطنوبغداد. إذ أراد أن يحصل على موافقة بغداد على عودة المفتشين بما يؤدي إلى تعليق العقوبات ثم رفعها، لكن بغداد تمسكت بشروط وبتوقيت وبمهام للمفتشين جعلت السعي الروسي شبه مستحيل. في الوقت ذاته، بادرت الحكومة العراقية، عبر الامين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى، الى استدراك اخطاء الامس ومحاولة الموافقة على ما سبق أن رفضته أو اجهضته على الصعيد العربي، فهي تريد احياء "مشروع عمان" الذي صيغ اثناء القمة العربية في العاصمة الاردنية قبل سنة ولاقى حتفه على أيدي الديبلوماسيين العراقيين. اليوم، تلاقي محاولة الاحياء هذه رفضاً كويتياً من جهة، وشبه موافقة سعودية شرط عدم ادخال تغيير عليه، حتى بنقطة او فاصلة. تلاقي تردداً من البعض من منطلق فوات الاوان، ومن البعض الآخر نتيجة انحسار الثقة والخوف من الرهان على المواقف العراقية. وعلى الصعيد الدولي، تريد الحكومة العراقية حواراً مع الامين العام ليكون مدخلاً لها للموافقة، بصورة أو بأخرى، على القرار 1284 الذي رفضت التعامل معه لسنتين. تريد ذلك من أجل المساومة على ظروف عودة المفتشين بعدما انذرت واشنطن انه من دون تلك العودة القريبة، فإن العراق على شاشة العزم الاميركي لعمليات عسكرية. فمن خلال صيغة الحوار "بلا شروط او قيود"، ارادت الحكومة العراقية ان تبلغ الاممالمتحدة انها توقفت عن رفض البحث في القرار 1284، بل قد تود العمل على مذكرة تفاهم لتنفيذه كما فعلت بالقرار 986 الذي رفضته لسنوات ثم وافقت عليه مما أسفر عن مذكرة التفاهم المعروفة ب"النفط للغذاء". ارادت ايضاً القول إنها توقفت عن معارضة عودة المفتشين الدوليين من خلال التوقف عن معارضة مشاركة رئيس "انموفيك" هانز بليكس في الحوار مع الامين العام. لكن بغداد في هذا السعي المتأخر سحبت عن نفسها ادوات المشاركة الفاعلة في صنع علاقة متكافئة مع مجلس الامن ومطالبه. فهي تتصرف اليوم تحت وطأة الانذار وبعدما استهلكت الكثير من حسن النية والمحاولات الصادقة لإقناعها بالعدول عن نمط التعنّت والرفض. لذلك، لن يكفي لها فتح نافذة على احتمال الموافقة على عودة المفتشين. انها في حاجة لان تشرع الباب لهذه العودة وبضمانات التعاون التام لتسحب ذريعة توجيه ضربة عسكرية للعراق. وكما تجد القيادة العراقية نفسها في حنين الى القبول بما رفضته بالامس القريب، كذلك السلطة الفلسطينية. فهذه السلطة اليوم تتمنى لو يُعرض عليها ما عُرض عليها منذ سنة تماماً في مفاوضات طابا. الفارق انها اليوم تتعامل مع ارييل شارون، وحظوظ اقناعه بدولة فلسطينية على حدود 1967 ضئيلة. على رغم هذا، يوجد طرح فلسطيني باعتراف متبادل بين اسرائيل وفلسطين بدولتين آمنتين عل اساس القرارين 242 و338 يكون بداية للمفاوضات بدلاً من ان يشكل نهايتها. وتوجد مؤشرات الى امكان توجه الاردن الى القمة العربية في بيروت بفكرة توفير غطاء عربي للالتزام الفلسطيني بحل الدولتين. فالعاهل الاردني شدد لدى الإدارة الاميركية على ضرورة تأمين مشاركة ياسر عرفات في القمة وضمان عودته الى فلسطين كي لا تتحول القمة الى فشل ذريع يؤدي الى تصعيد الاوضاع لدرجة خطيرة. وهو اقترح ايضاً ان تنطلق الصفحة الجديدة من تأكيد الالتزام المتبادل بأمرين هما: قيام دولة فلسطين والاعتراف بأمن اسرائيل على اساس القرارين 242 و338. العمل جارٍ لإقناع الدول العربية بتبني موقف واضح في قمة بيروت يعلن الالتزام بالاعتراف بدولة اسرائيل وأمنها ومكانها في المنطقة، إذا انسحبت من الاراضي العربية المحتلة وعادت الى حدود 4 حزيران يونيو 1967، لتقوم دولة فلسطين داخل الحدود الفلسطينية منها. مبدئياً ومنطقياً، يُفترض ان لا مانع لدى سورية من هذه المعادلة علماً ان مواقفها كانت دائماً متمسكة في الاصرار على الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي السورية الى حدود 4 حزيران 1967 مقابل توقيع معاهدة سلام سورية اسرائيلية. ومن جهة فلسطين اوضح ياسر عرفات انه ملتزم بإنهاء النزاع مع اسرائيل اذا وافقت على هذه الحدود لدولة فلسطين، ولمح الى استعداده لقبول صيغة عملية لتطبيق حق العودة الى اسرائيل بما يتجاوب مع القلق الاسرائيلي من البعد الديموغرافي، كماء جاء في مقالته لصحيفة "نيويورك تايمز". أكثرية الدول العربية طالبت دوماً بتطبيق القرارين 242 و338 كأساس لتسوية شاملة والاعتراف باسرائيل في المنطقة. الاستثناءات تشمل العراق الذي قد يرى لنفسه اليوم فائدة ضخمة اذا ما كان في طليعة الذين يدعمون صدور موقف واضح عن القمة العربية يؤكد الالتزام بالاعتراف باسرائيل بلا تحفظات اذا انسحبت الى حدود 4 حزيران بلا تحفظات. إذا فعلت الدول العربية ذلك فإنها تزيل ذرائع عدة من أيدي الاطراف الاسرائيلية ولربما سحبت البساط من تحت اقدام الحكومة الاسرائيلية. فهذه مواقف ليست جديدة. الجديد في اعلانها في قمة عربية سيكون في ابعاد شبح التكهنات والاتهامات اللئيمة. الجديد سيكون في الاقدام بدلاً من الغرق في جنين آتٍ.